أكاديمي
قطري مشهور دافع، في حسابه على تويتر، عن
سياسات قطر في "المونديال"، غير المستجيبة للمعايير
الغربية، لا سيما
فيما يخصّ من يُسمّون أنفسهم بـ"المثليين"، قائلاً إنه على الغربيين أن
يدركوا أنّ قيمهم ليست عالمية، وإنّ الإنسانية لم تنصّبهم متحدّثين باسمها، وإنّ
هناك ثقافات أخرى بقيم مختلفة يجب احترامها على نحو متساوٍ.
حازت تغريدته هذه على تفاعل واسع بين المعقّبين غير
العرب. لم يكن المختلفون الغربيون مع التغريدة يتغافلون فحسب عن التسييس المفرط في
الغرب في كيفيات تعاطيه مع قيمه المزعومة (ستبقى "إسرائيل" والحالة هذه
النموذج الذي يخلع العين الغربية الوقحة)، ولكنّهم حاسبوا التغريدة إلى مضمونها
الإشكالي، وهنا جوهر المشكلة من الناحية العربية/ الإسلامية، بغض النظر عن كلّ ما
يمكن قوله بخصوص النفاق الغربي متعدّد الوجوه.
فقد افترضت التغريدة أنّ الموقف الإنسانيّ العامّ
ينبغي أن يمنح الاحترام المتساوي لمختلف
القيم الناجمة عن الثقافات المتعدّدة، ولمّا
كان الأمر كذلك، ستكون قطر وفق هذا الافتراض غير الدقيق، أو وفق الظاهر الذي لعلّ
الأكاديميّ لم يقصده، مطالبة باحترام القيم المعبّرة عن نفسها في حدث عالميّ سعت
قطر بمئات المليارات لاستضافته على أرضها، وهذه الثغرة نفذ منها الغربيون
المختلفون، مع صاحب التغريدة المشار إليها، لمطالبة قطر بالتزام هذا الاحترام
المتساوي إزاء مختلف القيم التي لا بدّ وأن يظهر تباينها، وتنافرها، في حدث
عالميّ يستقطب البشر من مختلف المجتمعات والثقافات!
ستبقى كلّ وحدة سياسية عربية/ إسلامية، تعاني إشكالية المرجعيّة، بين سقف هذا النادي باتفاقياته وأعرافه ووقاحة مؤسّسيه وقادته، وبين ثقافتها الخاصّة، بما في ذلك مفهوم المواطنة، الذي حين مدّه إلى أقصاه سوف يضرب كل نظرياتنا عن قيمنا الخاصّة، ويفتح المجال للتعالي الغربي
يمكن عدّ صياغة التغريدة المشار إليها خطأ فنّيّاً،
لكنّه أفضى إلى أن يتجلّى فيها موقفان، حول موقعنا نحن العرب والمسلمون من الحداثة
الغربية. من جهة، استبطنت هذه التغريدة طلباً بالاعتراف في حقنا في الاختلاف، ولكن
هذه المطالبة لا تخلو من تناقض؛ أولاً لكونها تطالب بالاختلاف في قلب المختلف معه
وعنه، أي الحداثة الغربية، أي أننا نطلب لأنفسنا موقعاً فيما نختلف معه، ثمّ ونحن
نقول لهذا الذي نختلف معه إنه ليس عالميّاً ولا متحدّثًا باسم الإنسانية، نطالبه
بحقّنا وكأنّه صاحب القرار بشأن حقّنا، وهو ما يعني وعياً ضمنيّاً بأنه عالميّ
ومتحدث باسم الإنسانية!
هذه المفارقة تحديداً هي التي يلج من خلالها الغربي، الذي
لا يردّ المنطق بمثله فحسب، بتأكيده على كون الاحترام ينبغي أن يكون في الاتجاهين
على نحو متقابل ومتساوٍ (وهذا مرّة أخرى بغض النظر عن تغافله عن كونه المعبّر
الأبرز عن
العنصرية العرقية والثقافية كما يستعلن ذلك في العديد من بلدانه، ويرتضي
لنفسه من القوانين ما تعني بالضرورة الاحتكام إلى قيم لا ترتضيها فئات من جذور
ثقافية مختلفة ولكنها ارتضت جنسية هذه الدولة الغربية أو تلك)، ولكنه يتساءل عن
ماهيّة العالمية، والحالة هذه!
أي أنّ
كأس العالم حدث عالميّ، بفضل الغرب تحديداً،
فمن أراد أن يدخل نادي هذه العالمية، عليه أن يدخل إليها بقوانينها وقيمها
المستفادة من صنّاعها. وبكلمة أخرى، حينما تقرّر استضافة حدث عالميّ لم تبتدعه أنت
ابتداء، وتستضيف فيه شعوباً من ثقافات مختلفة، بقيم مختلفة، وتحوّط إدارتك له
بادعاء ضرورة احترام قيم البلد المضيف، فعليك احترام تقاليد هذا الحدث (هذا ما
يمكن أن يتجلّى فيه الموقف الغربي، على ما فيه من دجل، لا موقفي أنا!).
