عُرِفَ الرئيس
المخلوع الراحل محمد
حسني مبارك بالعزيمة والمثابرة لكن بوجهيهما السلبي، استلم
وطناً يعاني فتعمد أن يجعله يظل في منطقة الـ"بين.. بين"، فلا هو بالذي
يتعافى أو تُحجّم مشكلاته. عرف الوطن في عهده الانحدار وتتابع الأزمات الحادة، دون
حاجة للدخول في حرب مباشرة، تعمّد ألا يكون صاحب تجربة ديمقراطية حقيقية أو حتى
شبه ديمقراطية. وعد فور توليه الحكم في تشرين الأول/ أكتوبر 1981م بالكثير لعل
أبرزه ألا يظل في السلطة أكثر من مدتين رئاسيتين أي 12 عاماً فظل نحو 30 سنة،
وألَّا يسمح بفساد لأن "الكفن ليس له جيوب"، ثم ما لبث أن كشفت الأيام
عن حقيقة مفجعة بثروة تزيد عن 70 ملياراً فضلاً عن التسبب بإنهاء حياة كثير من
المصريين إهمالاً وتسيباً وانحداراً في القيم والخدمات.
لم يكن بصاحب
تاريخ أو دراية بالسياسة حتى استدعاه
السادات عام 1975م، بل كان قبلها مجرد خريج في
الكلية الحربية عام 1948م، والجوية بعدها بعامين، وشاءت له الأقدار أن يقود القوات
الجوية في حرب 6 أكتوبر المجيدة، ولما استدعاه السادات كانت أقصى أمانيه أن يعينه
سفيراً لمصر في إحدى الدول الأجنبية، لكن السادات رأى فيه نائباً له لا يُحسن
الانقلاب عليه. فهو لا يملك أدنى مقومات التدرج السياسي، ولذلك تعمّد أن يستدعي
مستشاره السياسي أسامة الباز ويقول له بلهجة ساخرة: "معاك حسني مبارك لا يفهم
حاجة واصل (من الأساس للآن)، أريدك أن تفهمه وتنجره (تدفعه لتحمل المسؤولية)"،
بل ويزيد الراحل نائب رئيس الوزراء الأسبق يحيي الجمل بأن السادات أوصى الباز بصرف
عدة آلاف من الجنيهات له ليعتني بمظهره و"يشتري كم بذلة جديدة تليق
بالمنصب".
كان يحلو للسادات
القول إنه وعبد الناصر آخر الفراعنة، لذلك يجب عليه أن يتخذ من السياسات والقوانين
ما يحمي البلد حتى بعد وفاته، فيما كان مبارك يفتعل النوم في خطابات السادات
الطويلة التي يتبسط فيها أحياناً بلا أوراق، وينقل التلفزيون مباشرة صورة النائب
النائم ليطمئن النظام آنذاك أن مبارك لا يحمل أدنى خطورة عليه. لكن أقصى ما يمكن
أن يحمله إنسان من شرور هو استدعاء عداواته الشخصية، أو ما يُخيّل إليه أنها
عداوات للانتقام من وجه الوطن كله، ولهذا أثيرت مقولات وعلامات استفهام حول سفر
مبارك منفرداً للولايات المتحدة قبيل اغتيال السادات بفترة وجيزة، ثم علم الأخير
بالأمر وتهيئته الأجواء لمنصور حسين، وزير شؤون الرئاسة والإعلام، لتولي المنصب
وسط أجواء حادة من اعتراض أمريكي على تصاعد الأحداث السياسية في مصر من اعتقالات 5
أيلول/ سبتمبر التي لم تُبق على طرف من أطياف الحياة السياسية، أيضاً انفلات أعصاب
السادات المتكرر حتى أنه هدد صحفياً أمريكياً لما سأله: هل أخذت رأي الرئيس
الأمريكي ريجان قبل قرار الاعتقالات، فأجابه: "لو لم تكن في بلد ديمقراطي
لسحبت مسدسي وأطلقت الرصاص فوراً على رأسك"!
لم يتم القطع حتى
اليوم بوجود دور لمبارك باغتيال السادات، لكن النسخة الإنجليزية من كتاب
"سيدة من مصر" للراحلة السيدة جيهان السادات ذكرت فيها أنها استدعت
نجلها الطبيب جمال ليدخل معها المشرحة ليعاين جثمان أبيه بدقة، رغم قسوة الموقف
عليه، لأنها أرادت التأكد من أن الرصاصة التي قتلته لم تنطلق من الخلف (أي من
المنصة)، وهو ما نشرته الصحف الحكومية وقتها بتعليق يبدو غريباً وصريحاً، إذ كان يُفتتحُ
بـ"عيب" أن تنشري مثل هذا الكلام في الخارج على رئيس مصر الآن!
