تسأل المعارضين للرئيس
التونسي: ما الحل
في تونس الآن؟ فيجيبون فورا: رحيل قيس سعيّد. تسألهم: ولكن كيف يرحل؟ فلا يملكون
جوابا محددا.
تسأل أنصار الرئيس نفس السؤال: فيجيبون فورا: بقاء الرئيس
والمضي قدما. تسألهم: ولكن كيف يبقى؟ فلا يملكون جوابا هم أيضا.
تطرح السؤال نفسه على من يصنفون أنفسهم بجماعة «الخيار
الثالث» وهم أساسا «الاتحاد العام التونسي للشغل» ومن معه فيجيبون: لا عودة إلى
الوراء ولا قبول بما يفعله
سعيد. تسألهم: ولكن كيف؟ فلا يفصحون عن هذه «التوليفة».
المفارقة أن كل هؤلاء بتقييماتهم المختلفة يتفقون إجمالا
على أن الوضع في البلاد بات لا يطاق وأنه لا بد من البحث عن حل يخرج تونس من عنق
الزجاجة الذي علقت فيه منذ 25 يوليو/ تموز 2021 تاريخ انقلاب قيس سعيّد على
الدستور واستفراده بالحكم بلا حسيب ولا رقيب. الطريف أنه حتى سعيّد نفسه صرح مؤخرا
بأن «هذا الوضع لا يمكن أن يستمر» وأنه قد «بلغ السيل الزبى» ولكن من منظوره طبعا
الذي يرى أنه وحده من يسير على الطريق المستقيم، وكل من سواه «خونة وعملاء
ومتآمرون».
ما يزيد الصورة قتامة أن كل واحد من هؤلاء يعاني معضلة
رئيسية:
المطالبون برحيل سعيّد يؤكدون على أن نضالهم سلمي وبالتالي
فهم ليسوا من أنصار الدعوة إلى انقلاب عسكري أو اللجوء إلى العنف. هم يراهنون على
أن يكون هذا الرحيل سلميا عبر تصعيد التحركات والمظاهرات الشعبية الغاضبة ولكن
المشكل أن الشعب ورغم تذمره الكبير مما يجري سواء على الصعيد السياسي أو المعيشي
اليومي، إلا أنه لم يصل بعد إلى مرحلة الخروج إلى الشارع في موجة غضب عارمة في كل
أنحاء البلاد مع أن الأوضاع الحالية أسوأ من تلك التي أخرجتهم بكثافة ضد الراحل بن
علي.
مناصرو سعيّد يعانون من أن الرئيس لم يقدّم لهم أبدا أية
ذخيرة يحاججون بها خصومهم، بل بالعكس خذلهم فلم يعودوا قادرين على الدفاع المستميت
عنه، ولهذا توارى أغلبهم عن الأنظار تدريجيا من شخصيات وأحزاب يسارية وقومية
استئصالية، تنقلب ضده تدريجيا، فلم يبق له من مناصرين سوى بعض الأفراد الخاوين
يدافعون عما لا يمكن الدفاع عنه فتحولوا إلى مادة دسمة للسخرية. وتبقى المعضلة الأكبر
عند هؤلاء هي هذا التجاهل، وحتى الازدراء، الذي يقابلهم به سعيّد فهو لا يلتفت
إليهم أبدا ولا يقيم لهم وزنا على الإطلاق.
أما جماعة «رِجْل هنا ورجْل هناك» فلم ينجحوا لا في إرضاء
سعيّد ولا معارضيه فخسروهما معا. اتحاد الشغل، رأس الحربة في هذا التيار، تزداد وتيرة
نقده لقيس سعيّد ولكنه يرفض أن يعتبر ما قام به قبل أكثر من عام ونصف انقلابا،
والأدهى أنه ليس مستعدا حتى للتحاور مع من يعتبره كذلك. ما يعيب موقف المركزية
النقابية أنها سعت طوال الأشهر الماضية أن تمد سعيّد بطوق نجاة ما لتعديل بعض
سياساته لكنه كان دائم التجاهل لها. ربما لهذا السبب لجأت المركزية النقابية إلى
بعض الإضرابات في هذا القطاع أو ذاك رفضا بالخصوص للنهج الاقتصادي للحكومة
وتراجعها عن التزاماتها مع تأكيدها الدائم أن هذه الإضرابات ليست سياسية ويجب ألا
تخدم معارضي الرئيس. وما يعيب موقف الاتحاد أكثر هو تعييره لحكام السنوات الماضية
التي يصفونها بـ«العشرية السوداء» مع أنه كان شريكا فيها بشكل أو آخر، تماما مثلما
كان شريكا أساسيا في تدمير اقتصاد البلد بمطلبيته المجحفة وإضراباته التي لا تحصى
ولا تعد والتي حوّلت بعض قيادييه إلى «بلطجية» حقيقيين عرقلوا أكثر من عملية إصلاح
في قطاعات وشركات مختلفة.
وطالما ظل المشهد على هذا النحو مقابل رئيس عنيد جدا غير
عابئ بأحد فإننا سنصل إلى وضع غير قابل البتة للاستمرار ولو للحظة واحدة. هذه
اللحظة تقترب بسرعة مع كل خطوة إضافية يقدم عليها سعيّد مثل إصراره على إجراء
الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية نهاية هذا الشهر، والتي كان دعا إليها
رغم أنف الجميع وبقانون انتخابي صاغه منفردا، على غرار الدستور، رغم أن الجولة
الأولى شهدت عزوفا تاريخيا للمواطنين عن التصويت.
تكلس المشهد بالصورة التي عرضناها، مع تواصل الغضب الشعبي،
المكتوم إلى حد الآن، من صعوبات المعيشة التي ستزداد حدة عند الاتفاق مع صندوق
النقد الدولي، ستوصلنا، كما حذّر كثيرون، إلى ثورة جياع هادرة بلا شعارات سياسية
ولا قيادة تؤطّرها، الله أعلم مدى العنف الذي ستكون عليه، أو إلى تدخل خارجي
لترتيب تغيير سياسي في البلد الله أعلم كيف سيكون ولمصلحة من بالضبط. هذا التدخل
الخارجي قد ينطلق بمجرد اندلاع مثل هذه الثورة، مستفيدا من هزتها العنيفة، فيشرع
«الآخرون» فورا في ترتيب الأمور في البلاد على هواهم، وقد استعدوا من قبل لجميع
احتمالاتها بالتأكيد. عندها سيكون التونسيون مفعولا بهم، مع أنه كان بإمكانهم أن
يكونوا هم الفاعل لو كانوا يعقلون.
(القدس العربي)