علينا أن نقرّ، قبل أن نتحدث عن الثقافات، أنّ مفهوم
الدولة الحديثة هو أبرز تجلّيات الحداثة الغربية، قبل أن ندخل في سيولة لا متناهية
من تحطيم المرتكزات المعرفية وفق السيرورة الغربية نفسها، التي تريد أن تجعل من
نفسها معياراً للبشر، وهذه الدولة هي التي تقيم العلاقة مع سكانها على أساس
المواطنة، التي تفترض نظريّاً التساوي بين مختلف فئات المواطنين. وبالرغم من أنّ
الالتزام العملي بهذا الافتراض النظري قاصر نسبيّاً بين دولة غربية وأخرى، فإنّ
صانع النموذج، المتمتّع بالقوّة، يملك من الوقاحة الكافية ليقول الشيء ويحاسب غيره
على أساسه، ثم يفعل هو ما يناسبه وفق وقائعه السياسية، مما يبقي السؤال مطروحاً
على هذا الغير، أنّه أصلاً داخل هذا النادي الذي صنعه غيره، أي النظام الدولي
المستند إلى مفهوم الدولة الحديثة.
ستبقى كلّ وحدة سياسية عربية/ إسلامية، تعاني إشكالية
المرجعيّة، بين سقف هذا النادي باتفاقياته وأعرافه ووقاحة مؤسّسيه وقادته، وبين
ثقافتها الخاصّة، بما في ذلك مفهوم المواطنة، الذي حين مدّه إلى أقصاه سوف يضرب كل
نظرياتنا عن قيمنا الخاصّة، ويفتح المجال للتعالي الغربي، لأننا قبلنا بالمبدأ ثم
أخذنا نناقش في التفاصيل!
أنفقت قطر على بناها التحتية ما لم تنفقه دولة في التاريخ، لتكون مؤهّلة لاستضافة كأس العالم. ومع كلّ ما يمكن أن يقال عن كون هذا استثماراً باقياً في البنية التحتية لأبناء البلد، وقابلاً للبناء عليه في تطوير مداخيل البلد الاستثمارية، فإنّ ذلك لم يكن كافياً لدى المنافق الغربي لاحترام قطر، لأنّ التحديث في البنى المادية الظاهرة يثير حسده، ولا يستدعي احترامه
ماذا تفعل هذه الوحدات السياسية المقهورة؟ ستبحث
لنفسها عن مبرّر في هذا النظام، ليس فقط بسبب منافذ الاستبداد التي تجعلها مستندة
للقوى الخارجية، ولكن لأنّها، وهي الضعيفة الطالبة لموقع في نظام لم تؤسّسه، لا
بدّ وأن تبرّر أهمّيتها في هذا النظام، بخدمات معلنة ومخفية لسادة النظام، وبصفقات
سلاح لن يُستخدم أبداً، وبرشاوى استثمارية، وبأدوار وظيفية، وإثباتات متنوعة من
الجدارة.. وما إلى ذلك، ولتحمي نفسها من بعضها!
لقد أنفقت قطر على بناها التحتية ما لم تنفقه دولة في
التاريخ، لتكون مؤهّلة لاستضافة كأس العالم. ومع كلّ ما يمكن أن يقال عن كون هذا
استثماراً باقياً في البنية التحتية لأبناء البلد، وقابلاً للبناء عليه في تطوير مداخيل
البلد الاستثمارية، فإنّ ذلك لم يكن كافياً لدى المنافق الغربي لاحترام قطر، لأنّ
التحديث في البنى المادية الظاهرة يثير حسده، ولا يستدعي احترامه، ولأنه معتقد
بكونه متفوقاً علينا قيميّاً.
اعتقاد التفوق القيمي هو ما ردّ به بعضهم على التغريدة
المشار إليها في مفتتح هذه المقالة. قال بعضهم إن قيمنا ليست عالمية، لكنها متفوقة
على قيمكم، بمعنى أنّ الحديث عن الاحترام المتساوي غير حاصل أصلاً. ونفي العالمية
هنا ليس مقصوداً به نفي قيادة القيم الغربية للعالم، أو نفي كونها المرجعية الواجبة
للعالم، وإنما المقصود به هو نفي التساوي، فليس أمام من كان خارج العالم الغربي
إلا أن يقبل بالتبعية الأبدية، لأنه ومهما قبل بمرجعية القيم الغربية، فلن يتمكن من
التأهّل الكامل لها، فلا سبيل له إلا التطامن الدائم لها!
أمام ذلك ما سبيلنا، وهذا هو مآل طلب الاعتراف
المستخذي؟
لا سبيل إلا سبيلنا الخاص، خارج هذا النادي برمّته..
لكنّه ما لا نرغب أن نفكّر فيه، أو يصعب على خيالنا تصوّره، وقد أبّدنا فيه
النموذج الغربي نهاية للتاريخ!
twitter.com/sariorabi