أفكَار

الشيخ القرضاوي (1926- 2022).. آخر الإصلاحيين الكبار (2من2)

يعود القرضاوي إلى فقه المقاصد باعتباره وسيلة لعقلنة الفقه والعمل الإسلامي المعاصرين على السواء (الأناضول)
يعود القرضاوي إلى فقه المقاصد باعتباره وسيلة لعقلنة الفقه والعمل الإسلامي المعاصرين على السواء (الأناضول)

القرضاوي.. السلفي الإصلاحي:

1 ـ الحلال والحرام في الإسلام:


يمكن تتبع المؤثرات السلفية في سيرة القرضاوي ومعظم كتاباته، منذ "الحلال والحرام في الإسلام"، إصداره الرئيس الأول. وكان محمد البهي، رئيس الإدارة العامة للثقافة الإسلامية بالأزهر، أبلغ الشيخ القرضاوي في أثناء عمله في الإدارة، رغبةَ الشيخ شلتوت، شيخ الجامع الأزهر، أن يسهم في مشروع علمي، يتضمن تأليف عدة كتب مبسطة للتعريف بالإسلام وأحكامه لتبصرة المسلمين في أوروبا وأمريكا. كانت مساهمة القرضاوي في المشروع، هي كتابه "الحلال والحرام في الإسلام"، الذي نشرت نسخته العربية في 1959. "الحلال والحرام" هو كتاب في الفقه الإسلامي، ولكنه يختلف شكلا ومضمونا عن الكتابات الإسلامية التقليدية في الفقه؛ وقد كتب على الأرجح في ظل كتاب سيد سابق "فقه السنة"، الذي يعتبر نصا فقهيا سلفيا حديثا بامتياز. ولكن، في حين قسم "فقه السنة" تبعا لأبواب الفقه التقليدية، مثل العبادات والحدود والمعاملات، فإن "الحلال والحرام" تجاهل التقسيم التقليدي، وبني على استقصاء واسع لما هو حلال وما هو حرام في الإسلام. 

يضع الكتاب، على مستوى المضمون، حياة المسلم المعاصر في مقدمة اهتماماته، بما طرأ على هذه الحياة من أنماط معاش ومتطلبات، لم تكن بالضرورة مصدر إلحاح كبير على الاجتماع الإسلامي قبل الحديث. 

مثل سيد سابق في "فقه السنة"، يتجنب القرضاوي في "الحلال والحرام" الجدل الفقهي التقليدي حول الآراء داخل المذهب أو بين المذاهب، ويتناول المسائل موضع البحث تناولا مباشرا في أغلب الأحيان. كما يتجنب مصادر الفقه الإسلامي التقليدي، بالرغم من نشأة القرضاوي في بيئة شافعية وتلقيه تعليما فقهيا حنفيا. أما المواضع التي يحيلها القرضاوي إلى مصادر فقهية سابقة، فإن أغلبها يستند إلى آراء لابن تيمية وابن القيم، يليهما، وبدرجة أقل، ابن حزم والشوكاني وأبو حامد الغزالي وابن قدامة. في المقابل، تستند تقريرات القرضاوي لما هو حلال وما هو حرام، في معظمها، استنادا مباشرا إلى القرآن والسنة، بحيث يبدو عمله وكأنه يستبطن إعادة توكيد أولوية النص الإسلامي التأسيسي. هذا لا يعني أن القرضاوي يتخلى كلية عن الميراث الفقهي الإسلامي؛ ذلك أن عودته المباشرة للقرآن والسنة يواكبها إقرار ضمني بالإطار المرجعي العام لأصول الفقه. 

