تتعالى أصوات من داخل نظام السيسي أو بعض المحسوبين عليه، ومن داخل تيارات أخرى ترفض الانقلاب العسكري في
مصر، بمطالبة الإخوان بإجراء
مراجعات، ومن آخر من دعا الإخوان للمراجعات الأستاذ منتصر الزيات، وقد كان طرفا رئيسيا في إجراء مراجعات الجماعة الإسلامية أيام حكم الرئيس الراحل مبارك.
كتب الزيات دعوته عبر تويتر، فقال: (البقاء في السجون، وتلبس حالة المظلومية لن يكون الحل الأمثل لاحتواء أزمة طالت، أعتقد أنه على القيادات الموجودة داخل السجن أن يتخلوا عن صمتهم، وأن حديثهم الإيجابي عن الأخطاء التي وقعت خلال تجربة الحكم سوف يقضي على الفوضى الحاصلة بين فرقاء الفصيل الإسلامي ويوقف المزايدات).
وقد جاءت فكرته أو دعوته عبر عدة تغريدات، والزيات الذي قام بدور ملموس في مراجعات الجماعة الإسلامية، يقيس نظاما على آخر، وجماعة على أخرى، يختلف كل منهما عن الآخر تماما، ويختلف الظرف التاريخي والفكري والسياسي في آن واحد، ولا أعلم هل يدري ويعلم هذه الفروق جيدا، إذ لو كان يدري لما كتب حرفا مما كتب.
ولست هنا بصدد مناقشة كلام الزيات لشخصه، بل أناقش فكرة تتجدد كل فترة، وللأسف نلاحظ أنها توجه دائما في الاتجاه الخطأ، فليس طلب مراجعات للإخوان طلبا مرفوضا من حيث المبدأ، بل مرفوض من حيث المسلك المطلوب، فمراجعات الإخوان المقصود بها النقد الذاتي للجماعة في أدائها، سواء قبل ثورة يناير أو بعده، وقبل الانقلاب وبعده، هو مطلب ضروري وملح، وأحق من يقوم به من بالخارج، سواء خارج السجن، أو خارج مصر.
وذلك لأن الزيات نفسه وأصحاب هذه الدعوات يعلمون أن السجين في مصر السيسي تحديدا ليس ممكنا من أقل متطلبات الحياة، ولا ضروراتها الرئيسية، فإذا كان السجين محروما من الحق الطبي في العلاج من أمراض تؤدي للوفاة، وأعتقد أنه وغيره يوميا يتابع عدد الوفيات في السجن جراء الإهمال الطبي، فكيف لمن يحرم من ضرورات الحياة، أن يطلب منه مراجعة ممارساته السياسية؟!
وقد قامت الإخوان في عهود سياسية أخرى بهذه المراجعات، كان أبرزها عندما انتشرت ظاهرة التكفير في السجون في عهد عبد الناصر، وقد كان اللقاء ممكنا، رغم التضييق، وقد كان التعذيب يستمر لفترة ثم ينتهي، وكانت الزنازين الانفرادية محددودة جدا في هذه العهود، وصدر عن ذلك كتاب: دعاة لا قضاة، رغم أن التكفير لم يكن نابعا عن الإخوان ولا تشكيلاتهم، لكنهم استشعروا خطورة الفكرة في السجن، وقد تصل الفكرة لمساجين الإخوان.
لكن السؤال الآن: ماذا سيراجع الإخوان في السجون؟ إن المراجعات التي تطلب للأسف نراها كلها تصب في خانة لا تعبر عن نضج من يطالبون بها، بل تشعر منها أنها مجرد دعوة تنطلق دون نضج في الفكرة، ولا نضج في طرحها، مع تقديرنا لأصحابها ونواياهم، لكن ما معنى أن يراجع الإخوان أداءهم السياسي فترة حكمهم؟!
هل سجن الإخوان، وأعدموا، وقتلوا بالتصفية خارج القانون، أو بالموت بالإهمال الطبي في السجون، هم وغيرهم، هل قتلوا لأنهم فشلوا في الحكم؟ هذا كلام ينطوي على هروب من مواجهة النظام الفاشي القاتل في مصر، لمواجهة المقتول، لأنه شارك في التجربة الديمقراطية، سواء نجح المشارك أم فشل، إن الفشل السياسي معروف عقابه، هو أن تحرمه الجماهير من الحكم، ويأتي غيره، وهكذا، كل دورة انتخابية تكافئ الجماهير أو تعاقب من تصوت له أو عليه، وذلك يكون عبر صناديق الانتخابات، وليس صناديق الذخيرة.
لن أناقش هنا هل فشل الإخوان سياسيا في تجربتهم أم لا؟ لكن سأنتهي مع المناقشين إلى أن الإجابة نعم، وبالإجماع، فهل من فشل سياسيا يلقى به في غياهب السجون حتى الموت؟ هذا معناه أننا نحكم بقتل السياسة والعمل السياسي، ولو طبقنا ذلك على كل نظام يحكم ويفشل فمعناها أننا حكمنا كذلك على نظام السيسي، وكل نظام سيأتي نطبق عليه نفس المبدأ، وهو ما لم يقل به سياسي على مدى اتاريخ السياسي والفكر السياسي، ذلك ضرب من الجنون والخبل الفكري والسياسي معا.
