منذ الإعلان الأمريكي عن مقتل زعيم
تنظيم القاعدة أيمن
الظواهري في كابول العام الماضي، التزم تنظيم القاعدة الصمت، ولم يصدر عن مؤسسة
"السحاب" الإعلامية التابعة للقاعدة أي بيانات
تؤكد خبر اغتيال الظواهري
أو تنفيه، ولا تزال حركة طالبان متمسكة بروايتها المنكرة لوجود الظواهري أصلاً في
أفغانستان، وعندما أكدت الولايات المتحدة أن الزعيم الجديد للقاعدة هو
سيف العدل
الموجود في
إيران، نفت طهران وجود العدل أصلاً على أراضيها.
ومن الجلي أن
الروايات المتضاربة حول مقتل الظواهري وتعيين العدل خلفاً له، تقع في سياق محاولة
كافة الأطراف استثمار الحدث سياسياً من خلال مسألة "الإرهاب"، فالولايات
المتحدة الأمريكية تريد أن تؤكد على الصلات والروابط بين
حكومة طالبان في
أفغانستان وحكومة رئيسي في إيران بتنظيم "القاعدة"، بينما تحاول كابول
وطهران نفي أي صلة بتنظيم القاعدة والإرهاب.
الروايات المتضاربة حول مقتل الظواهري وتعيين العدل خلفاً له، تقع في سياق محاولة كافة الأطراف استثمار الحدث سياسياً من خلال مسألة "الإرهاب"، فالولايات المتحدة الأمريكية تريد أن تؤكد على الصلات والروابط بين حكومة طالبان في أفغانستان وحكومة رئيسي في إيران بتنظيم "القاعدة"، بينما تحاول كابول وطهران نفي أي صلة بتنظيم القاعدة والإرهاب
منذ نحو ثلاث
سنوات تراجع الاهتمام العالمي بملف الجهادية العالمية الموسومة بالإرهاب، مع صعود أهمية
ودور التنافسات الجيوسياسية بين الدول. وقد دشنت جائحة كورونا ثم الحرب الروسية
الأوكرانية تبدل الأولويات الاستراتيجية الدولية، حيث عمدت الولايات المتحدة
الأمريكية إلى التركيز على مواجهة القوى الدولية الصاعدة وفي مقدمتها الصين
وروسيا، وبدلت واشنطن من استراتيجيتها الشاملة الخاصة بالحرب الأبدية على الإرهاب
من إرسال الجنود إلى الأرض إلى الاكتفاء بالمواجهة عبر الأفق، بالاعتماد على
الطائرات والمسيرات، وتوجت واشنطن استراتيجيتها الجديدة بالانسحاب من أفغانستان،
وزيادة المخصصات العسكرية لأوكرانيا لاستنزاف روسيا، ومحاولة محاصرة الصين من خلال
تحالفات الهادئ- الهندي، وتبرز أزمة المناطيد حمى المواجهة الاستراتيجية بين البلدين،
وهكذا أصبح ملف الإرهاب أحد العناصر الثانوية للاستراتيجية الأمريكية الجديدة.
في هذا السياق
جاء الإعلان عن
تولي سيف العدل لقيادة تنظيم القاعدة مرتبط بالتحديات الجيوسياسية،
إذ لم يشكل تعيين العدل حدثاً بحد ذاته، وانصب الجدل حول مكان وجوده وارتباطاته
الإقليمية، حيث قالت وزارة الخارجية الأمريكية في 15 شباط/ فبراير الماضي إنّ
المواطن المصري المقيم في إيران سيف العدل صار زعيم التنظيم بعد مقتل الظواهري. وأضاف
متحدث باسم الوزارة إنّ "تقييمنا يتوافق مع تقييم الأمم المتحدة أنّ الزعيم
الفعلي الجديد للقاعدة سيف العدل موجود في إيران".
وكان تقرير جديد
من الأمم المتحدة حول تقييم مخاطر تنظيم القاعدة، قد أشار إلى أنه: "في
المناقشات التي جرت في تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر، تبنى عدد من
الدول الأعضاء وجهة نظر مفادها أن سيف العدل يؤدي بالفعل دور الزعيم الفعلي
للتنظيم بلا منازع".