2 ـ الأصولي المقاصدي:

كان اعتناق فقه المقاصد والاحتفاء به أحد أهم المؤشرات على النزعة التجديدة للإصلاحيين المسلمين المحدثين. ويعود القرضاوي إلى فقه المقاصد؛ باعتباره وسيلة لعقلنة الفقه والعمل الإسلامي المعاصرين على السواء. ولكن السؤال هو: أية مقاصد، وكيف يمكن أن توظف في استنباط الحكم الفقهي؟ يبدأ القرضاوي بسط رؤيته للمقاصد بالتوكيد أن فهمه ينحاز لأولئك الذين اعتبروا "أنها تشمل الأصول والفروع، والعقيدة والعمل، والنظر والتطبيق، فهي تشمل الإيمان والعقيدة كلها"، وليس فقط الجانب العملي في الدين، مثل العبادات والمعاملات. ولذا، فإن المقاصد هنا هي مقاصد الإسلام كله، أو هي "الغايات التي تهدف إليها النصوص من الأوامر والنواهي والإباحات، وتسعى الأحكام الجزئية إلى تحقيقها في حياة المكلفين، أفرادا وأسرا وجماعات وأمة". 

بيد أن هذا الاهتمام المتزايد بالمقاصد، لا يجب أن يقرأ باعتباره إعادة إنتاج للتوتر المبكر في حقل المعرفة الإسلامية بين ما هو عقلاني وموضوعي وما هو ذاتي، بل هو على الأرجح محاولة لحراسة الشرع، في عصر يتطلب استجابة سريعة وواضحة للنوازل الطارئة. بمعنى، أن المقاربة الموضوعية للفقه الإصلاحي يجب ألّا تفهم من زاوية استقلال العقل في تعيين الخير والمصلحة، بل من زاوية التوكيد أن مرجعية الفقه هي موضوعية في جوهرها؛ لأنها تتمثل في قيم محددة من لدن قوة أعلى؛ من الله تعالى. 

3 ـ كيف نتعامل مع السنة النبوية؟

لم يخصص القرضاوي واحدا من أعماله بكليته لشرح نظريته الأصولية، وقد جاءت معالجته لبعض من كبار مسائل أصول الفقه، مثل مقاصد الشريعة، ضمن اهتمامه بالقضايا ذات التأثير في الفكر والحياة الإسلامية المعاصرة. وهذا بالتأكيد هو الدافع الرئيس خلف كتابه "كيف نتعامل مع السنة النبوية"؛ ففي 1989، نشر الشيخ محمد الغزالي، الذي ارتبط القرضاوي معه بعلاقة وثيقة منذ مطلع الخمسينيات، كتابا حول السنة النبوية، أثار ضجة بالغة في الأوساط العربية – الإسلامية. كان الغزالي، الذي تجمعه والقرضاوي الخلفية الأزهرية والتأثر بحسن البنا والمدرسة الإصلاحية، عرف منذ زمن بتصديه للنزعات السلفية المتطرفة. ولأن هذه النزعات تستلهم، إلى حد كبير، نهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأصحاب الحديث، فقد اعتمدت الحديث مصدرا رئيسا لرؤيتها الإسلامية؛ بل وغضت النظر عن الميراث الأصولي والفقهي الإسلامي الكبير، ووظفت الحديث توظيفا لم يكن من السهل قبوله من عموم أهل السنة. 

ما استهدفه الغزالي في كتابه لم يكن إنكار حجية السنة، بل وضع قواعد تحدد التعامل مع السنة. وبالرغم من أن الغزالي أشار في كتابه إلى العودة للقواعد الإسلامية التقليدية في تحديد درجة صحة الحديث، وأنه أكد في شكل خاص ضرورة إحياء علوم نقد المتن، لا الاقتصار على نقد سلسلة الرواة، فإن الهدف الأهم لكتاب الغزالي هو الدعوة لأن يكون الحديث خاضعا للنص القرآني، لا شارحا له وحسب. كل الأمثلة التي يرجع إليها الغزالي لتعزيز موقفه، معروفة في التراث الإسلامي. ولكن الكتاب لم يلبث أن ووجه بمعارضة عالية الصوت؛ كما نشرت عدة كتب للرد عليه.

