هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا شاغل لمعظم بني البشر هذه الأيام، سوى
مجريات منافسات كأس العالم لكرة القدم (مونديال 2022)، التي أحالت حرب روسيا
الساخنة على أوكرانيا الى الكواليس، وجميع قادة الدول معنيون بأمر المونديال إما
متابعة لفرقهم التي تخوض غمارها، أو لإعداد فرق بلادها لتمارس الخوض فيها في
المنافسات المقبلة، وربما كان الاستثناء هو عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة
السوداني، ونظيره في ممارسة البطش لإسكات المعارضين كيم جونغ أون رئيس كوريا
الشمالية.
مواصلة لنهج الفهلوة السياسية، اعتلى
البرهان المنابر مؤخرا (ويحمد له أنه يعرف قدر نفسه ولا يخاطب إلا حشودا من عسكر
الجيش)، وأعلن أنه تم التوصل إلى توافق مبدئي مع تحالف قوى الحرية والتغيير (قحت)،
حول قيام حكومة مدنية في كل هياكلها، و"قحت" هذه هي نفسها من حاور
البرهان ورهطه في عام 2019 وتوافقت معهم على شكل وكيفية الحكم، ثم انقلب عليها
البرهان في 25 تشرين أول / أكتوبر من العام الماضي وزج بقياداتها في السجون، وتكمن
الفهلوة في أن البرهان قال لجنوده إن الجيش سيراقب الحكومة المدنية و"إذا
حادت عن الطريق القويم فالسلاح جاهز"، أي أنه يعطي الجيش (أي نفسه) الحق في أن
يكون وصيا ورقيبا على حكومة مدنية، وله أن يقرر ما إذا كان سيتركها تستمر في
عملها، أم سينقلب عليها بالسلاح الجاهز.
وتم حتى الآن الإعلان عن التوصل إلى اتفاق
إطاري بين العسكر و"قحت" استنادا إلى مشروع دستور لعام 2022، وينص هذا
الاتفاق على أنه "لا يجوز اتخاذ إجراءات قانونية في مواجهة شاغلي المواقع
القيادية العليا بالأجهزة النظامية عند صدور الدستور، بحكم مناصبهم الدستورية أو
العسكرية، بشأن أي مخالفات قانونية تم ارتكابها قبل توقيع الدستور الانتقالي لسنة
٢٠٢٢م، بسبب أي فعل أو امتناع قام به أعضاء أو أفراد الأجهزة النظامية....."،
ووجود هذا النص الذي طالب به العسكر دليل إدانة لهم، فهو اعتراف صريح بأنهم
ارتكبوا جرائم ولا يريدون المساءلة القانونية حولها، وفي هذا النص الذي يقضي
بتحصين البرهان وكبار الجنرالات من المقاضاة، خسة تتمثل في ان البرهان وصحبه
يريدون لصغار العسكر الذين كلفوهم بقتل وسحل المتظاهرين تحمل تبعات أفعالهم، دون
المساس بالقادة الذين صرحوا لهم وأمروهم بذلك.
ومن الواضح أن قيادات "قحت" التي تدعي تمثيل
القوى الثورية التي أطاحت بحكم حزب المؤتمر الوطني ورئيس البلاد السابق عمر
البشير، متهافتة للتوصل إلى تسوية مع العسكر تجعل منها ـ من "قحت" ـ
الحاضنة للحكومة المرتقبة (كما كان الحال مع حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك
التي أطاح بها انقلاب البرهان الأخير)، ومن فرط التهافت فإن مفاوضي العسكر منهم لم
يطالبوا بالإفراج من السجون عن قياديين في تحالفهم هذا، ولم يطالبوا العسكر بالكف
عن اللجوء إلى العنف المفرط في مواجهة الحراك الجماهيري المطالب بالحكم المدني، بل
هم يتجاهلون تماما لجان المقاومة التي ما فترت عزيمتها منذ أواخر عام 2018، وقدمت
121 شهيدا في ظل سلطة البرهان الانقلابية، التي يبدو أن مخزونها من قنابل الغاز
الإسرائيلية قد نفد، فصارت تحشو مدافع إطلاق تلك القنابل، والمعروفة بـ "أوبلان"
بالحجارة وقطع الزجاج ليخترق أجساد المتظاهرين في عدة مواقع من الجسم.
