يُفسر بالتصوف ما لا يُفسر بغيره!
فقد شاهدنا كيف أن المنتخب
القطري لكرة القدم، في
مباراتين سابقتين في المونديال، بدا كَلًّا على مولاه، إلى درجة القول إن قطر
اهتمت بكل التفاصيل الخاصة باستضافتها لكأس العالم، ونسيت الاهتمام بمنتخبها، الذي
أدى أداء هو الأسوأ لصاحب الأرض في تاريخ
كأس العالم، ولدرجة أن هناك، وبدوافع
الإحباط، من طالبوا بسحب الجنسية من أعضاء الفريق، الأمر الذي تصورت معه ما كان
يمكن أن يحدث له لو كان هذا هو منتخب العراق، في وجود نجل الرئيس الراحل صدام
حسين!
لا نعرف مدى صحة ما كان شائعاً من القسوة المفرطة التي
كان يستخدمها عدي صدام حسين، إذا هُزم المنتخب العراقي، أو كان أداؤه سيئاً في إحدى
المسابقات الخارجية، وبالتجارب فإن كثيراً مما ينتشر تختلط فيه الحقائق بالأساطير،
لكن كأني بنجل الرئيس صدام -رحمهما الله تعالى- وهو يحمل كرباجاً سودانياً وينتقم
للجمهور من هذا الأداء. وسمعة الكرباج السوداني متوارثة في مصر، منذ عهود استخدم
فيها الهجانة ضمن أدوات السلطة في حفظ الأمن، وفي الهجوم على السودان، وقد انتهى
زمانهم، ولم يتبق من سيرتهم سوى عزبة تحمل الاسم، وهي "عزبة الهجانة"
على الأطراف الشرقية للعاصمة المصرية، قبل ضم العاصمة الإدارية الجديدة للقاهرة،
لتكون من امتداداتها الشرقية!
هل كان أحد يتصور أن هذا البلد الصغير الذي يعاير بصغر حجمه، والذي يعد سكانه أقل من سكان حي شبرا في مصر (كما تقول دعاية الأبواق الإعلامية هناك)، يمكن أن ينظم هذه الكأس، ومنذ أن قررت الدوحة الدخول في المنافسة لتفوز بذلك، ليكون هذا البلد الصغير هو أول بلد في المنطقة يستضيف قمة كروية هي الأولى على مستوى العالم؟!
لك أن تتصور أن المنتخب القطري، صاحب الأداء البائس في
المباراتين السابقتين (حتى كتابة هذه السطور) هو نفسه الذي فاز قبل أقل من ثلاث
سنوات (شباط/ فبراير 2019) بكأس آسيا، ولم يكن يلعب على أرضه، فقد كانت المباريات
على أرض خصم، في الإمارات، وهي واحدة من الدول الأربع التي تحاصر قطر، وهمّوا بما
لم ينالوا عندما فكروا في غزوها، وفي غياب مشجعيه، وإن كان المشجعون العمانيون
قاموا بالواجب، في لحظة تجلّى فيها نقاء القوم وأصالتهم، فكان من مواقف الجبر في
أيام الحصار، وفي مشهد كلما تذكرته تذكرت هذه المرأة من الأنصار، التي جلست مع
السيدة عائشة وقت فتنة حديث الإفك تشاركها البكاء، قبل أن تنصرف، فلما برأها الله
تعالى، قالت عائشة: والله لا أنساها لها أبداً.
الجالسون للساقطة واللاقطة:
في أيام كثر فيها العدو وقل الصديق، انتزع المنتخب
القطري كأس آسيا، من فم الأسد، بعد فوزه على اليابان، وكان قد فاز على منتخبات
عدة، والقائمة تبدأ من منتخبي الإمارات والسعودية، ولا تنتهي بمنتخبي الكوريتين
الشمالية والجنوبية!
