قضايا وآراء

العشرية السوداء.. جمهورية "الإخفاء" (11)

حمزة زوبع
عربي21
عربي21
لم يدر بخلد أحد منا وهو يشاهد الفنان المصري عبد المنعم إبراهيم يلبس غطاء رأس (طاقية) سميت باسم طاقية الإخفاء، أي أن من يلبسها تختفي صورته ويظهر صوته، أن ذلك المشهد سيتكرر في الواقع المصري الأليم ولسنوات منذ انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013 وحتى اليوم.

الفيلم كوميدي ولكن الدلالة في كون أن صاحب الفكرة كان يريد استخدامها في الخير، ولكن جاء شرير (توفيق الدقن) وخطف الطاقية ليستخدمها في أعمال الشر وهو ما جرى على أرض الواقع لاحقا.

فكرة اختفاء شخص فجأة وعدم معرفة مكانه ولا إن كان على قيد الحياة أم مات، هي فكرة مرعبة في حد ذاتها، خصوصا أن الجميع يعلمون من الذي اختطفه وكيف اختطفه ومن أين اختطفه وماذا قال لذويه وهو يختطفه على مرأى ومسمع منهم؛ وربما على مرأى ومسمع من الجيران الذين وبطبيعة الحال قد هالهم مشهد القوة المسلحة التي حاصرت المكان وأدخلت الرعب في قلوب سكان الحي بأكمله.

مشاهد الخطف والإخفاء هذه كنا نسمع عنها ونشاهدها في أفلام المافيا وعصابات الكاوبوي والجريمة المنظمة التي تقوم بخطف بعض الأثرياء أو الخصوم والمنافسين والمطالبة بفدية أو ذبحهم ليكونوا عبرة أو من باب الانتقام منهم ومن ذويهم، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك هو اختطاف وقتل الزعيم الإيطالي "ألدو مورو" في آذار/ مارس 1978 على يد عصابة تدعى "الألوية الحمراء"، وعُثر على جثته في صندوق إحدى السيارات في العاصمة الإيطالية روما. المثير في القصة أن "ألدو مورو" تم اختطافه أثناء مرور موكبه الرسمي وعلى مرأى ومسمع من المواطنين والحراسات المشددة عليه. كان ذلك في وقت تعاني فيه إيطاليا من انتشار الفساد في الأجهزة الحكومية والجهاز القضائي للدولة، وساهم انتشار الفساد في انتشار الجريمة السياسية والجرائم الاجتماعية المنظمة.

في مصر اختفى كثيرون في الحقبة الناصرية، وقد التقيت في نهاية الثمانينيات أو بداية التسعينيات بأحد الدعاة المصريين (أظن أن اسمه الشيخ المحروقي) الذين كانوا رهائن عند النظام، وكان النظام يعلن عن اختفائهم في الصحف ويطالب الشعب بمساعدته في القبض عليهم، وكيف أنه أُخذ من محبسه مع مجموعة في أجولة مصنوعة من الخيش، وبعد وجبة تعذيب ظن الجلادون أنهم قد ماتوا فحملوهم إلى الصحراء (حينئذ) في مدينة نصر عند منطقة استاد القاهرة، ولما همّ الشاويش (الشرطي) أن يرميه إذا به يسمع حشرجة صوت الداعية يطالب خاطفه بقليل من الماء، فما كان من الشاويش إلا أن قال له يا ابن الكلب أنت لسه صاحي (حي)؟ هاعمل فيك إيه دلوقتي؟ فلما كشف عنه الغطاء قال له اتركني وقل إنك دفنتني، وبالفعل تركه ليهرب متخفيا داخل الوطن لسنوات، قبل أن يفر لاجئا إلى أمريكا الشمالية ويستقر به المقام في كندا ويصبح شيخا للمسلمين في المقاطعة التي يعيش فيها.

مر زمن على البشرية توقف خلاله الحديث عن الإخفاء القسري حتى عاد من جديد على يد عصابة الانقلاب في مصر 2013، وكان النظام ينفي في البداية وجود مختفين قسريا وكان يعتبر أن هذه التسمية من بنات أفكار المناوئين للنظام وخصوصا الإخوان المسلمين

