هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في منتصف سبتمبر/ أيلول الماضي، قامت ما تسمى بشرطة الأخلاق في طهران باعتقال الشابة الإيرانية مهسا أميني بسبب طريقة لبسها للحجاب بعد أن اعتبرت الشرطة أنّها لم ترتديه بشكل مناسب. بيان السلطات أشار إلى أنّه تمّ توقيفها مع أخريات بحجّة ضرورة تلقيها إرشادات بشأن قواعد اللباس، لكن سرعان ما فارقت الحياة بسبب توقّف قلبها على حدّ ادّعائهم. بموازاة ذلك، أشارت تقارير مستقلّة أنّ الفتاة تعرّضت لضرب مبرح خلال تواجدها في عهدة الشرطة، الأمر الذي تسبب بوفاتها.
على إثر ذلك، اندلعت تظاهرات في أنحاء مختلفة من البلاد احتجاجاً على ما جرى، وشهدت الحادثة تضامناً واسعاً من النساء الإيرانيات قبل أن يتّسع نطاقها وتصل مداها لاسيما في شمال البلاد وغربها حيث تتركّز القوميات الأذريّة ـ التركية والكردية. السلطات الإيرانية لجأت إلى الذرائع المعتادة في تفنيد ما جرى، إذ أنكر البعض أن تكون الشرطة مسؤولة عن مقتلها، واستنكر بعض موالي النظام استخدام مصطلح "قتل" في وصف حالة مهسا. علاوةً على ذلك، اتهمت السلطات الإيرانية أيادي خارجية في إشعال وتأجيج الاحتجاجات وتوجيهها.
وفي هذا السياق، اتهمت إيران الولايات المتّحدة وبريطانيا وعددا من الدول بالتدخل في شؤونها الداخلية، كما أنها اعتقلت عدداً من مواطني الدول الأوروبيّة مدّعية أنّ لهم دورا في إثارة الفوضى. وقامت السلطات الإيرانية بالخطوات التقليدية المعروفة من قطع للإنترنت إلى إلتقاط صور للمتظاهرين تمهيداً لملاحقتهم. وبعد أيام من التظاهرات الغاضبة، إستخدمت السلطات الإيرانية القوّة المميتة في وجه المتظاهرين، وتوعّدت من يريد المتابعة منهم بالاعتقال وصولاً إلى القتل.
الاستراتيجية الإيرانية تقوم عادة على مبدأ تصدير المشاكل وإلقاء اللوام على الآخرين في محاولة لرأب الصدع الداخلي ورص الصفوف وتجييش الموالين والمؤيدين من جهة، وتبرير القمع الداخلي المميت من جهة أخرى. المسألة الثانية الأكثر خطورة في هذا السياق هي مخاوف النظام الإيراني من أن تخرج الأمور عن السيطرة هذه المرة.
لكن الغريب في الموضوع، أنّه بموازاة هذه التظاهرات، قام الحرس الثوري بشن هجمات ضد مناطق داخل العراق في شمال أربيل بالمدفعية والصواريخ والمُسيّرات. وقد أدّت الهجمات الإيرانية، والتصعيد الذي يبدو للوهلة الأولى غير مفهوم، إلى حوالي 13 قتيلا و58 جريحاً، أغلبهم من المدنيين العراقيين. وبرّرت إيران الهجمات بأنها موجّهة ضد إرهابيين من الميليشيات الكردية المعارضة لإيران. واتهم الحرس الثوري المجموعات الكردية بـ"مهاجمة إيران والتسلل إليها لزعزعة الأمن وإثارة أعمال شغب ونشر اضطرابات".
التوقيت الإيراني لهذه الهجمات لا يمكن تفسيره إلاّ في إطار محاولة الهروب إلى الأمام وتصدير المشاكل إلى الخارج. الاستراتيجية الإيرانية تقوم عادة على مبدأ تصدير المشاكل وإلقاء اللوام على الآخرين في محاولة لرأب الصدع الداخلي ورص الصفوف وتجييش الموالين والمؤيدين من جهة، وتبرير القمع الداخلي المميت من جهة أخرى. المسألة الثانية الأكثر خطورة في هذا السياق هي مخاوف النظام الإيراني من أن تخرج الأمور عن السيطرة هذه المرة.
توصيف الوضع الإيراني الآن يتراوح بين المبالغة والتهوين. التظاهرات مهمّة وكبيرة من دون شك، لكن النظام لا يزال يتمتع بقدرة بطش رهيبة كذلك، وهو عادة ما يترك للتظاهرات أن تأخذ مداها لتنفيس الاحتقان قبل أن ينقضّ عليها لاحقاً. الظروف الداخلية والإقليمية والدولية القائمة تعطي التظاهرات الإيرانية الحالية أهمّية أكبر. السلطات الإيرانية فشلت في تحسين الوضع الاقتصادي، وحالة الفساد منتشرة، وكان من المفترض أن يكون هناك اتفاق نووي مع الولايات المتّحدة يؤدي إلى تعديل الموازين الداخلية، إلا أنّ ذلك لم يحصل. فضلاً عن ذلك، فإنّ التقارير حول الوضع الصحي السيئ للمرشد لا تزال تطارده في وقت لا يزال فيه الكثير من علامات الاستفهام حول مرحلة ما بعد المرشد وسط صراع الأجنحة وتغوّل الحرس الثوري في الاقتصاد والسياسية والأمن.
كل هذه المعطيات تجعل مستقبل إيران في حالة ضبابيّة، ومن الممكن جداً أن تخرج الأمور عن السيطرة في أي وقت. في هذا السياق، مخاوف النظام تتجلى في مناطق تمركز الأقليّات وليس في العاصمة كما قد يعتقد البعض. النظام يبدي حساسية عالية في السنوات القليلة الماضية تجاه المناطق التي تتمركز فيها الأقليات التركية والكردية والعربية والسنّية. للأقليّة التركية وضع خاص كونها ثاني أكبر مكوّن في البلاد بعد الفرس. ردّة فعل النظام الإيراني تجاه الحرب الأذربيجانية ـ الأرمينية قبل عامين وطريقة تعاطيه مع تزايد النفوذ التركي في القوقاز مؤشر قوي على ذلك.
الإيرانيون لا يميلون إلى مناقشة موضوع الأقلّيات والسلطات تنفي زوراً تعرّض الأقليات لأي عملية اضطهاد في البلاد، لكن الواقع يشير إلى خلاف ذلك. تآكل شرعية النظام الإيراني بشكل مستمر بموازاة حالة الاحتقان المتزايدة في إيران يهدد بانفجار كبير عند أوّل هزّة حقيقيّة للنظام، وقد تكون مرحلة ما بعد خامنئي الاختبار الحقيقي الأبرز في هذا المجال.