وسرعان ما
نفت
طهران أي صله لها بالقاعدة، وقال وزير الخارجية الإيراني إن على البيت الأبيض أن
يوقف "لعبة الإيرانوفوبيا الفاشلة"، واصفا التصريحات بشأن وجود زعيم
تنظيم القاعدة في إيران بالكاذبة والمثيرة للسخرية.
لا جدال أن سيف
العدل كان المرشح الأبرز لتولي قيادة تنظيم القاعدة، بعد قتل الظواهري في 31 تموز/
يوليو 2022، وهو في مسكنه في العاصمة الأفغانية كابول، عبر استهدافه بصواريخي
هيلفاير نفذته طائرة أمريكية مسيّرة بدون طيار. ويعد العدل أحد أهم القيادات الحية
في تنظيم القاعدة، فقبل مقتل الظواهري فقدت القاعدة كل الشخصيات المرشحة لخلافته،
فقد قتل أبو بصير ناصر الوحيشي، أمير القاعدة في جزيرة العرب في اليمن، بطائرة
أمريكية بدون طيار في 9 حزيران/ يونيو 2015، وفي 26 شباط/ فبراير 2017 قتل أبو
الخير المصري في سوريا، وفي آب/ أغسطس 2019، قتل حمزة بن لادن، نجل زعيم القاعدة
التاريخي أسامة بن لادن، في عملية أمريكية خاصة في منطقة واقعة على الحدود بين
أفغانستان وباكستان، وفي السابع من آب/ أغسطس 2020 خسرت القاعدة عبد الله أحمد عبد
الله أبو محمد المصري، وهو الرجل الثاني في القاعدة، وقد اغتيل المصري في إيران عن
طريق عملاء للموساد في طهران.
أصبح العدل مرشحاً دون منافسة حقيقية لقيادة القاعدة، فهو يتمتع بخبرة طويلة ومعرفة واسعة وشخصية كاريزمية، وهو الشخص الأكثر قدرة على إعادة إحياء القاعدة. فعلى خلاف الظواهري الذي اشتهر كمنظر أيديولوجي، فإن العدل عرف كمنظر استراتيجي وقائد عملياتي، فهو لا يكترث بالجدالات النظرية التي أرهقت التنظيم في عهد الظواهري، ولا يهتم بالظهور الإعلامي دون فائدة عملية
وبهذا أصبح العدل
مرشحاً دون منافسة حقيقية لقيادة القاعدة، فهو يتمتع بخبرة طويلة ومعرفة واسعة
وشخصية كاريزمية، وهو الشخص الأكثر قدرة على إعادة إحياء القاعدة. فعلى خلاف
الظواهري الذي اشتهر كمنظر أيديولوجي، فإن العدل عرف كمنظر استراتيجي وقائد
عملياتي، فهو لا يكترث بالجدالات النظرية التي أرهقت التنظيم في عهد الظواهري، ولا
يهتم بالظهور الإعلامي دون فائدة عملية، فليس له سوى ثلاث صور قديمة، وتنصب
اهتماماته ومواهبه على الجوانب العملياتية الأمنية والعسكرية.
السيرة الجهادية
لسيف العدل حافلة، واسمه الحقيقي محمد بن صلاح الدين بن عبد الحليم زيدان، من
مواليد عام 1960 على الأرجح، وكان ضابطاً في الجيش المصري، مختلف في رتبته هل كان
برتبة ملازم أم مقدم أم عقيد، وقد ألقي القبض عليه عام 1987 في القضية المعروفة
إعلاميا بـ"إعادة إحياء تنظيم الجهاد" والتورط في محاولة اغتيال وزير
الداخلية المصري حسن أبو باشا، وقد أطلق سراحه لعدم كفاية الأدلة ضده فسافر إلى
السعودية ثم إلى أفغانستان عام 1989.