كان هذا في وقت الشدة والقطريون في حاجة إلى هذا النصر، أما
في وقت الرخاء فقد شاهد الجميع منتخباً مترنحاً لا يقوى على الصمود، ولم يكن القوم
وسط هذه الانتصارات يعولون عليه. ولك أن تتصور كذلك أنه لو كتب له الفوز فيما لعب
من مباريات، فمن المؤكد أن الخصوم الذين يجلسون للساقطة واللاقطة، سيتحولون إلى
نقاد رياضيين، ويتحدثون عن أن المال القطري اشترى الفريق المنافس، أو اشترى
التحكيم، أو اشتراهما معاً. وإذ كان هناك من بشّر بالهزيمة قبل وقوعها، وذهب إلى
أهله يتمطى بعدها، فقد فاتهم أن القطريين لم يكن يخطر ببالهم أن جنوناً تلبسهم حتى
ظنوا معه أنهم يمكن أن يفوزوا بكأس العالم، فالانتصار في تنظيم المونديال وليس في
الفوز بالكأس!
هل كان أحد يتصور أن هذا البلد الصغير الذي يعاير بصغر
حجمه، والذي يعد سكانه أقل من سكان حي شبرا في مصر (كما تقول دعاية الأبواق الإعلامية
هناك)، يمكن أن ينظم هذه الكأس، ومنذ أن قررت الدوحة الدخول في المنافسة لتفوز
بذلك، ليكون هذا البلد الصغير هو أول بلد في المنطقة يستضيف قمة كروية هي الأولى
على مستوى العالم؟!
إن مجرد التفكير في دخول المنافسة منذ البداية هو ضرب من
جنون، عندما نعود بالذاكرة إلى الوراء، ولولا عدم انشغالي بهذه اللعبة لكتبت أن
هذا جنون يحتاج إلى علاج!
إن ما قاله أحد الإعلاميين قبل سنوات من أن قطر لن تنظم
كأس العالم، كان هو الاعتقاد السائد، وما قاله آخر إن قطر نفسها لن تكون موجودة في
2022، كان اعتقاداً يعززه الواقع والحصار يهم بالغزو، لولا أن رأى برهان ربه!
وبعيداً عن الذين أصابهم ما أصاب إخوة يوسف، فهل كان أحد
من أصدقاء قطر وحلفائها إلى قبل شهور من الآن، يعتقد أن قطر ستنظم كأس العالم لهذه
الدورة، ومجنون روسيا يجزم أنه لن يكون هناك كأس عالم هذا العام، رداً على قرار
جائر باستبعاد منتخب بلاده من المنافسة، وبما يكشف أن الحديث عن الفصل بين السياسة
والرياضة هو وهم رائج في عالمنا العربي فقط، تماماً مثل شعار الفصل بين الدين
والسياسة؟!
هل كان أحد من أصدقاء قطر وحلفائها إلى قبل شهور من الآن، يعتقد أن قطر ستنظم كأس العالم لهذه الدورة، ومجنون روسيا يجزم أنه لن يكون هناك كأس عالم هذا العام، رداً على قرار جائر باستبعاد منتخب بلاده من المنافسة، وبما يكشف أن الحديث عن الفصل بين السياسة والرياضة هو وهم رائج في عالمنا العربي فقط، تماماً مثل شعار الفصل بين الدين والسياسة؟!
نسخة مبهرة:
إلى وقت قريب كان من المستحيل الاعتقاد أن قطر ستستضيف
فعلاً كأس العالم هذا العام، فإذا بالعالم كله يشاهد نسخة مبهرة من المونديال،
وافتتاحا لفت انتباه الجميع، شكلاً وموضوعاً، ورسالة ومدلولاً، وإذا بهذا البلد
الصغير ينتصر بتنظيم المونديال، وينتصر بتنظيم أربع مباريات على مدار اليوم، وكل
اليوم، بمشجعيها، وليس لدي رغبة بمقارنات عن مباريات تعقد في دول الجوار بدون
جمهور!
