مقالات مختارة

ماذا ستأكل الشعوب بعد اليوم؟

فيصل القاسم
1300x600
1300x600
هناك ظاهرة مرعبة بكل المقاييس لا ينتبه لها الناس بالشكل المطلوب، ولم يعطها الإعلام التغطية الكافية للتحذير من عواقبها الرهيبة التي بدأت تظهر شيئاً فشيئا في العديد من بلدان العالم، وخاصة العالم العربي والعالم الثالث عموما. إنها ظاهرة التضخم غير المسبوق تاريخيا حتى في الدول الغربية الغنية. رواتب ثابتة ومحدودة وأسعار تحلق في أعالي السماء ولا تقف عند حد.

ما الذي يجري؟ ماذا تريد القوى التي تتلاعب باقتصاديات وثروات المعمورة؟ كنا في الماضي نسخر مما يسمى بمؤامرة «المليار الذهبي»، ونعتبرها من نسج خيال أصحاب نظرية المؤامرة وتخرصاتهم السخيفة، لكن للأمانة إذا ظل الوضع المعيشي في العالم يسير على هذا النحو غير المسبوق، لا نستبعد مطلقا أن تعم المجاعات كل دول العالم بما فيها العالم الغربي، فينخفض عدد سكان العالم إلى مليار؛ لأن الذي يحصل اليوم على صعيد جنون الأسعار، لا سابق له في التاريخ.

تعالوا ننظر إلى حال الشعوب في بعض البلدان العربية كسوريا مثلا، فراتب الموظف بعد كل الزيادات لا يتجاوز المئة ألف ليرة، وهو رقم كبير جدا مقارنة بالرواتب القديمة التي لم تكن تتجاوز الألف ليرة قبل ثلاثة عقود ونيّف. لكن في ذلك الوقت كانت الألف ليرة تكفي عائلة كاملة مسكنا ومأكلا ومشربا. أما اليوم، فالمئة ألف ليرة لا تكفي لشراء جرة غاز صغيرة، فمن أين يأتي المواطن السوري بالمال لشراء بقية حاجاته، إذا كان راتبه لا يكفي لشراء جرة الغاز.؟ وكي لا نطيل في الشرح، فإن الإنسان اليوم في سوريا يحتاج أكثر من مليون ونصف المليون ليرة كي يعيش على الكفاف، بينما راتبه لا يزيد عن مئة ألف ليرة وربما أقل، فماذا يفعل؟ لقد سمعنا قبل أيام ممثلين سوريين كبارا يستغيثون ويطالبون رئيسهم بالتدخل؛ لأن الوضع صار جهنميا بامتياز، وهم يعانون جوعا حقيقيا، فإذا كان الوضع هكذا في أوساط الفنانين والممثلين، فكيف هو في أوساط الطبقات المسحوقة أصلا قبل الكارثة المعيشية الحالية. وضع لا يمكن تصديقه من شدة هوله. 

ما الحل؟ ليس هناك حل، فلو أرادت الدولة أن ترفع الرواتب إلى مليون ونصف المليون ليرة ليتمكن الناس من العيش على الكفاف فقط، فهي غير قادرة، وحتى لو زادت الرواتب فإن الأسعار بدورها ستحلق أعلى بما يجعل الجميع يدورون في حلقة مفرغة لا يمكن السيطرة عليها.

طبعا قد يقول لنا البعض؛ إن سوريا ليست نموذجا لأنها خارجة للتو من حرب أتت على الأخضر واليابس، وهي تعاني شحا ماليا وزراعيا واقتصاديا وغيره، لهذا فهي يمكن أن تتعافى لاحقا وتصحح وضعها المعيشي تدريجيا، كما حصل مع بقية الدول التي عانت من الحرب وتبعاتها من قبل. لكن هذا الكلام مردود عليه؛ لأن هناك بلدانا عربية وغير عربية أخرى بدأت تعاني من النموذج السوري، مع أنها لم تدخل في حرب ولم تعان ما عانته سوريا.