وقد وظف خبرته
العسكرية والأمنية في تأهيل وتطوير قدرات تنظيم القاعدة، وكان مسؤولا عن معسكر الفاروق
في أفغانستان، واجتهد في تعديل مستوى التدريبات والتكتيكات وطور مناهج المشاة في
المعارك، وتولى مسؤوليات كثيرة في القاعدة منها مسؤوليات "أمنية"،
ويندرج ضمن مهامه الأمنية تأمين قيادات وكوادر القاعدة. وتزوج سيف العدل من أسماء،
ابنة أبي الوليد المصري (مصطفى حامد)، الكاتب الجهادي المعروف، الذي التقى به في
أفغانستان عام 1991.
عقب سقوط الحكومة
التي كانت تحظى بدعم السوفييت في أفغانستان عام 1992 ودخول المجاهدين إلى العاصمة
كابول، اندلعت المواجهات والمعارك بين الفصائل الجهادية الأفغانية، فقرر بن لادن
نقل نشاطات القاعدة الى السودان، وساهم سيف العدل في إقامة معسكرات تدريب لعناصر
تنظيم القاعدة هناك، حيث وسعت القاعدة أنشطتها في منطقة القرن الأفريقي. وكان سيف
العدل يتولى إقامة معسكرات التدريب في الصومال، وقدم التدريب للمقاتلين لمواجهة
القوات الأمريكية، حيث تم إسقاط طائرتين عموديتين من طراز بلاك هوك في مقديشو عام
1993 وقتل 18 جنديا من الجنود الأمريكيين المشاركين في مهمة للأمم المتحدة واصيب
العشرات. وبعد هذه الحادثة، بدأت قوة حفظ سلام التي تضمّ الولايات المتحدة والأمم
المتحدة، بالانسحاب من الصومال.
وقد تنامت أهمية
العدل في تنظيم القاعدة بعد وفاة أبو عبيدة البنشيري غرقاً في بحيرة فكتوريا عام
1996، الذي كان يعد إلى جانب العدل خلايا القاعدة في أفريقيا. وكان للعدل دور حاسم
في تفجيرات السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام عام 1998 والتي خلفت 224
قتيلاً، حيث رصدت وكالتا المخابرات الأمريكية والبريطانية، مكافآت مالية بمقدار
7.5 مليون جنيه إسترليني، و10 ملايين دولار، لمن يدلي بمعلومات عن العدل بسبب دوره
في تفجيرات السفارتين الأمريكيتين.
كان العدل من
الشخصيات القليلة داخل تنظيم القاعدة التي اطلعت على خطة الهجوم على الولايات
المتحدة الأمريكية، وحسب شهادة خالد الشيخ محمد، العقل المدبر لهجمات 11 أيلول/ سبتمبر
2001، فإن بن لادن والمسؤول العسكري في التنظيم محمد عاطف (أبو حفص المصري) وافقا
في ربيع 1999على تنفيذ هجمات 11 أيلول/ سبتمبر وتم إطلاع سيف العدل على المخطط في
نيسان/ أبريل 2001.
وحسب تقرير
الحكومة الأمريكية عن هجمات أيلول/ سبتمبر، فإن سيف العدل كان ضمن مجموعة قليلة من
مسؤولي القاعدة الذين أبدوا تحفظات على المخطط لأن الهجمات قد تهدد حكم حركة
طالبان في أفغانستان حسب رأيهم، لكن العدل أيّد الهجمات لاحقاً وتولى مسؤوليات
تأمين عناصر القاعدة، من خلال محطات أقامها في إيران. ففي أعقاب هجمات أيلول/ سبتمبر
2001 على الولايات المتحدة وقبيل الغزو الأمريكي لأفغانستان يُعتقد أن سيف العدل
نجح في نقل عناصر القاعدة الى إيران عبر نفس تلك المحطات، وبعد مقتل أبو حفص
المصري تعاظمت أهمية العدل العسكرية والأمنية.