من الواضح أن قيادات "قحت" التي تدعي تمثيل القوى الثورية التي أطاحت بحكم حزب المؤتمر الوطني ورئيس البلاد السابق عمر البشير، متهافتة للتوصل إلى تسوية مع العسكر تجعل منها ـ من "قحت" ـ الحاضنة للحكومة المرتقبة (كما كان الحال مع حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك التي أطاح بها انقلاب البرهان الأخير)
وفي إطار منهج الفهلوة، وتقاسم الأدوار
اعتلى نائب البرهان في رئاسة مجلس السيادة، ف. ا. (فريق افتراضي) محمد حمدان دقلو
الشهير بحميدتي، المنبر قبل ثلاثة أيام، ونعى على حكومة هو الرأس الثاني فيها أنها
تتصدى بعنف لمعارضيها وتتعامل بلطف مع مناصريها، وأضاف قائلا إنه يناصر التغيير
الذي يفضي الى قيام حكم مدني، ولم يفتح الله عليه حتى الآن بكلمة ليوضح لماذا
يستمر في تعزيز قدرات المليشيا الموازية للجيش الرسمي، التي يقودها هو وأخوه عبد الرحيم،
بينما حل تلك المليشيا أو دمج العناصر الصالحة منها في الجيش مطلب رئيس للقوى التي
تنشد التغيير والحكم المدني، وآخر ابداعات حميدتي في هذا الصدد هو ـ على ذمة صحيفة
هآرتس الإسرائيلية ـ الحصول على أجهزة تجسس ذات قدرات عالية من أوروبا عبر اليونان
ومنها إلى السودان عبر وسيط إسرائيلي، وتقول ومجلة لايتهاوس ريبورتس الأمريكية أن
تلك الأجهزة قادرة على اختراق نظام الاندرويد للتراسل والاتصال، وكامل شبكات
الاتصالات، وذات كفاءة عالية في التجسس البصري، والتنصت، والرصد عبر شبكات واي
فاي، والتعقب الجغرافي، واعتراض مكالمات الهاتف الجوال بنظام جي اس ام، وغني عن
القول إن شخصا يعرض أمن جيش بلاده الرسمي لخطر الاختراق ويعتزم التجسس على مواطني
بلاده، له أجندته الخاصة كما له جيشه الخاص.
ولأنه يراهن على قدرته على الانقلاب على أي
حكم مثنى وثلاث ورباع، فإن الذكاء السياسي المحدود يخون البرهان وهو يقوم بتسويق
تسوية جديدة مع قحت، فقد وقف أمام ثلة من ضباط الجيش قبل أيام قليلة، وقال
"أي زول يتدخّل في عمل الجيش نحن ح نقطع لسانه"، وكان ذلك بمثابة تأكيد
بأنه يريد أن يبقي الجيش دولة داخل الدولة السودانية، ولا يجوز لحكومة أن تقرر في
أمر هيكلته أو دمج المليشيات المتحالفة مع البرهان فيه، ومعلوم أن البرهان وكبار
الجنرالات لا يعنيهم من امر الجيش سوى المؤسسات الاقتصادية العملاقة التي يسيطر
عليها والتي لا يعرف أحد يقينا أين تذهب معظم عائداتها.
ورغم أن قيادات "قحت" تتسول
التسوية من البرهان، إلا أن بعض عناصرها باتت تتخوف من أن التفاوض حول التسوية
يسير ببطء يشي بأن البرهان يريد تطويل أمده، على أمل أن تفقد "قحت" ما
تبقى لها من رصيد شعبي، فيجد في ذلك فرصة لعسكرة الحكم تماما، وهي الغاية التي
جعلته يلجأ إلى الحسم العسكري كلما أراد أن يقطع شوطا في الطريق لتنصيب نفسه رئيسا
للدولة، وليس فقط رئيسا لمجلس السيادة.