عالميا عُرف الإخفاء القسري في الأرجنتين زمن الجنرال "خورخي فيديلا"، الحاكم العسكري لدولة الأرجنتين (1976-1981). وقد شهدت الأرجنتين في عهده أسوأ عصور انتهاك حقوق الإنسان وعرفت هذه الحقبة بـ"الحرب القذرة"، إذ اعتقل ونكّل وقتل حوالي ثلاثين ألف مواطن بعد أن أخفاهم قسريا لأسابيع وشهور، ودفنهم في أماكن مجهولة، ولكن بمرور الوقت تبين أن النظام كان يخفي المعتقلين في سراديب تحت مقر وزارة الداخلية ويتركهم حتى الموت، ولما سئل الجنرال عن المختفين قسريا بعد ضغوط ومظاهرات قامت بها أمهات المختفين أثناء مباريات كأس العالم التي أجريت في الأرجنتين من أجل غسل سمعة الجنرال، قال ساخرا "مختفون يعني مختفون، يعني ليسوا أحياء ولا أمواتا إنهم مختفون..".

مر زمن على البشرية توقف خلاله الحديث عن الإخفاء القسري حتى عاد من جديد على يد عصابة الانقلاب في مصر 2013، وكان النظام ينفي في البداية وجود مختفين قسريا وكان يعتبر أن هذه التسمية من بنات أفكار المناوئين للنظام وخصوصا الإخوان المسلمين. وهنا أذكر تصريح مساعد وزير الداخلية المصري لحقوق الإنسان اللواء صلاح فؤاد في عام 2015، الذي جاء فيه: "أقولها متحديا لا مبررا أو موضحا، وبكل ثقة، لا يوجد اختفاء قسري في مصر لأي شخص". ثم تدرج النظام وأماط اللثام عن وجود أشخاص معتقلين لم يُعرضوا على النيابة بعد، ولذلك فهم بالنسبة للنظام ليسوا مختفين إنما مشتبه بهم قيد الاعتقال لحين أن يقرر النظام مصيرهم، ومن هؤلاء من قضى سبع وثماني سنوات ومنهم من أعلن عن ظهوره أمام النيابة ليتم تجديد حبسه لسنوات دون سقف ولو حتى سقف القانون والدستور الذي كتبوه بأيديهم في 2014.

ارتفعت معدلات الإخفاء القسري في الأعوام الثلاثة التالية للانقلاب وتمت تصفية الآلاف من المختفين قسريا، وكانت وزارة الداخلية وتحت الضغط الهائل للكشف عن مصير المختفين تزعم أن بعضهم اختفى بسبب انضمامه إلى داعش أو قتل في سوريا أو اختفوا بسبب قصص حب غرامية (راجع تصريحات وزير شؤون مجلس النواب)، وأن البعض الآخر قتل في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة في عمليات مكافحة الإرهاب. واشتهرت الصور المنشورة لبعض من تمت تصفيتهم وبجوارهم أسلحة ومفرقعات وتبين أنهم تمت تصفيتهم قبل نقلهم للتصوير على أنهم سقطوا في عمليات مكافحة الإرهاب.

ارتفعت معدلات الإخفاء القسري في الأعوام الثلاثة التالية للانقلاب وتمت تصفية الآلاف من المتخفين قسريا، وكانت وزارة الداخلية وتحت الضغط الهائل للكشف عن مصير المختفين تزعم أن بعضهم اختفى بسبب انضمامه إلى داعش أو قتل في سوريا أو اختفوا بسبب قصص حب غرامية (راجع تصريحات وزير شؤون مجلس النواب)، وأن البعض الآخر قتل في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة في عمليات مكافحة الإرهاب

وهنا نعود لقصة أحد الناجين من التصفية بعد اختفاء قسري كاد أن يقتل بعده لولا لطف الله به، وقد نشر موقع "عربي21" القصة تحت عنوان "الناجي الوحيد" بتاريخ 16 كانون الأول/ ديسمبر 2016. وكان من بين ما قاله الناجي الذي كتبت له الحياة من بين أنياب سلطة لا تعرف الرحمة وتدمن الكذب:

"وقال لـ"عربي21" إنه تم اعتقاله من إحدى الشقق بعد مراقبة اتصالاته لمعرفة المكان الذي يختبئ فيه، حيث كان مطلوبا على ذمة العديد من القضايا، وبعدها تعرض لتعذيب شديد لعدة أيام في أحد المقرات الأمنية حتى يعترف بارتكاب عمليات تفجير واغتيال لا يعرف عنها شيئا، وبالفعل اعترف بكل الجرائم حتى يتخلص من التعذيب، فتوقف التعذيب وبقي رهن الاعتقال لأكثر من أسبوعين. وفي أحد الأيام؛ فوجئ برجال الأمن يقتادونه وهو معصوب العينين، واصطحبوه إلى أحد المنازل ويده مقيدة في يد أحد أمناء الشرطة، حتى لا يتمكن من الهرب، وبمجرد دخوله سمع دوي انفجار هائل لمتفجرات كانت معدة؛ ليتم تصويرها لاحقا وكأنها مضبوطات وجدت في هذا "الوكر"، إلا أنها انفجرت عن طريق الخطأ، ودمرت أجزاء كبيرة من المنزل، ما أدى إلى إصابته بجروح، ومصرع عدد من رجال الشرطة، ومن بينهم الرجل المقيد في يديه. وأضاف (م. ف) أنه عندما رفع العصابة من فوق عينيه؛ رأى حالة الفوضى العارمة التي سادت المكان، فاستغل الموقف وأخرج مفتاح القيود من ملابس أمين الشرطة المقيد في يديه، وفك قيوده وهرب من المكان وسط عشرات من الأهالي، ليكتب له عمر جديد".

هذه قصة من بين آلاف القصص الدرامية التي تستحق أن تكون جزءا أو أجزاء من فيلم أو مسلسل يحمل نفس العنوان (جمهورية الإخفاء).

يمكنكم الاطلاع على مزيد من تلك القصص في تقرير لموقع أريج الاستقصائي بعنوان "وراء الشمس"، وحسب الدراسة المشار إليها فالاعتقال الذي يسبق الإخفاء القسري عادة ما يتم في الشارع وفي الكمائن وفي المطارات ومن مقر العمل وفي مقار الأمن، بعد استدعاء للشخص الذي سوف يختفي إما إلى الأبد أو لحين ظهوره أمام النيابة.

على المستوى الشخصي فقد تعرض أخي الأصغر علاء زوبع (59 سنة) للاختفاء القسري في 19 أيلول/ سبتمبر 2019، قبل يوم من المظاهرات التي دعا لها المقاول والناشط السياسي محمد علي، والقصة كانت على النحو التالي:

اصطفت سيارات الشرطة أمام العمارة التي يسكن فيها أخي في القاهرة الجديدة، وانتشرت قوات الأمن على سلالم العمارة ومنعوا الأهالي من الصعود أو النزول وطالبوهم بالتزام الصمت والدخول إلى شققهم، ثم طرقوا باب غرفة نوم أخي فوجدوه على سريره، فجلس أحد الضباط على السرير وقال له لا تقلق الموضوع بسيط، تعال معنا ساعتين وسترجع إن شاء الله، فلما وجد الضابط الحالة النفسية لأخي لا تسمح أخرج بقية القوة من الغرفة وطالبهم بتفتيش الشقة وجمع كل ما يمكن جمعه من أوراق ومستندات وجوازات سفر، وأفهمَ أخي أن الأمر متعلق بي أنا شخصيا (حمزة زوبع) لأنني أسبب متاعب للنظام. وأصر الضابط على اصطحاب أخي من دون أن يبدل ملابسه ولا أن يحمل معه دواءه الذي يتعاطاه من سنوات ولا سمح له بلبس حذاء، زاعما أن المسألة بسيطة. وبالطبع وأمام هذه الحالة الحربية والقوات المتعددة الأحجام انصاع أخي ونزل مع القوة المسلحة وانقطع الاتصال به لستة أشهر متواصلة، حاولت أسرته فعل أي شيء وكل شيء لمعرفة مكانه ولكن لا جديد يذكر ولا قديم يعاد، ومن تأخذه الدولة لا يعيده إلا الله كما يقول المثل المصري.

في فترة الاختفاء كانت تصل إلى الأسرة بعض المكالمات لتطمئن زوجته أنه بخير حتى جاء يوم واتصل أحدهم قائلا إن علاء محتجز في مكان ما في العباسية (منطقة في شرق القاهرة)، وأن المتصل كان معه في مكان اختفائه وقد أُطلق سراحه. وكانت هذه المكالمة خبرا سارا في حد ذاته لأنها تعني أن علاء لا يزال على قيد الحياة، ثم انقطعت الأخبار لفترة حتى أُعلن عن طريق بعض المحامين أنه ظهر أمام نيابة التجمع الخامس وأن قرارا بتمديد حبسه لـ15 يوما قد اتخذ وأنه محتجز في قسم أول القاهرة الجديدة، وتم توكيل محام واثنين للدفاع عن علاء الذي كانت كل تهمته أنه أخو حمزة زوبع، وبعد عدة مرات عُرض فيها على النيابة قررت الإفراج عنه. ولهذا الإفراج قصة سأحكيها في بزنس الاعتقالات لأنه عالم منفصل بذاته ومرتبط بفساد المنظومة الأمنية والعدلية، إن صحت تسميتها بالعدلية.

