"الزن على الودان أمرّ من السحر" هو مثل
مصري معروف، يؤمن بأن كثرة تكرار الأمر على آذن الشخص سيؤدي إلى إقناعه به في النهاية، وقد آمنت الشركة "المتحدة للخدمات الإعلامية UMS" وفرعها في قطاع الإنتاج السينمائي والتليفزيوني "سينرجي" بذلك المثل، في تقديم سردية نظام السيسي عن نفسه.
منذ استحواذ "سينرجي" في العام 2017 على منافذ الإنتاج السينمائي والتليفزيوني في مصر، فإنها أنتجت الكثير من الأعمال التي تمجد بطولات
الجيش المصري والشرطة المصرية والمخابرات مثل: "الخلية، والممر، وحرب كرموز، وكلبش 1-2، والعائدون، والقاهرة كابول، وهجمة مرتدة، والاختيار 1-2-3".
وفي
رمضان 2023 قدمت مسلسل "الكتيبة 101" من بطولة آسر ياسين، عمرو يوسف، وفاء عامر، ومسلسل "حرب" أي أن 13 عملًا متنوعًا بين السينما والتليفزيون هي حصيلة الإنتاج الذي يمكننا أن نسميه "عسكريا" في 6 سنوات فقط.
كان الغرض من وراء ذلك الإنتاج الكثيف لمسلسلات عن الجيش المصري والشرطة المصرية والمخابرات المصرية هو إعادة تأسيس سردية بطولات تلك المؤسسات والتي شُرخت صورتها بشكل كبير في أعقاب ثورة يناير والتي فضحت الكثير من جرائمهم وفسادهم.
ودومًا ما تستطيع "سينرجي" حشد نجوم الصف الأول في الوسط الفني لأعمالها، ورصد ميزانية مفتوحة لصانع العمل من أجل إخراجه بصورة تقنية فائقة الجودة، وتصميم معارك عصري، مع إتاحة ترخيص التصوير في كل مواقع البلاد، وفتح الأرشيف العسكري لصانع العمل، وكل تلك الصلاحيات التي تعطيها "سينرجي" لصانع العمل العسكري ذاك، كان يجعل منه قادرًا أن يكون متفوقًا في المنافسة بشكل كبير عن الأفلام والمسلسلات الأخرى، ولكن أكد رمضان 2023م أن تلك السردية ما عادت تسمن ولا تغني من جوع، لتؤكد على الفشل المؤجل من رمضان 2022م والذي سنحاول مناقشته.
"الاختيار" حتى الملل
درة التاج في أعمال "سينرجي" كان الاختيار في جزءه الأول عام 2020م الذي قدم سردًا دراميًا متقاطعًا مع الأرشيف التسجيلي لهجوم "كمين البرث" وتتبع شخصيات المقدم "أحمد المنسي" الذي قدم دوره الممثل أمير كرارة الذي أصبح أيقونة في الشارع المصري بسبب المسلسل، وعدوه في المسلسل وفي الواقع "هشام عشماوي" الذي قدم دوره الممثل أحمد العوضي.
نجح الاختيار في الجزء الأول في أن يرسخ الصورة الذهنية التي حاول فيها نظام السيسي دومًا عن ضباط الجيش وبطولاته التي لا يعلم المصريون عنها شيئًا في سيناء، فكان دومًا يدعي أن قواته تخوض حربًا يومية في سيناء لا يعلم عنها أهل المدن شيئًا، لذلك هم لا يقُدرون حجم الخطر الذي يحدق بمصر.
ولأن القصة ارتكزت بالأساس على محاربة تنظيم الدولة، ولم تشتبك سياسيًا بشكل فج مع جماعة الإخوان المسلمين، أو تتشدق باسم "السيسي" بمناسبة أو دون مناسبة، استطاع المسلسل أن يكون محايدًا لموقف الجمهور بشكل كبير، واستقطب عددا كبير من الجماهير إلى صف سردية القوات المسلحة في بطولاتها عن نفسها، وبالتوازي مع الاختيار الجزء الأول، كان نظام السيسي يتفاخر بقوة حكومته في مواجهة كورونا، وقدرته على العبور بالاقتصاد المصري من خطر تلك الجائحة، وكانت الحكومة بالفعل تصرف مبالغ مالية كمعونات للأسر المتضررة من الجائحة بسبب تعطل العمل، وكان الاقتصاد المصري بحد ذاته يشهد حالة من النمو والاستقرار.
استثمرت "سينرجي" في ذلك النجاح، وقدمت الجزء الثاني من "الاختيار" الذي اشتبك مع الإسلام السياسي بشكل مباشر، وعرض لمجزرة فض رابعة، ولمجزرة كرداسة، مما كان إدانة شبه كاملة لنظام الإخوان المسلمين وجماعته، وهو ما جعل ذلك الجزء مثيرًا للجدل بشكل كبير، وخسر تعاطف قطاع كبير من الجمهور الذي رأى فيه أنه يحاول التأريخ بوجهة نظر المنتصر، ولكن لم يؤمن نظام السيسي أنه بالفعل كان قد بدء يخسر شعبية المسلسل منذ ذلك الجزء، فصنع الجزء الثالث من "الاختيار" وفي تلك المرة بطولة السيسي ومحمد مرسي شخصيًا، وكانت تلك المرة الأولى في التاريخ المصري الذي تُجسد فيه شخصية الرئيس وهو على قيد الحياة، ولم يلق "الاختيار" في جزئه الثالث أي نجاح وإشادة من الجانب النقدي، ولكنه حقق زخمًا ومشاهدة كثيرة بسبب الفضول تجاه عرض شخصية السيسي، والتسجيلات المصورة لكوادر الجماعة الإسلامية والتي كانت تُعرض مع نهاية كل حلقة فيما سُمي بمحاولة "أخونة السيسي" ومقاومته لتلك الأخونة.