خلال مسيرته
الطويلة برزت شخصية العدل كقائد عملياتي، فقد كان له الدور الأكبر في احتواء
وتأهيل ودعم أبي مصعب الزرقاوي عندما وصل إلى أفغانستان، وتأسيس معسكر
"هيرات"، وقد فُوّض بن لادن والظواهري سيف العدل بالتواصل مع الزرقاوي
من أجل تأسيس معسكر تدريبي يكون نواة مستقبلية لتأسيس فرع للقاعدة في المشرق
العربي ومنها بلاد الشام، وقد اقترح العدل على الزرقاوي إنشاء جماعة باسم
"جند الشّام".
وساهم العدل في
تأسيس البنية التحتية للقاعدة في شرق أفريقيا والصومال، وفي اليمن ساعد بإقامة
معسكرات تدريب عناصر القاعدة هناك، وكان العدل المعارض الأبرز لإعلان أبو محمد
الجولاني، زعيم جبهة النصرة في سوريا، الانفصال عن القاعدة، وترأس لجنة "لجنة
حطين" المخصصة لإدارة فرع التنظيم في سوريا وبلاد الشام، وقد شكك العدل منذ
البداية بنوايا الجولاني ووصفه بالمراوغة.
خلاصة القول أن
سيف العدل يمكن أن يعيد إحياء تنظيم القاعدة بما يمتلكه من خبرة واسعة ورؤية
استراتيجية، وتبدو كافة الظروف مهيأة أكثر من سلفه الظواهري، الذي شهدت حقبته تراجع
تنظيم القاعدة وضعف قدراته العملياتية على تنفيذ هجمات خارجية، حيث تعرض التنظيم لانشقاقات
وانقسامات. وانشغل الظواهري بالتنظير الأيديولوجي والظهور الإعلامي، بينما يركز
العدل على الجانب الاستراتيجي العملياتي.
رغم بروز نهج أكثر راديكالية وجاذبية للجهاديين والذي يمثله تنظيم الدولة، إلا أن تنظيم القاعدة لا يزال يتمتع بقدرة على التكيف والتجديد، ورغم العداء بين ممثلي الجهادية العالمية، لكن فرص التعاون ممكنة في ظل وجود عدو مشترك. ولذلك قد يكون تعيين سيف العدل فرصة لإعادة إحياء تنظيم القاعدة، مع تراجع الاهتمام الدولي بالإرهاب العابر للحدود
وفي ظل عزلة حركة
طالبان وعدم الاعتراف بها دولياً، فإن طالبان ستجد نفسها تحت ضغط الأجنحة المتشددة
كشبكة حقاني، لتقديم مزيد من الدعم والرعاية للقاعدة، بوجود خصم جهادي أكثر
راديكالية كولاية خراسان التابعة لتنظيم الدولة، وهو ما تفضله إيران لذات الأسباب
وبقية الدول كالصين وروسيا وغيرهما من الدول.
وفي ظل تراجع
جهود مكافحة الإرهاب وخصوصاً في أفريقيا سوف تتنامى قوة الفروع الإقليمية للقاعدة
في الصومال ومالي ومنطقة الصحراء والساحل وشمال أفريقيا، ونظراً لانغلاق المسارات
السياسية في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب الصحراء والساحل والقارة الأفريقية
عموماً، وفي جنوب شرق آسيا، وهي مناطق تعاني من أزمات سياسية واقتصادية ومشاكل إثنية وعرقية، فإن تنظيم القاعدة يمكن أن يعيد بناء نفسه وسط الأزمات، فهو لا يخلق
الأزمات بل يستغلها.
ورغم بروز نهج
أكثر راديكالية وجاذبية للجهاديين والذي يمثله تنظيم الدولة، إلا أن تنظيم القاعدة
لا يزال يتمتع بقدرة على التكيف والتجديد، ورغم العداء بين ممثلي الجهادية العالمية،
لكن فرص التعاون ممكنة في ظل وجود عدو مشترك. ولذلك قد يكون تعيين سيف العدل فرصة
لإعادة إحياء تنظيم القاعدة، مع تراجع الاهتمام الدولي بالإرهاب العابر للحدود،
وبروز حقبة من التنافس بين الدول في ظل تعددية قطبية.
twitter.com/hasanabuhanya