كتاب عربي 21

الأجهزة الرقابية اختطاف الدور وامتهان الوظيفة.. مفاهيم ملتبسة (38)

سيف الدين عبد الفتاح
تعرض جنينة لاعتداء قبل محاكمته بعد حديثه عن الفساد في أجهزة الدولة- فيسبوك
تعرض جنينة لاعتداء قبل محاكمته بعد حديثه عن الفساد في أجهزة الدولة- فيسبوك
حددت الدساتير المصرية المتعاقبةُ الأجهزةَ الرقابية المصرية ودورها وما يتعلق بها وعلاقتها بالأجهزة الرسمية الأخرى، بما في ذلك الدستور المصري الذي سنّه نظام الثالث من تموز/ يوليو 2014م وتعديلاته (2019م)، حيث يتحدث عن هذه الأجهزة الرقابية (المواد 215-220)؛ ويؤكد على أن تتمتع تلك الهيئات والأجهزة بالشخصية الاعتبارية، والاستقلال الفني والمالي والإداري، ويؤخذ رأيها في مشروعات القوانين، واللوائح المتعلقة بمجال عملها. ويحدد هذه الهيئات والأجهزة في البنك المركزي والهيئة العامة للرقابة المالية، والجهاز المركزي للمحاسبات، وهيئة الرقابة الإدارية.

وينص الدستور على أن لكل هيئة قانونا يحدد اختصاصاتها ونظام عملها وضمان استقلالها والحماية اللازمة لأعضائها، وسائر أوضاعهم الوظيفية، بما يكفل لهم الحياد والاستقلال. ويعين رئيس الجمهورية رؤساء تلك الهيئات والأجهزة بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية أعضائه لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، ولا يُعفى أي منهم من منصبه إلا في الحالات المحددة بالقانون. ويُحظر عليهم ما يُحظر على الوزراء، كما تقدم الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية، تقارير سنوية إلى كل من رئيس الجمهورية، ومجلس النواب، ورئيس مجلس الوزراء، فور صدورها، وعلى مجلس النواب أن ينظر فيها ويتخذ الإجراء المناسب حيالها في مدة لا تجاوز أربعة أشهر من تاريخ ورودها إليه.

وتُنشر هذه التقارير على الرأي العام، وتبلغ الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية سلطات التحقيق المختصة بما تكتشفه من دلائل على ارتكاب مخالفات، أو جرائم، وعليها أن تتخذ اللازم حيال تلك التقارير خلال مدة محددة، وذلك كله وفقا لأحكام القانون، إضافة إلى ما يحدده الدستور من دور لهذه الأجهزة في محاربة الفساد ويُلزم الجهات الرسمية بدعمها ومساندتها.

نظام الثالث من تموز/ يوليو ومن خلال استراتيجياته الفاشية والطغيانية استطاع أن يختطف ويمتهن هذه الأجهزة، وفرض عليها سيطرته ورجاله ومجالات اهتمامها وأدوارها في المجتمع بصورة غير مسبوقة
وعلى الرغم من ذلك فإن نظام الثالث من تموز/ يوليو ومن خلال استراتيجياته الفاشية والطغيانية استطاع أن يختطف ويمتهن هذه الأجهزة، وفرض عليها سيطرته ورجاله ومجالات اهتمامها وأدوارها في المجتمع بصورة غير مسبوقة. وهناك من الوقائع والأبعاد التي سنتعرض لها تبين لنا كيف أن عملية الاختطاف هذه ستبقى في سجل جرائم هذا النظام ولن تمحى بسهولة، في ظل ما ترتب على تغييب هذه الأجهزة وجعلها تقوم بضد دورها وعكس وظيفتها. ومن أبرز هذه الأبعاد والوقائع في خطط الاختطاف والامتهان:

البعد الأول التشريعي والقانوني؛ كان من بين أهداف رئيس نظام الثالث من تموز/ يوليو أن يفرض هيمنته على الأجهزة الرقابية، فأصدر في عام 2015م قانونا يتكون من مادة واحدة يتيح له إقالة أو تغيير رئيس الجهاز الرقابي بالصورة التي يراها مناسبة، بعيدا عن الأسباب التي نص عليها القانون فهي في معظمها مطاطة ويمكن تأويلها على الوجه الذي يراه نظام الثالث من تموز/ يوليو مناسبا وملائما. وهو في ذلك يخالف الدستور ويؤسس لبنية تشريعية وتنفيذية تُفقد هذه الأجهزة حصانتها وتُخضعها؛ لسيطرته إن كان تعيينا أو مراقبة ودورا وفعالية.