تعمد مبارك لثلاثة
عقود وضع الرجل غير المناسب في المكان الذي يستدعي الكفاءات، فكما استبعد وحارب
سعد الدين الشاذلي وأحمد الجمسي على الصعيد العسكري، أوقف الحياة المهنية لوزير
الداخلية الأسبق أحمد رشدي ووزير الخارجية عمرو موسى لاحقاً لما وجد لهم شعبية
جارفة. ولا ينسى جيل المصريين الذي كان منتبهاً واعياً في التسعينيات من القرن
الماضي أن أغنية المطرب الشعبي الراحل شعبان عبد الرحيم: "أنا بأكره إسرائيل
وبحب عمرو موسى"، أقالت الأخير وذهبت به لأمانة جامعة الدول العربية، وهكذا
كان يحكم الوطن بجميع مفاصله!
ومن طريف ما يروى
عن محاولة سيطرته على بر مصر أن يوم ميلاده (4 أيار/ مايو 1928م) كان يوافق نفس
اليوم والشهر الذي وُلِدَ فيه الراحل الموسيقار محمد عبد الوهاب فأمره ألا يحتفل فيه،
لئلا ينازعه الاحتفال بمولده أحد في مصر، وتمادى الأمر به حتى أن الإعلامي الراحل
مفيد فوزي لما سأله عن أبيه وأمه فقال ببساطة: "لا تحدثني في هذا
الموضوع"، فقال فوزي محاولاً التقهقر: "يعني أقفل بؤي (فمي) خالص؟!"،
فرد عليه مبارك بتصميم عجيب أمام المستقر من افتخار أمثاله بآبائهم وأمهاتهم، بل
كان السادات يذهب في يوم مولده لقريته ميت أبو الكوم محتفلاً ومستدعياً أجهزة
الدولة ومنها الإعلام، فقال مبارك الذي لم يذهب لقريته كفر مصيلحة في نفس المحافظة
(المنوفية) مرة واحدة أثناء توليه الرئاسة، عن والديه: "ناس ماتت
نسيبهم في حالهم"!
وهكذا تطورت عملقة
الذات للإجابة عن سؤال عن متابعته ما يحدث بمصر لإجابته المتهكمة غير المسبوقة قرب
نهاية حكمه: "هو أنا هأفر (أتابع بدقة) كل ما يحدث بالبلد؟! يا راجل كبّر مخك!"،
وهي إجابة توحي بالتهرب من المسؤولية وتغري المسؤولين من بعده بالاستهتار.
ولما تم تزوير
آخر انتخابات نيابية ليستبعد جميع المعارضين في 2010م، بعد أن نالوا مكاناً مميزاً
في سابقتها، وأنشأ المستبعدون برلماناً موازياً، وسُئِلَ عن ذلك بخطاب قبل سقوطه
بأشهر قليلة فأجاب بتهكم وثقة مبالغ فيهما: "خليهم يتسلوا!".
ويبقى دخوله
المحكمة بعد إسقاطه محمولاً على نقالة خاصة بالمرضى المشلولين أحد أعجب غرائبه،
فالرجل الذي حكم لمدة 30 عاماً يدعي أنه لا يستطيع الوقوف لمواجهة الاتهامات، وإن
لم يعفه هذا من حكم بالمؤبد في 2 حزيران/ يونيو 2012م، بعد أن كان يجيب على القاضي
لما يستفسر عن حضوره فيقول "حاضر يا أفندم"، ثم ينكر تهمة الأمر بقتل
المتظاهرين بـ25 يناير، فلما جاء الجنرال عبد الفتاح السيسي، وحتى قبل أن يبرئه
القضاء عقبها في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014م ونجليه وآخرين، دأب السيسي على
زيارته في المستشفى ومن بابه الخلفي لاستشارته في كيفية استقرار كرسيه.
عاش مبارك -إذن-
صعب المراس، يتحالف حتى مع الشيطان كما قال بنفسه، لكن ليس لمصلحة بلده بل لمصلحته
الخاصة.
في 25 من شباط/ فبراير
الماضي حلت الذكرى الثالثة لوفاة مبارك الذي حرص على الإبقاء على منصبه ضد رغبة
الملايين، فلما أزيح عنه حرص على راحته الشخصية وتنعمه حتى اليوم الأخير من حياته،
لكن ليذكره التاريخ والمنصفون بما لا يسر بحياة أو ممات، فهل يتعظ الطغاة؟!