مقارنة بنص الغزالي، جاء كتاب القرضاوي أكثر حذرا وإحكاما، سواء في صياغته، في الأمثلة التي استعان بها، أو في إطاره الأصولي النظري. وبالرغم من أن ليس ثمة إشارة واضحة في الكتاب إلى الردود على الغزالي، فالأرجح أن تلك الردود قد وضعت في الاعتبار. يبدأ القرضاوي كتابه بالإقرار بالموضوعة الرئيسة للرؤية التقليدية، مؤكدا أن "السنة هي التفسير العملي للقرآن، والتطبيق الواقعي ـوالمثالي أيضاـ للإسلام، فقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، هو القرآن مفسرا، والإسلام مجسما". ولكن نص القرضاوي يتجلى بعد ذلك في نسق واحد لتقييد هذه المقولة، مستهدفا توضيح الأحكام والقواعد المحددة لها. السنة، قولا وعملا وتقريرا، هي المنهج العملي للإسلام، بشموله وتوازنه وتيسيره، ومن واجب المسلمين معرفة هذا المنهج والتعرف عليه وتمثله. ولكن واجبهم أيضا، يؤكد القرضاوي، أن يحسنوا فهم السنة وكيف يتعاملون معها، فقها وسلوكا؛ لأن ثمة أزمة في هذا الفهم والتعامل. 

ليس ثمة ما يصدم في كتاب القرضاوي، بل ويبدو أنه يمثل ضبطا لمحاولة الغزالي إخضاع الحديث للمرجعية القرآنية بصورة قطعية وكاملة. فالقرضاوي لا يقبل رد الحديث الصحيح، ويعتبر مثل هذا الموقف مشابها لقبول الحديث الموضوع؛ إذ إن كلا الموقفين منكر. ويقرر في أكثر من مناسبة أن الحديث الصحيح، إن فهم بصورة صحيحة، لا يمكن أن يعارض القرآن. وربما اعتبر إقرار القرضاوي الابتدائي بأن السنة هي "التفسير العملي للقرآن"، تسليما نهائيا لغلاة السلفية، أو ما يمكن تسميتهم "أهل الحديث الجدد". ولكن الحقيقة أن موقف القرضاوي لا يقل راديكالية عن الغزالي؛ فاعتماد الحديث لدى القرضاوي لا بد أن يخضع لسلسة من المحددات، بما في ذلك النص القرآني، والأحاديث الأخرى في الموضوع نفسه، وسياق الحديث ولغته، ومبادئ الإسلام ومقاصد شريعته. 

بعد أكثر من عقد على نشر كتابه "كيف نتعامل مع السنة النبوية"، عاد القرضاوي إلى الموضوع نفسه في نص جديد، ومختلف قليلا. خلف كتابه "المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة"، ليس ثمة معركة فكرية تتطلب حسما، ولا جماعة مفترضة يستهدفها النص، بل السعي إلى توكيد أصول الإسلام الكبرى. وهنا، تظهر سلفية القرضاوي في أوضح صورها، مصحوبة بثوابته الإصلاحية. طبقا للقرضاوي، "تحددت المرجعية العليا في الإسلام للمصدرين الإلهيين المعصومين: القرآن والسنة... وإن شئت قلت: هو مصدر واحد، أو مرجع واحد، هو الوحي الإلهي، سواء كان وحيا جليا متلوّا، وهو القرآن، أو وحيا غير جلي ولا متلو، وهو السنة. أما عمل العقل الإسلامي في تفسير القرآن، وشرح الحديث، واستنباط الأحكام، فلا عصمة له في مفرداته وجزئياته. ولكنه في مجموعه ضروري لفتح المغاليق، وتبين الطريق، وترشيد الفهم، وتسديد الاستنباط والاجتهاد، حتى لا تزل الأقدام، وتضل الأفهام". والحقيقة، أن ليس ثمة نص يكشف عن التوجه الفكري للقرضاوي أوضح من هذا النص، الذي يجمع بين القول بأولوية القرآن والسنة، وتقدير دور وموقع الميراث الفقهي الإسلامي. 