خذ مثلا مصر اليوم، فبعد انخفاض الجنيه أمام الدولار بشكل مفاجئ ورهيب، بات الشعب المصري كله لا همّ له سوى الحديث عن مواكبة التحولات الاقتصادية الرهيبة، التي بدأت تضرب البلاد بشكل غير مسبوق. فجأة ارتفعت الأسعار مئة في المئة في بعض الأحيان، فكيف سيغطي راتب الموظف هذا الارتفاع المرعب؟ من أين سيأتي بأضعاف راتبه كي يؤمن لقمة عيش بسيطة، من أين؟ لا يوجد أي مصدر، ولو زادت الدولة الرواتب فسيبتلع الزيادة ارتفاع الأسعار الجنوني، الذي لا يتوقف مع كل زيادة بسيطة في سعر الدولار أمام الجنيه. ما الحل؟ لا حل.

ولو ذهبت إلى تونس ستجد أن الشعب هناك يعاني الحالة السورية والمصرية بحذافيرها. ارتفاع جنوني في الأسعار وتضخم غير مسبوق ومصادر دخل محدودة لا يمكن أن ترتفع مطلقا؛ لأن الدولة عاجزة عن تأمين المال الكافي لسد العجز.

هل يختلف الوضع في السودان أو لبنان أو الأردن أو الجزائر أو المغرب أو أي بلد عربي؟ ربما تكون بعض البلدان أفضل حالا مثلا من اليمن ولبنان والسودان الذي دخل الدوامة السورية والمصرية منذ فترة طويلة، وكذلك اليمن الذي يمر بأزمة معيشية يشيب لها الولدان، لكن لا أحد يتكلم عنها، بينما تدهور سعر العملة اللبنانية منذ أشهر مرات ومرات بحيث بات العديد من اللبنانيين يعتمدون على السلال الغذائية، التي يتبرع بها بعض الميسورين بشكل عابر وغير ثابت. تصوروا أن لبنان يعاني الجوع. ما الحل؟ ليس هناك أي باب أمل مطلقا؟ فالكل بات يعاني. صحيح أن دول الخليج تستفيد من ارتفاع أسعار النفط، لكنها بدورها تعاني في الوقت نفسه من تضخم رهيب وارتفاع جنوني في الأسعار، بحيث تضاعفت الأسعار مرات ومرات، بينما الرواتب مازالت على حالها منذ سنوات لشرائح كبيرة. والحل طبعا ليس في زيادة الرواتب بشكل مستمر لمواكبة التضخم، هذا إن حصل، وهو لم يحصل، فارتفاع الأسعار في بعض بلدان الخليج بات يقتطع الجزء الأكبر من الرواتب للأكل والشرب والخدمات الأخرى، بحيث بات كثيرون يعملون فقط لتأمين قوت يومهم لا أكثر ولا أقل، والوضع يزداد سوءا يوما بعد يوم.

وكي لا يظن البعض أن الأمر يقتصر على الدول العربية، فإن تركيا مثلاً تواجه منذ سنوات تضخما هائلا، خسف برواتب الطبقة الوسطى من ألفي دولار إلى ثلاثمئة دولار، بعبارة أخرى فإن الطبيب الذي كان راتبه يعادل ألفي دولار قبل سنوات، أصبح راتبه اليوم لا يساوي مئتي أو ثلاثمئة دولار؛ لأن الليرة هبطت أمام العملات الصعبة، ولأن الأسعار باتت جنونية بكل المقاييس، بحيث صار شراء بعض الفواكه والخضار عملا بطوليا، فقبل سنوات كان سعر كيلو الدراق مثلا ثلاث ليرات تركية، بينما اليوم ثمنه قد يصل أحيانا إلى مئة ليرة، والرواتب مع كل الزيادات التي حصلت لا يمكن أن تغطي الفجوة التي تسبب بها الارتفاع الرهيب للأسعار. بالأمس كنت تستطيع شراء كيلو الزيتون في تركيا بخمس عشرة ليرة، واليوم هذا المبلغ يشتري بضع حبات من الزيتون فقط، وهكذا دواليك، فكيف سيعيش الناس؟