ونجح هذا التشريع في إخصاء هذه الأجهزة وتجريدها من أهم معايير استقلاليتها ونزاهتها، وخالف الدستور وعارض القوانين التي تخضع لها هذه الأجهزة، الأدهى من ذلك أن هذا القانون يعد الأكثر تفعيلا في الحياة السياسية المصرية، فبعيدا عن أنه يستطيع الإقالة والتعيين فهو قد اخترع وسيلة أخرى لزيادة السيطرة والهيمنة تسمى "القائم بأعمال رئيس الهيئة"، حيث بات يتحكم في هذه الأجهزة بصورة مطلقة.

البعد الثاني هو الانقلاب المستور؛ حيث نجح نظام الثالث من تموز/ يوليو من خلال تغيير رؤساء الأجهزة والهيئات الرقابية جميعا، بعضها أكثر من مرة، في أن يحكم قبضته على هذه الأجهزة ويحرفها عن مسارها، وبات رئيس الهيئة يعلم علم اليقين أن مصيره وبقاءه مرتبط بقرار من رئيس النظام ومن ثم لم يعد يملك إلا أن ينفذ رؤيته بصورة كلية، وباتت هذه الأجهزة تعمل لدى رئاسة الجمهورية موظفة عندها لا محصنة من خلالها تأسيسا وتطبيقا، وتنفذ رغباتها وأهدافها حتى لو كانت هذه عكس وظيفة الأجهزة وضد طبيعة أدوارها.

بعد أن كانت الأجهزة تراقب تلك الجهات والمؤسسات صارت تأتمر بأمرها وتعبر عنها، ولم يعد دورها كشف الفساد، ولكن صارت معبرة عنه ومديرة له، وهو أمر أدى إلى أن يكون كشف الفساد في حد ذاته أو مواجهته أو مكافحته هو تعبير عن الفساد، أو ما يمكن تسميته بعبارة أدق "تصفية الحسابات" ضمن أجنحة متعددة داخل السلطة
فبعد أن كانت الأجهزة تراقب تلك الجهات والمؤسسات صارت تأتمر بأمرها وتعبر عنها، ولم يعد دورها كشف الفساد، ولكن صارت معبرة عنه ومديرة له، وهو أمر أدى إلى أن يكون كشف الفساد في حد ذاته أو مواجهته أو مكافحته هو تعبير عن الفساد، أو ما يمكن تسميته بعبارة أدق "تصفية الحسابات" ضمن أجنحة متعددة داخل السلطة، تحاول بشكل أو بآخر أن يكون لها النصيب الأكبر في كعكة الفساد التي اتسعت دائرتها، الأمر الذي يؤكد أن اكتشاف الفساد لا يتم الكشف عنه إلا في إطار تناقض المصالح الأنانية وتضارب الأهداف المتعارضة، والصراع داخل العصابة الحاكمة والبطانة المستفيدة، وصارت الصراعات الاقتصادية والسياسية والإعلامية متداخلة على نحو معقد وخطير يكشف عن الصراع المحموم على السلطة والثروة في آن واحد، وهو ما جعل عمليات الفساد ضمن هذا الشأن تقع تحت ما يمكن تسميتها سياسات "توازن الرعب المتبادل" بين هذه القوى والأجنحة الحاكمة، فضلا عما يمكن تسميته بالفساد الآمن الذي وجد مرتعا ينمو فيه ويتزايد ويتراكم ضمن حماية أجهزة سيادية كبرى.

البعد الثالث؛ تحرك ضمن إعادة تشكيل هذه الأدوات بوضع قاعدة التوريث في هذا المقام، في ظل إصرار المسؤولين الحاليين على تسكين أبنائهم في الكثير من الأجهزة المهمة بما فيها الأجهزة الرقابية، وعلى الرغم من محدودية مناصبهم بحكم السن والخبرة، إلا أن الرصيد العائلي يلعب دورا متعاظما في إعادة موضعتهم داخل هذه الأجهزة وفي دوائر التحكم بها، ليقوموا بأدوار متنوعة تهدف إلى حماية مسالك الفساد وتنوعه على نحو يؤدي إلى انسياحه في أرجاء البلاد، وأن كل ما يتم نحوه يكون لإدارته وليس لمواجهته أو القضاء عليه.