4 ـ الوحدة والاختلاف:

 

 تعرب أعمال القرضاوي في معظمها عن موقف وسطي بين إعلاء قيمة وحدة الجماعة ومشروعية التعدد. وتضم كتاباته دفعا لا يخطئ باتجاه الوحدة على أساس من القضايا الكبرى، واعترافا بإمكانية الاختلاف والتعدد فيما دون ذلك. في الرؤية الإسلامية للقرضاوي، ثمة توكيد أن "الاتحاد والترابط فريضة إسلامية"، وأن "تفرق الأمة ليس قدرا لازما ودائما". ولكن الاختلاف، بالرغم من ذلك، ضرورة: أولا، لطبيعة الدين (ما هو منصوص ومسكوت عنه في الأحكام، المحكمات والمتشابهات من الآيات، والقطعي والظني من النصوص، إلخ). وثانيا، لطبيعة اللغة (اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى، وما يحتمل الحقيقة والمجاز، إلخ). وثالثا، لطبيعة البشر وطبيعة الكون والحياة. والقرضاوي يعود في موقفه هذا إلى رؤى سابقة، مثل تلك التي عبر عنها ابن تيمية، وشاه ولي الله دهلوي. 

وليس هناك شك في أن الإحالة إلى ابن تيمية والدهلوي تستبطن دلالة خاصة؛ فسواء في رسالة ابن تيمية "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، أو رسالة الدهلوي "الإنصاف في سبب الاختلاف"، ثمة توكيد مزدوج لمشروعية الاختلاف في الإسلام، وأنه إن كان الحق الإلهي مطلقا، فإن المشروع الفقهي الإنساني نسبي؛ وهذا على الأرجح هو المعنى الذي يريد القرضاوي إيصاله. فمن جهة، يرفض القرضاوي التعصب المذهبي، ويقول إن التعصب للمذهب هو تعصب مذموم، ولكنه في الآن نفسه يرفض النزعة التكفيرية التي أخذت تشيع في بعض الأوساط السلفية والإسلامية السياسية، ويلجأ مرة أخرى إلى ابن تيمية للتوكيد أنه "لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة". 
             
5 ـ الدولة والهوية القومية:

يكاد الوعي الذي يحمله "الحلال والحرام" و"الإيمان والحياة" بالسياق الحديث للحياة الإسلامية، كما بميراث الأجيال الأولى من الإصلاحيين الإسلاميين، يتخلل كل أعمال القرضاوي اللاحقة. ففي قراءته للصحوة الإسلامية، التي يرى نفسه وثيق الصلة بأحوالها، يربط القرضاوي روافد هذه الصحوة بالعلماء الإصلاحيين وحركات الإصلاح، منذ القرن الثامن عشر وحتى مطلع العشرين. يدرك القرضاوي الجذور السلفية لحركة الإصلاح، ولكن السلفية التي يستلهمها هي سلفية ذات سمات خاصة؛ لأن "السلفية الحقيقية لا تكون إلا مجددة، والتجديد الحقيقي لا يكون إلا سلفيا. ولذا، وفي حين يعترف بوقوف الحركة الوهابية على ذات الأرضية السلفية، يفسر نزوعها المحافظ بالحاضنة البيئية للحركة، متبعا بذلك القول الشائع بأن الحركة الوهابية وليدة بادية نجد، الذي لا يعتبر بالضرورة تفسيرا صحيحا للأسس الفكرية الإسلامية لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 

في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، أدخلت الحركة الإصلاحية الإسلامية إلى الفكر السياسي الإسلامي مفهوم المشروطية (الدستور)، وأصلت للتماثل بين النظام البرلماني ومبدأ الشورى الإسلامي. لم يطالب الإصلاحيون بإسقاط الدولة الحديثة، ولكنهم وجدوا في الدستور والتمثيل البرلماني وسيلة للجم استبداد الدولة. 

في النصف الثاني من القرن العشرين، وبعد أن قطعت الدولة العربية القطرية شوطا واسعا في تركيز القوة، وبسط سيطرتها وهيمنتها على المجتمع، ذهب القرضاوي خطوة أبعد من آبائه الإصلاحيين في اللجوء إلى الفكر السياسي الغربي لمواجهة تغول الدولة بالدعوة إلى الديمقراطية. وربما يعتبر القرضاوي أحد أوائل العلماء المسلمين المعاصرين الذي يقرر التوافق بين النهج السياسي الديمقراطي والإسلام، حتى في تصوره للدولة الإسلامية. في كتاباته المبكرة، كان القرضاوي يطرح مفهوم الدولة الإسلامية بصورة عمومية؛ ولكن هذا الطرح أصبح أكثر تحديدا في الكتابات المتأخرة، حيث يكرس كتابا تفصيليا لتقديم رؤيته لما يمكن أن تكونه الدولة الإسلامية المعاصرة. 