وإذا كانت مراجعة الأخطاء السياسية حتى يخرج الإخوان من السجون، هي الإجراء اللازم، فهل هذا المطلب من السلطة التي سجنتهم، وسجنت المدنيين معهم؟ أم هو حدس وتخمين ممن يطالبون بالمراجعات؟ لقد رأينا علاء عبد الفتاح وغيره من التيارات الأخرى، لم يشاركوا في حكم، وليس لهم تجربة حكم، فهل مطلوب منهم إجراء مراجعات كي يخرجوا؟ ومن وضع هذا المعيار للإفراج عن المسجون السياسي؟
إن السلطة نفسها التي أفرجت عن أناس تحت باب العفو الرئاسي، قامت باعتقال أفراد خرجوا، لمجرد أنهم شكوا من سوء الأحوال المعيشية للمفرج عنه، لأنه لا يجد عملا، أي أنها شكوى اقتصادية لا تمس النظام من قريب أو بعيد، ومع ذلك تم اعتقال الناشط شريف الروبي لأنه عبر عن شكواه من سوء أحواله المالية لعدم وجود عمل.
وإذا كانت مراجعات الإخوان مطلوب منها أن تسير في اتجاه أدائها السياسي، فقد تم ذلك من الإخوان في الخارج، وكان آخرها التوجه الذي كان نتيجة دراسة، وإعلان الإخوان عن عدم الخوض في الصراع السياسي، وقام بالتصريح به الأستاذ إبراهيم منير رحمه الله القائم بأعمال المرشد، أي من جهة قيادية معتبرة، ومع ذلك، كيف كان رد الفعل حول هذه المراجعة المهمة؟ قوبلت بالتشكيك - فضلا عن المزايدة - من جهات عدة وعلى رأسها: إعلام النظام نفسه.
إننا أمام سلطة ليس لها كتالوج يمكن فهمها عن طريقه، ولذا لن يكون هناك أي قيمة أو فائدة من إجراء أي فصيل إخواني أو غيره لمراجعات تتعلق بأدائه على مستوى السياسة، أو التعامل مع السلطة، لأنه سيكون مثل: حب من طرف واحد، يكون فيه الطرف الآخر: لا يرى، ولا يسمع، ولا يعير اهتماما.
منتصر الزيات وغيره يعلم علم اليقين، أن أي فعل لا بد من رد فعل مناسب له، يمهد له، ويضمن استمراره، وقد صرح كثيرا قيادات الإخوان بترحيبهم بكل إجراء تصالحي، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع صيغ وطريقة هذه التصريحات، وكل فترة تخرج بالونات اختبار إعلامية بهذا الشكل، من جهات عدة، وتقوم بطرح السؤال الغلط على الإخوان: ما موقفكم من المصالحة مع السيسي؟ وتجيب الإخوان إجابات إيجابية، ولا تكون هناك دعوة أو رد فعل مناسب من النظام نفسه، سوى اعتقالات أكثر، وقتل أكثر.
أذكر أننا قمنا بعقد حلقة نقاشية سياسية وشرعية، لمعظم المكونات لرافضي الانقلاب، وكان ذلك سنة 2015م، وتم مناقشة كل المسارات وجدواها، ومما لا يعلمه الكثيرون سواء داخل الإخوان أو خارجهم، أن من ضمن المسارات لذلك كانت مناقشة: التصالح مع السلطة في مصر، وشروطه وضوابطه، وتم كتابة ورقة بحثية في ذلك، وتم مناقشتها، وللمفارقة العجيبة أن كاتب الورقة تم اعتقاله في مصر بعد الورقة ببضع أسابيع، ولا تعلم السلطة بالتأكيد أن له ورقة في الموضوع، ولا أعلم هل كان موقفها سيتغير معه لو علمت بأمر ورقته ونقاشه أم لا؟!
وماذا لو مددنا الخط على استقامته، فبحثنا في شأن المعتقلين الإسلاميين والمدنيين في بلدان أخرى، مثل السعودية، أو دول أخرى، هل بالفعل يحتاج مثلا الشيخ سلمان العودة وإخوانه لمراجعات كي لا يظل في السجن أكثر، لقد سجن لأنه دعا لأن يصلح الله ذات بين الحكام، ويؤلف بين قلوبهم، فتم سجنه، ثم تصالح النظامان القطري والسعودي، فهل تم الإفراج عمن اتهموا بالدعوة لذلك؟
وهل قامت الأنظمة التي عادت حلفاء الإخوان بمراجعة نفسها وسياستها؟ الحقيقة لا، فهل راجع نظام السيسي موقفه لماذا عادى قطر وتركيا، ولماذا تم الصلح الآن؟ إن البعض للأسف يوجه خطابه دائما لمن يملك عليه حق التدلل والنصح والعتاب، وإن كان حديثه يتوجه للوجهة الخطأ، بينما لا يتجه بخطابه الصحيح لأهله، فالخطاب أولى أن يوجه بالمراجعة للسلطة التي تقوم على عداء الشعب.
إننا أمام سلطة لا تفكر إلا بمصلحتها الشخصية وتحديدا المالية، فالمساجين بالنسبة إليها هم رهائن، وأسرى، ما يهمها منهم: هو الانتقام، سواء بالقتل بالقانون أو خارجه، أو استفادتها بمقابل مالي يكافئ شهوتها في الانتقام، أو يفوقه، ولا تفعل ذلك إلا مكرهة، رأينا ذلك فيمن تم الإفراج عنهم تحت ضغوط دولية، فكان لضغوط ودفع مقابل مالي ضخم، وإن بدا في صورة معونات، أو مشاريع اقتصادية.
إننا أمام سلطة ليس لها كتالوج يمكن فهمها عن طريقه، ولذا فلن تكون هناك أي قيمة أو فائدة من إجراء أي فصيل إخواني أو غيره مراجعات تتعلق بأدائه على مستوى السياسة، أو التعامل مع السلطة، لأنه سيكون مثل حب من طرف واحد، يكون فيه الطرف الآخر لا يرى، ولا يسمع، ولا يعير اهتماما.
[email protected]