في العام 2022م ذاته، كانت مبررات الفشل لـ"الاختيار" والجوقة الوطنية الزاعقة موجودة، فنظام السيسي الذي كان يستمد شرعيته من الحرب على الإرهاب، كان قد أعلن أن الأمور في مصر استقرت كثيرًا وسيناء بالكامل أصبحت تحت سيطرة الجيش، وكان الوعد الأكبر بعد القضاء على الإرهاب لنظام السيسي، هو النهضة الاقتصادية ومشاريعها مثل حصاد 2016، ومشروع 2030 والمشاريع العملاقة التي يمجدها النظام، ولكن على الأرض، كان الاقتصاد المصري يتداعى، فقد أثبتت الحرب الأوكرانية الروسية حينما اندلعت، أن مصر لم تعبر من جائحة الكورونا سالمة، وجاءت الحرب لتُعري الحالة الاقتصادية لمصر بشكل كامل، وقد ظلت تلك الحالة تتفاقم في كارثيتها وصولًا إلى العام 2023م.
"نريد مسلسلًا عن الخبز"
سئم المشاهد سردية السيسي، ولجوئه إلى تجديد شرعيته بالحرب على الإرهاب التي أصبحت مجرد فزاعة تداري الفشل الاقتصادي المزري، وكان الرد قاسيًا على "سينرجي" في مسلسليها هذا العام 2023م وهو العام الأسوء اقتصاديًا لمصر منذ وقت طويل، بأن عزفوا عن مشاهدة مسلسلات الجيش وبطولاته بعدما تبين لهم الكثير من المواقف.
نظرة سريعة على أرقام مشاهدات مقاطع "الاختيار 1" على يوتيوب، ومشاهدات مقاطع " كتيبة 101" أو مسلسل "حرب" ستعطي صورة عن حالة السأم التي يعانيها المواطن تجاه تلك البروباجندا الزاعقة، ففضلًا عن فشل المسلسلين مقارنة بـ"الاختيار 1"، فإنهم فشلوا في سباقهم الرمضاني، فمنصة "Watchit" التي تذيع المسلسلين لا تستطيع مداراة هذا الفشل بأرقام زائفة عن مشاهداتها، فالمسلسلان خارجان من قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة في رمضان الحالي، لصالح مسلسلات أخرى منها ما هو تافه وساذج، ولكنه أكثر قيمة للمصري الذي يعاني من الكذب عليه بتلك البروباجندا التي لا طائل من ورائها سوى صرف ملايين الجنيهات على إنتاجها، كأي أموال بددت في مشروع ليس ذو قيمة من مشاريع السيسي.
لقد كشف العام الصعب الذي مر به الاقتصاد المصري عن أزمة حقيقية للجيش المصري وعلاقته بالاقتصاد المصري، فلقد تراجعت صورة الجيش مرة أخرى حينما تبين للمصريين من خلال ضغوط البنك الدولي ودول الخليج من أجل إقراض مصر في إبعاد الجيش وتحييده عن الاقتصاد الذي احتكره بالكامل لصالحه، فلقد أصبحت المؤسسة بدلًا من أن تكون في دور البطولة، مسئولة عن الوضع الكارثي للاقتصاد المصري.
يكشف رمضان 2023م لنظام السيسي الموقع الحقيقي لشعبيته وشرعيته لدى الشارع المصري الآن، الذي بدأ في العزوف عن إنتاجات الدولة لأبطالها الرسميين، بسبب ما تمتلئ به مسلسلاتها من التلقين السياسي الكاريكاتوري، والاستمرار بتصوير الضباط ملائكيين بشكل كامل وزاهدين في كل شيء من أجل الوطن، رغم أن الشعب كان فطن لتلك الحركة منذ "الاختيار 2"، وسخر منها كثيرًا، ولكن أحدًا من كتاب المُسلسل، لم ينتبه إلى ذلك الأمر وأصر أن يستخف بعقلية المشاهد، فاستخف المشاهد بعمله ككل ولم يراه.
يتعرض الخطاب الوطني في
الدراما الرمضانية و"أيقنة" بطولات الجيش المصري وأفراده لهزيمة ساحقة على يد "جعفر العمدة" شخصية مسلسل محمد رمضان والذي يجسد كل ما تعنيه حالة غياب مؤسسات الدولة، وتنظيم المجتمع أهليًا تمامًا، وبدائيًا فطريًا تمامًا، وقد ساعد أيضًا على فشل الخطاب الوطني في الدراما أن المصريين أصبحوا في حاجة إلى جيش يحارب الغلاء والفشل الاقتصادي، لا إلى استعادة قصص ووقائع من الماضي وتقديمها من جديد لتجديد شرعية النظام، التي أصبحت في مأزق.