ثم ليكون الانتصار الكبير بنجاح قطر في
فرض قيمها وتقاليدها
على هذا المحفل الدولي الكبير،
فلا خمور في الملاعب، ولا رفع لشارات الشذوذ، مع
هذا الهجوم الغربي الحاد، ودّوا لو تدهنوا فيدهنون، ليكون في دخول وزيرة الداخلية
الألمانية إلى الاستاد وهي تخفي "جريمتها" تحت معطفها، لتخلعه في الداخل،
رسالة انتصار للدوحة، التي فرضت تقاليدها على ضيوفها، فلم تنظم المونديال العالمي
وفق ثقافة الدول الكبرى!
كنا ندرك أن قطر قبل بدء المونديال لن تصمد أمام هذا الضغط الغربي، بل كان منا من يعتقد أن حديث القيم والتقاليد هو للاستهلاك المحلي؛
وعندما تتحرك السفينة وتغادر الشاطئ ستفرض قوانينها الخاصة، وكنا نستهين بالإرادة
القطرية، فكيف لها أن تتحدى كبار العالم وسادته؟!
وإذا كان تنظيم قطر للمونديال هو انتصار لهذه المنطقة
جميعها، فبهذه الإرادة انتصرت قطر لقيم العرب والإسلام، بدون أن تقدم نفسها على
أنها زعيمة العالم الإسلامي، أو أنها يمكن أن تنافس أحداً على أدواره، ولو تلك
التي تخلى عنها أصحابها بإرادتهم الحرة، لكن الكره يعمي ويصم!
لقد انبعث أشقاها، وما أكثر الأشقياء، ليرد النجاح إلى امتلاك
قطر للمال، والمال يعجز عن تنظيم دورة محلية، وكم من دولة تملك المال، فأنفقته
فيما لا ينفع الناس ولا يمكث في الأرض، والمال المنفق على البنية التحتية في قطر،
وإقامة الملاعب، هو نصف ما أنفقته دولة ما على بنية تحتية لا تُرى بالعين المجردة،
ومرة أخرى نذكر بأنه لا تستهوينا المقارنات!
الدول الجادة تنفق على مؤسسات القوى الناعمة الكثير، وإذا كانت الجزيرة هي من قوى قطر الناعمة، فإن بالمونديال تخلّقت مؤسسة أخرى، هو اسم الدولة نفسه "قطر"، فلم تعد قناة تلفزيونية ظهرت لها دولة، بل صارت دولة أشهر من نار على علم تملك أقوى قناة تلفزيونية
إن دولاً أنفقت على إنشاء قنوات تلفزيونية أكثر مما
أنفقت الدوحة على قناة الجزيرة، وبرواتب أكبر من رواتب العاملين في الجزيرة، لكنها
فشلت في معركة المنافسة، لأن الجزيرة توفرت لها الإرادة السياسية لتكون هكذا، فليس
بالمال وحده تحدث الانتصارات الكبرى، فالمال بدون الإرادة ينتج عبثاً وسفهاً في
الإنفاق يلزم الحجز قانوناً على صاحبه!
لست مع الذين تستهويهم ثقافة عد الرؤوس عمن دخلوا
الإسلام ومن خرجوا منه، ومن اهتدوا للدين بسب الدعوة لاعتناقه على هامش كأس
العالم، لكن ما يعنيني هو النجاح في معركة القيم، وفي أن تفرض المنطقة وجودها باستضافة
المونديال وبهذا التنظيم الجيد!
إن الدول الجادة تنفق على مؤسسات القوى الناعمة الكثير،
وإذا كانت الجزيرة هي من قوى قطر الناعمة، فإن بالمونديال تخلّقت مؤسسة أخرى، هو
اسم الدولة نفسه "قطر"، فلم تعد قناة تلفزيونية ظهرت لها دولة، بل صارت
دولة أشهر من نار على علم تملك أقوى قناة تلفزيونية، وفي المستقبل إذا فكر متربص
في العدوان عليها، فسيكون اسم الدولة بجانب مدفعيتها الثقيلة ممثلة في قناتها وفي
دبلوماسيتها، قوة لا تغلب، فالرأي العام العالمي كله، سيكون على دراية على من يقع
العدوان أو التفكير فيه!
إنه النجاح الذي لا يمكن استيعابه إلا في إطار تجليات
المتصوفة وليس شطحاتهم!
twitter.com/selimazouz1