تعددت الأسماء والأوصاف وتضاربت التحليلات، فهي "معركة بلاط الشهداء" عند العرب والمسلمين أو "معركة تور" أو "معركة بواتييه" عند الفرنجة، لكن النتيجة واحدة، فقد توقف الزحف الإسلامي داخل الأراضي الفرنسية.
غالبية من كتبوا عن هذه المعركة غلفوها، وألقوا عليها ظلال المسحة الدينية، باعتبارها دارت بين جيش المسلمين وجيش المسيحيين، رغم أن الدراسات الأكثر حداثة وتجردا تتحدث عن الطابع السياسي للمعركة أكثر من ذكرها للجانب الديني، كما أنها تقلل من أهميتها الاستراتيجية.
يعد عبد الرحمن
الغافقي من التابعين، فقد وصف في كتب المؤرخين العرب بأنه كان رجلا صالحا، جميل السيرة في ولايته، عدل القسمة في الغنائم، وكان حاكما قديرا في إدارة شؤون دولته، وتجمع الروايات التاريخية على كريم صفاته، وتشيد بعدله، ولم يكن غريبا أن يحبه الجند لرفقه ولينه، وتقبل القبائل العربية به قائدا، فتكف عن صراعاتها، ويسود الوئام إدارة الدولة والجيش.
وقد كان الغافقي قائدا عسكريا بارعا، ظهرت قدراته العسكرية في نجاحه في الانسحاب بجيش المسلمين من "معركة تولوشة" أو "معركة تولوز" في بلاد الغال جنوب فرنسا، كما أجمعت النصوص اللاتينية على قدراته الحربية والإدارية، حتى عده المؤرخون أعظم ولاة الأندلس.
كان شهر رمضان من عام 113 هجرية الموافق 732 ميلادية على موعد مع معركة كتب، ولا يزال يكتب عنها الكثير؛ نظرا لخصوصية المكان الذي وقعته فيه، ولنتائجها الحاسمة على مستقبل أوروبا، فقد وقعت في مكان يقع بين مدينتي "بواتييه" و"تور" في سهول فرنسا.
وكانت بين قوات المسلمين تحت لواء الدولة الأموية، بقيادة والي الأندلس عبد الرحمن الغافقي من جهة، وقوات الفرنجة والبورغنديين بقيادة شارل مارتل من جهة أخرى، وانتهت بانتصار قوات الفرنجة وانسحاب تكتيكي لجيش المسلمين بعد استشهاد قائده الغافقي.
معركة حاسمة غيرت وجه التاريخ الإسلامي والأوروبي، قادها الغافقي متسلحا بالشجاعة والإيمان، فقد اتجه إلى فرنسا مع أضخم جيش يخرج تحت لواء الإسلام نحو قلب القارة الأوروبية، فاهتز العالم تحت سماع أخبار الانتصارات التي حققتها قواته، وإخضاعه لنصف فرنسا الجنوبي لحكم المسلمين خلال بضعة أشهر.
فنادى القائد العسكري شارل مارتل إلى التأهب للوقوف في وجه الخطر القادم من الشرق، واستجابت أوروبا لدعوته، فخرج الأوروبيون في جيش عظيم، وبعد بضعة أيام من الحرب كانت الغلبة من نصيبهم.
يعتبر كثير من المؤرخين الأوروبيين أن المعركة "أنقذت الوجود المسيحي في القارة الأوروبية"، و"لولاها لكانت علوم القرآن والحديث تدرس في جامعات العواصم الأوروبية حاليا"، ذلك أن انتصار المسلمين فيها كان سيفتح أمامهم الطريق نحو القسم الشمالي من القارة، بينما أطلقت المصادر الإسلامية على هذه المعركة اسم "بلاط الشهداء"؛ لكثرة من سقطوا فيها من الجيش الإسلامي، يتقدمهم القائد عبد الرحمن الغافقي.
اعتبر مؤرخو الفرنجة في القرن التاسع نتيجة المعركة "حكما إلهيا" لصالح الفرنجة، كما اكتسب شارل مارتل من حينها لقبه "المطرقة ".