وحتى في الغرب، رغم كل الثراء والدعم الحكومي ودولة الرفاه، فإن الفجوة بين الرواتب وارتفاع الأسعار صارت خيالية، بحيث صار البعض يتحدث عن مجاعات حقيقية قادمة حتى في أوروبا، وبتنا نرى العجب العجاب في لندن نفسها، بحيث يبلغ طول الطوابير على بنوك الطعام للجوعى والمحتاجين مئات الأمتار. فمن يقف وراء هذه الكارثة، وماذا تريد القوى التي تتحكم بثروات العالم وأرزاقه واقتصادياته وشعوبه؟

القدس العربي
التعليقات (2)
واحد من الناس
الأحد، 18-12-2022 03:10 ص
اذا نظرنا لهذه المشكله علي صعيدنا العربي مثلا و الذي تمثل دوله وحدة تخيلية طبعا تماثل مثلا الاتحاد الأوربي نجد ان هناك دولا تعوم علي ثروات هائله و لكن أهلها لا يميلون للعمل و دول اخري تغرق في المياه و الأراضي الخصبة و لكن أهلها ايضا كسالى و دول أخرى تغرق في كثرة الأيدي العاملة التي لا تجد عملا و دول اخري تفرغت منذ عقود للحروب بين قبائلها او طوائفها فهل مثل هذه الدول تسأل عن أي شيئ؟ ما يعنينا هو دخلنا التي لا تقل عن دول الاتحاد الأوربي في شيئ و لكنها تتفوق علي دول الاتحاد الأوربي في تسلط الأنا و حب السلطة و العروش و تدلي الكروش.
أحمد القاضي
السبت، 17-12-2022 07:57 ص
تحية طيبة للكاتب المحترم و الجواب على سؤالك هو أن ظاهرة أرتفاع درجات حرارة كوكب الارض، التصحر، ذوبان الثلوج على جبل إيفيريست و القارة القطبية و انخفاض معدلات هطول الامطار السنوية في شتى. بقاع الارض كل هذا أدى إلى انخفاض مستويات المحاصيل الزراعية و مستويات مياه الشرب على كوكب الارض و إذا ما قرأت أو سمعت منذ يومين عن انكماش مساحة زراعة حبوب القهوة في البرازيل و افريقيا و كيف ان ظاهرة التصحر و الجفاف باتت مصدر تهديد على نسبة محاصيل البن السنوية مما سيتسبب قريبا في ان يصبح مشروب القهوة للميسورين فقط. إنها لحظة تأمل و يجب على قادة هذا العالم ان يبادروا إلى معالجة الاسباب التي أوصلت البشرية إلى حافة الجرف و لكن، ما نراه من تخريب العالم العربي و إطلاق يد العبثية و الأجرام في لبنان، سوريا، العراق، اليمن، مصر، تونس و كافة البلدان العربية و إن تفاوتت النسب و اختلفت الكيفية ما هو إلا دليل دامغ على ان قادة النيوليبرالية الشرهة بادروا إلى تخريب المجتمعات و الهدف الاسمى لهم هو انخفاض معدل الولادات و بالتالي انخفاض نسبة سكان الارض. الغلاء و الجوع للعالم العربي و الإسلامي و الشذوذ الجنسي للعالم الغربي. بدلا عن الوقوف على الاخطاء و اسباب خراب نظام الطبيعة و البيئة و كبح جماح شراهة الراسمالية التي حولت البشر إلى وحوش تقتات على بعضها البعض و الأمثلة كثيرة و تكاد لا تحصى، عمد أشرار النظام العالمي إلى نشر الفوضى و الرذيلة و تخريب المجتمعات البشرية و الهدف هو كبح النمو السكاني على كوكب الارض و هي ظاهرة تهدد كما يدعون في البرامج الوثائقية مصادر الغذاء في العالم.

خبر عاجل