المفاجأة أنه وعوضا عن تنفيذ قرار الإفراج المكلف ماديا جدا تم إخفاء علاء زوبع من مقر الشرطة القريب من بيته، ولم نعلم عنه شيئا حتى ظهر بعد ذلك في قسم شرطة الشروق على ذمة قضية جديدة!!

وتم تكليف محام آخر وقام بالمرافعة وحصل علاء على قرار بإخلاء سبيله وغرامة 5 آلاف جنيه تم دفعها، ثم تم تغييب علاء مرة ثالثة لنكتشف أنه تم نقله إلى سجن طرة في تحقيقات على ذمة قضية ثالثة. ومنذ ثلاث سنوات وهو محبوس احتياطيا على ذمة هذه القضية، وقد تجاوز سنوات الحبس الاحتياطي التي نص عليها قانون الانقلاب نفسه.

ليس أخي علاء هو الحالة الوحيدة وإن كان الأقرب نسبا لي، فهو أخي الوحيد وعضدي وسندي في الحياة بعد وفاة أمي وأبي، ولكن على مستوى الأقارب هنالك قصص مشابهة لأناس اختطفوا من مقار عملهم منذ سبع سنوات ولا تزال الشرطة تدق أبواب منازلهم لتسأل عنهم مدعية أنهم هاربون من العدالة، وهم مختطفون أمام أعين زملائهم في العمل. والعجيب أن بعض هؤلاء المختطفين قد تم اختطفاف بعض أولادهم وأزواج بناتهم لشهور، ولكن الحمد لله تم اكتشاف أماكن اعتقال بعضهم مؤخرا.

حسب تعريف الأمم المتحدة - مفوضية حقوق الإنسان "يُقصَد بالاختفاء القسري الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون" (المادة 2 والديباجة من الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري).

تشبه التجربة المصرية الخبرة الأرجنتينية من حيث تشابه النظامين وحتى تشابه المفردات والإجراءات وربما الأعداد المتقاربة، وإن كنا في مصر لا نعلم على وجه الدقة الأعداد الصحيحة للمختفين قسريا ومن منهم على قيد الحياة ومن لقي حتفه ولا يعلم أهله عنه شيئا

تشبه التجربة المصرية الخبرة الأرجنتينية من حيث تشابه النظامين وحتى تشابه المفردات والإجراءات وربما الأعداد المتقاربة، وإن كنا في مصر لا نعلم على وجه الدقة الأعداد الصحيحة للمختفين قسريا ومن منهم على قيد الحياة ومن لقي حتفه ولا يعلم أهله عنه شيئا، لكن تقريرا لمركز الشهاب لحقوق الإنسان يشير إلى رصد يقرب من 15 ألف حالة اختفاء قسري في مصر حتى 2022، وجاء في التقرير السنوي للمركز بمناسبة اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري والذي نشر في بعض الصحف والمواقع المحجوبة في مصر: "يأتي هذا اليوم وجريمة الاختفاء القسري في مصر أصبحت أمرا ممنهجا وسياسة متبعة من قبل الأجهزة الأمنية؛ يقع على كافة شرائح المجتمع من المعارضين السياسيين بصورة تحميها ممارسات تشريعية وقضائية لا تلتزم ولا تحترم الدستور المصري والقوانين الوطنية المعنية. هذا الواقع الذي شمل كافة فئات وشرائح المجتمع المصري وصل لأكثر من 15089 حالة اختفاء قسري منذ تموز/ يوليو 2013 وحتى 2022"، علما بأن المركز ذاته قد نشر في تقريره للعام السابق -2021- أن أعداد المختفين قسريا زادت عن 12 ألف حالة، ما يعني أن سياسة الاختفاء القسري ما زالت مستمرة وأن معدلاتها مرتفعة؛ بدليل الزيادة الحاصلة والتي تقدر بحوالي 25 في المئة ما بين عامي 2021-2022، ولا يزال العد مستمرا للأسف.

في التجربة المصرية وبعد المجازر التي ارتكبت بفعل فاعل وعن سوء نية وقصد، يعتبر الاختفاء القسري أحد أبرز سمات العشرية السوداء التي بدأت مع الانقلاب ويحاولون تغيير اسمها بهتانا وزورا إلى الجمهورية الجديدة، بينما هي في الحقيقة "جمهورية الإخفاء".

في المقال القادم إن شاء الله سنتناول موضوع السجون في عصر الجنرالات وكيف تحولت مصر إلى "مملكة السجون".
التعليقات (0)