قد يكون نبيل بفّون الرئيس السابق للهيئة العليا المستقلة للانتخابات من القلائل الذين استعملوا كلمة «تنكيل» للتعبير عما تعرّض له من قبل السلطات وتوجيه إصبع الاتهام مباشرة إلى رئيس البلاد قيس سعيّد.
بفّون الذي منع من السفر إلى الخارج هذا الأسبوع قال «أتعرض للتنكيل في بلادي ورئيس الجمهورية بيده كل السلطات ويتحمل كامل المسؤولية» في منعه من السفر إلى موريتانيا للعمل مع جهة دولية هناك في مجال الانتخابات.
لفظ «التنكيل» عادة ما كان حكرا على سعيّد يرمي به خصومه الذين يزعم أنهم ينكّلون بالشعب في مجالات عدّة فإذا به يرتد إليه من رجل يحظى بالاحترام، فقد كان بفّون من الأوائل الذين عبّروا علنا عن أن إجراءات الرئيس في يوليو/ تموز 2021 مخالفة للقانون والدستور والمواثيق الدولية، فأعفي من منصبه قبل أن يقرر سعيّد في أبريل/ نيسان 2022 استبدال كامل الهيئة المنتخبة من البرلمان، وهي التي أعلنت فوزه بالرئاسة، بأخرى طيّعة.
إجراءات المنع من السفر المعروفة في
تونس بشفرتها الأمنية (س 17) تعرّض لها الكثير من الشخصيات السياسية الهامة وغيرها دون مبرر قانوني وجيه في الغالب، أو ببعض التعلاّت كالقول بأن المهنة التي على الجواز لا تنطبق مع واقع الحال، وهي مسألة يمكن تسويتها لاحقا وما كان يفترض أن تشكل سببا لحظر السفر. ما حصل مع هؤلاء دفع كثيرين إلى عدم التفكير أصلا في السفر وتجنب المجازفة بالذهاب إلى المطار خشية التعرّض إلى موقف محرج أمام الملأ.
بالعودة إلى مفردة «التنكيل» سنرى أنها محبّبة جدا إلى الرئيس يكرّرها باستمرار في تصريحاته التي لا تخلو عادة من كل الشتائم والتهديد آخرها وصفه لمعارضيه بالسرطان، الذي قال إنه لا ينفع معه سوى «العلاج الكيماوي» بعد سلسلة نعوت كان من بينها «الحشرات» و«الشياطين» و«المخمورين» و«الخونة» و«العملاء» و«المرتمين في أحضان الأجنبي» الذين لا مكان لهم سوى «القمامة» أو «مزبلة التاريخ».. وغير ذلك.
وبرصد سريع لتصريحات سعيّد في العام ونصف الأخير سنجد أنه في 24 أغسطس/ أب 2021 دعا كوادر وموظفي وزارة التجارة وتنمية الصادرات إلى «مزيدٍ من الحزم مع كلّ من يريد التنكيل بالشعب التونسي وتطبيق القانون على الجميع على قدمِ المساواة» في إشارة منه إلى ما يعتبره احتكارا سبّب غياب بعض المواد الأساسية من الأسواق. وفي 5 أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام قال، حين استقبل المكلفة بتشكيل الحكومة آنذاك، أنه لن يتعامل مع من «باعوا أوطانهم» وأن من «يريد التنكيل بالشعب سيواجه بصرامة، وسيدفع الثمن باهظاً». وفي 13 ديسمبر/ كانون الأول 2021 صرّح بأن «جهات حاولت التنكيل بالشعب والقضاء على الدولة» وفي يناير كانون / الثاني 2022 عاد ليتهم من خرجوا في ذكرى الثورة على الرئيس الراحل بن علي بأنهم «سعوا لإبقاء منظومة التنكيل بالشعب التونسي».
وفي الأول من فبراير/ شباط 2022 أكد سعيّد على أنه «لا بدّ من تحميل كل طرف مسؤوليته كاملة لأن المناوئين للشعب التونسي هدفهم التنكيل به في كل مظاهر الحياة فمرّة يتعلّق الأمر بالأدوية الحياتية، ومرّة بالبنزين والفضلات، وهذه الأيام بالنسبة لعدد من المواد الأساسية كالقمح والزيت المدعّم» ليعود بعد خمسة أيام فقط ليتوعد «المحتكرين» قائلا لهم «ستدفعون ثمن التنكيل بالشعب».
وفي 13 يناير/ كانون الثاني الماضي طالب الرئيس وزيرة التجارة الجديدة بمواجهة المحتكرين الذين «يريدون التنكيل بالشعب» داعيا إياها «إلى تطبيق القانون، وتحمل مسؤولية مواجهة المحتكرين الذين يريدون التنكيل بالشعب عن طريق مسالك التوزيع التي تحولت إلى مسالك للتجويع».
لقد كان مضمون «التنكيل» كما جاء في أغلب تصريحات الرئيس التونسي مرتبطا بلقمة عيش الناس فهو ما يراه المعنى الحقيقي للتنكيل، في حين أننا رأينا من الرئيس نفسه أصنافا أخرى من التنكيل يتهمها به خصومه وهي أقسى وأمر من التنكيل الذي يعنيه دائما في كلامه.
حين يحلّ الرئيس البرلمان المنتخب ويمنع أعضاؤه من العودة إلى وظائفهم الأصلية فهذا يسمى تنكيلا، وحين يمنع عنهم التأمين الصحي فيحرمهم من الرعاية اللازمة وبعضهم مصاب بالسرطان فهذا يسمى تنكيلا، وحين تقع إحالة مدنيين على محاكم عسكرية ويزج بهم فورا في السجن مع أنهم صدرت بشأنهم أحكام مدنية في نفس القضية ولا يجوز محاكمة المرء على نفس التهمة مرتين فهذا يسمى تنكيلا، وحين يقع إعفاء عشرات القضاة من وظائفهم دون مراعاة الإجراءات المعمول بها والتشهير بهم أمام الملأ والبعض في شرفهم بما في ذلك رمي المحصنات فهذا يسمى تنكيلا، وحين ينصفهم القضاء الإداري ويأمر بتعليق أوامر الإعفاء وتُرفض عودتهم إلى العمل فهذا يسمى تنكيلا، وحين يحال صحافي أو مواطن إلى المحاكم بسبب مقال أو تدوينة فهذا يسمى تنكيلا، وحين نتجه إلى مسؤولي الدولة السابقين من رؤساء حكومات ووزراء ورئيس البرلمان ونختلق ضدهم قضايا واهية ونزج ببعضهم السجن فهذا يسمى تنكيلا.
هل نقف عند هذا الحد أم نواصل؟!…
القدس العربي