إن أول ما يمكن ملاحظته في هذا الكتاب، أن عنوانه يتجنب استخدام مصطلح "الدولة الإسلامية"، الذي شاع في الخطاب الإسلامي السياسي المعاصر، بل يلجأ إلى استخدام "فقه الدولة في الإسلام"، وكأنه يستبطن شكّا في إمكانية وصف الدولة بالإسلامية أصلا. الملاحظة الثانية، أن القرضاوي لا يستخدم لغة الخطاب الفقهي الإلزامي عند إشارته إلى ضرورة إيجاد دولة ذات هوية إسلامية، بل يتحدث عن هذه الدولة بلغة حاجة الدعوة الإسلامية لها. "إن أول ما تحتاج إليه الدعوة الإسلامية في هذا العصر"، يقول القرضاوي؛ "أن تقوم دار الإسلام أو دولة الإسلام، تتبنى رسالة الإسلام عقيدة ونظاما، وعبادة وأخلاقا، وحياة وحضارة، وتقيم حياتها كلها: المادية والأدبية، على أساس من هذه الرسالة الشاملة، وتفتح بابها لكل مؤمن يريد الهجرة إليها من ديار الكفر والظلم والانحراف". 

بهذا، يتجاوز القرضاوي الجدل المتكرر منذ العشرينيات من القرن العشرين حول الخلافة الإسلامية ووجوبها أو عدمه، ويجعل الدولة ذات الهوية الإسلامية حاجة تاريخية، لا شرطا دينيا. دولة الإسلام المنشودة في منظار القرضاوي، هي دولة حديثة بامتياز، ولكن "الحديث" هنا مشروط بعدد من الخصائص.  فهي، مثلا، دولة مدنية (بمعنى غير دينية)، دستورية، تقوم على مبدأ سيادة الأمة، ومبدأ الفصل بين السلطات، وعلى التوازن بين الحقوق والحريات، وعلى المواطنة المتساوية بين الرجل والمرأة، والمسلم وغير المسلم، وهي إضافة إلى ذلك دولة شوروية، بمعنى قبول الآلية الغربية للديمقراطية. وفي معرض تأسيسه لمفهوم الدولة (الإسلامية) المدنية، يتعرض القرضاوي لمبدأ الحاكمية (الذي يراه كل من المودودي وقطب؛ باعتباره المبدأ المركزي الذي يستند إليه نظام الحكم الإسلامي)، مؤكدا أن المقصود بالحاكمية مرجعية الله العليا والكلية؛ لأن الإسلام أساسا وضع مفاهيم وقيما عامة لما هو سياسي، وترك التفاصيل والآليات لخيار جماعة المسلمين ووعيهم بخصوصيات زمانهم ومتطلباته. 

يتفق القرضاوي، في رؤيته للدولة الإسلامية، مع الجيل الأول من العلماء الإصلاحيين المسلمين، مثل عبده ورضا، ومحاولتهم التوفيق بين آليات وأنظمة الدولة الغربية الحديثة والثوابت الإسلامية الأساسية؛ بل يمكن القول إن القرضاوي ذهب في محاولة التوفيق أبعد مما ذهب الآباء الإصلاحيون. ولكن، وكما الإصلاحيين الأوائل، لا يمكن القول إن القرضاوي يستند إلى إطلاع كاف على التاريخ السياسي الأوروبي، حيث ولدت مؤسسة الدولة الحديثة واكتسبت ملامحها الرئيسة. وكما ترك نهج التوفيق الإصلاحي في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع العشرين من الأسئلة أكثر مما قدم من أجوبة، كذلك هي أطروحة الدولة عند القرضاوي. 

6 ـ فقه الجهاد:

في 2009، بعد أن ظن كثيرون أن الشيخ قال كل ما عنده، نشر القرضاوي كتابا مهما، بكل المقاييس: "فقه الجهاد". ليس هذا كتابا في تاريخ تطور فقه الجهاد، ولا هو مجرد وجهة نظر في ما يعنيه الجهاد عند المسلمين، ولكنه أقرب إلى الدراسة المقارنة لفقه الجهاد في الميراث الإسلامي، وإعادة تصور لهذا الفقه في سياق معاصر، آخذا في الاعتبار المتغيرات الكبرى في العلاقات الدولية وفي مفهوم الدولة. 