واعتبر بعض المؤرخين القدماء مارتل بوصفه "بطل المسيحية"، واصفين المعركة بنقطة التحول الحاسمة في "الكفاح ضد الإسلام، ما حفظ المسيحية كديانة لأوروبا".
وعلى النقيض، انقسم المؤرخون الأكثر حداثة حول أهمية المعركة، واختلفوا حول ما إذا كان الانتصار مقبولا ليكون سببا لإنقاذ المسيحية وإيقاف الفتح الإسلامي لأوروبا؛ إذ يرون أن المعركة أسهمت في تأسيس الإمبراطورية الكارولنجية وهيمنة الفرنجة على أوروبا في القرن التالي.
ويؤكد المؤرخ الفرنسي فيليب سيناك، أن البعد العسكري للمعركة شكل سبب شهرتها ورسوخها في الأذهان الغربية، حيث كانت المعركة بداية لاهتمام الكنيسة بشخصية شارل مارتل، وأصبح البابا يراسله ويخاطبه بعبارة "ابني العزيز".
ويرى المؤرخ الإيطالي فرانكو كارديني في كتابه "أوروبا والإسلام"، بأنه "من الحصافة أن تقلل من أهمية أو نفي الصفة الأسطورية لهذا الحدث، الذي لا يعتقد أي شخص الآن أنه كان حاسما. إن أسطورة النصر العسكري المميز تدخل اليوم في نطاق الكليشيهات الإعلامية، التي لا يصعب القضاء عليها. فمن المعروف جديا كيف نسج الترويج للفرنجة وتمجيد البابوية للنصر الذي تم في الطريق بين تور وبواتييه".
وفي مقدمة كتابهما "رفيق القارئ إلى التاريخ العسكري" لخص روبرت كاولي وجيفري باركر وجهة النظر الحديثة هذه عن المعركة، قائلين: "إن دراسة التاريخ العسكري شهدت تغيرات جذرية في السنوات الأخيرة. فلم يعد نهج الطبول والأبواق القديم فعالا، لتقييم المعارك والحملات والخسائر. على سبيل المثال، العديد من المعارك التي أدرجها إدوارد شيبرد كريزي عام 1851 في كتابه المشهور "أكثر خمسة عشر معركة حسما في العالم" نذكر منها هنا، المواجهة بين المسلمين والمسيحيين في بواتييه- تور عام 732، التي كان ينظر إليها أنها حدثًا فاصلا، خفضت إلى مجرد غارة."
الموروث التاريخي الذي تراكم على مدى قرون لم يعتبر المعركة نصرا دينيا للمسيحية على الإسلام، حيث لم تبدأ هذه الفكرة في البروز إلا في القرن 19 من الميلاد، وجرى تبنيها فعليا مع أطروحة الأمريكي صامويل هانتنغتون المعروفة بعنوان "صراع الحضارات"، التي صدرت في تسعينيات القرن العشرين ولقيت القبول والترويج من قبل التيارات اليمينية الأوروبية المتطرفة.
ولا تزال الساحة التي دارت فيها المعركة معلما تاريخيا يزوره الفرنسيون والسياح؛ للاطلاع على فصول مما جرى فيها.
ولا يزال قول الباحث الإنجليزي والقس السابق جوزيف مارتن مكابى يتردد صداه في سهول فرنسا :" لا يزال المدرسون في مدارسنا يطنبون في مدح (شارل مارتل) الظافر قدس سره حين لقي العرب في سهول فرنسا وصدهم عنها وحفظ العالم من المدنية إذ لا يوجد في الدنيا مدرس في جامعة أو مدرسة يتجرأ أن يقول لتلامذته أن العرب أقاموا مدنية من أعظم مدنيات العالم".
وقول الروائي والناقد الفرنسي أناتول فرانس: "ليت شارل مارتل قطعت يده ولم ينتصر على عبد الرحمن الغافقي. إن انتصاره أخر المدنية عدة قرون".
وأيضا حين يقول الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون: " لو أن العرب استولوا على فرنسا لصارت باريس مركزا للحضارة والعلم منذ ذلك الحين حيث كان رجل الشارع في إسبانيا يكتب ويقرأ، بل ويقرض الشعر أحيانا، في الوقت الذي كان فيه ملوك أوروبا لا يعرفون كتابة أسمائهم" .