وقد يكون من المهم الإشارة إلى مسألة التوريث وخطورتها وانتشارها في ظل نظام الثالث من تموز/ يوليو بصورة تستحق دراسة واهتماما على نحو منفصل، ولكن الإشارة إليها في هذا المقام واجبة لأن مبدأها الفساد ومنتهاها رعاية هذا الفساد وحمايته.

البعد الرابع؛ يتمثل في انتشار سياسة تطهير هذه المؤسسات من أبنائها المخلصين، أو على أقل تقدير هؤلاء المؤمنين بأدوارها ووظائفها الرقابية المحددة والفاعلة والمؤثرة من قبل قانون تأسيسها، والسيطرة على هذه الأجهزة بزرع قياداتها من الخارج ممن يدينون بالولاء والامتنان للسلطة التي وضعتهم في هذه المناصب عن غير حق وظيفي أو مهني. ولعل هذا يبدو واضحا في حالة الجهاز المركزي للمحاسبات الذي توارت وظيفته وتدهورت مكانته وتراجعت همته في مكافحة الفساد، عقب التعامل الأمني مع رئيسه السابق المستشار هشام جنينة الذي تعرض لاعتداء إجرامي غير مسبوق، ويقبع الآن في السجن لقضاء عقوبة 5 سنوات (تنتهي في آذار/ مارس المقبل) لأدائه وظيفته وقيامه بدوره الرقابي حينما تحدث عن أحد تقارير الجهاز والذي تضمن أن "الفساد في الجهاز الحكومي للدولة تجاوز 600 مليار جنيه مصري في ثلاث سنوات".

الساحة قد خلت أمام نظام الثالث من تموز/ يوليو الذي لا يتورع عن توزيع المشروعات بالأمر المباشر على الهواء مباشرة، أو تقسيم الحصص في المشروعات على أطراف بعينها ضمن قواعد القرابة والمحسوبية والمحاباة وأخيرا الوكالة، وهي أخطر ما في الموضوع
وقد لعبت استراتيجية النظام مع هشام جنينة دورا كبيرا في اختطاف هذا الجهاز وغيره من الأجهزة الرقابية بالتأكيد على مصير كل من يحاول أن يقوم بدوره في مكافحة الفساد، حتى لو كان رئيس الجهاز نفسه، فلا أحد كبير على الضرب والاعتداء والسجن المشدد، الأمر الذي ترتب عليه أن دخلت جميع هذه الأجهزة بيت الطاعة ضمن عمليات ترويض كبرى لهذه الأجهزة وتوقيف دورها على القيام بخدمة النظام وزبانيته وأجنحته المختلفة حتى لو مارست فسادا كبيرا.

البعد الخامس يتعلق بعسكرة هذه المؤسسات والأجهزة، بل والحديث مؤخرا عن إنشاء أجهزة رقابية داخل الجهات العسكرية للرقابة على القطاعات الاقتصادية والمدنية، في ظل حالة التوحش غير المحدودة التي تقوم بها هذه المؤسسة على الشأن العام والمجال العام، وانتشارها في كل قطاع ومجال، وهو أمر يستحق مناقشة منفصلة.

لا يسعنا إلا القول إن الساحة قد خلت أمام نظام الثالث من تموز/ يوليو الذي لا يتورع عن توزيع المشروعات بالأمر المباشر على الهواء مباشرة، أو تقسيم الحصص في المشروعات على أطراف بعينها ضمن قواعد القرابة والمحسوبية والمحاباة وأخيرا الوكالة، وهي أخطر ما في الموضوع؛ حيث لم يعد يخفى عن أحد بروز وكلاء لشخصيات وأجهزة من داخل النظام باتوا يسيطرون على العديد من المشروعات والتوكيلات الخارجية بدون سابق خبرة أو نجاح في أي قطاع من القطاعات التي تتولاها، الأمر الذي يؤكد لنا اختفاء وظيفة هذه الأجهزة الرقابية جوهرا وممارسة في مكافحة الفساد وتعقبه.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)