بدأ القرضاوي في كتابة هذا النص في ظل المناخ الذي صنعته هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وما بدا من صعود جماعات إسلامية التوجه تنتهج العنف، والجدل الذي تردد صداه في العالم بأسره حول مفهوم الجهاد في الإسلام. ويكشف عن أن المنهج الذي اتبعه لوضع هذا الكتاب يقوم على جملة عناصر أساسية: 1- الاعتماد أساسا على القرآن؛ 2- الاعتماد على السنة النبوية الصحيحة؛ 3- العودة إلى الميراث الفقهي، ليس فقه المذاهب السنية الأربعة المعروفة وحسب، ولكن أيضا ما عرف من فقه الصحابة والتابعين، وما نقل من آراء فقهاء لم يوجد، أو لم يستمر، لهم مذهب متبوع؛ 4- مقارنة رؤية الإسلام لمفهوم الجهاد مع مواريث غيره من الأديان والقوانين؛ و5- ربط قراءة مفهوم الجهاد بواقع المسلمين المعاصر. وهذا، كما هو واضح، المنهج الذي اعتمده القرضاوي في معظم أعماله الرئيسة السابقة وفتاواه.

 

يقر القرضاوي، من جهة أولية، التقسيم الشائع والمستقر في الفقة التقليدي بأن الجهاد القتالي ينقسم إلى "جهاد دفع"، أي مقاومة العدو إن دخل أرض الإسلام، و"جهاد طلب"، أي طلب العدو وتعقبه في عقر داره.

 



وبالرغم من أن مفهوم الجهاد وأحكامه قد تناولها علماء مسلمون كثر، سواء في الحقبة التقليدية للفقه الإسلامي أو العصر الحديث، فربما يعتبر كتاب القرضاوي الأشمل من حيث نطاق موضوعاته وإحاطته بآراء العلماء المسلمين السنة حول هذه القضايا. ولكن القرضاوي يؤمن أيضا أن الفقه هو كائن حي، وأنه مشروع إسلامي ذو صلة وثيقة بالزمان والواقع؛ وهذا ما يجعل كتاب "الجهاد في الإسلام" الأكثر معاصرة، مقارنة بأعمال شبيهة سابقة. 

يقر القرضاوي، من جهة أولية، التقسيم الشائع والمستقر في الفقة التقليدي بأن الجهاد القتالي ينقسم إلى "جهاد دفع"، أي مقاومة العدو إن دخل أرض الإسلام، و"جهاد طلب"، أي طلب العدو وتعقبه في عقر داره. ولكن القرضاوي لا يرى القسم الثاني باعتباره مشروعا في إطلاقه، بل يراه من سبيل "الحرب الاستباقية" أو "الحرب الوقائية"؛ أو لتمكين الناس في أرض ما من أن تستمع إلى الدعوة الجديدة: دعوة الإسلام، في حال منعوا من ذلك. ويمكن القول بأن مساهمة القرضاوي الرئيسة، أو مساهمته الاجتهادية الأبرز، في كتابه هذا، تتعلق بمناقشته المستفيضة لما يعنيه هذا التقسيم للجهاد القتالي، والكيفية التي يجب أن يفهم بها ما وصفه الفقهاء السابقون بجهاد الطلب. ويستند موقف القرضاوي من جهادي الدفع والطلب إلى قاعدة أساسية، يضعها بصورة واضحة منذ بداية الكتاب: "أن الجهاد يتصل بفقه الجماعة لا الأفراد، ولا ينتقل إلى الأفراد إلا إذا فقدت الجماعة ودخل العدو دارها ولم تجد من يدافع عنها". 

والجهاد بذلك، يؤكد القرضاوي، يندرج في فقه المعاملات، مثل السياسة الشرعية، التي تركها الشارع الحكيم، قصدا، دون نصوص ملزمة؛ توسعة وتيسيرا، أو جاء النص عليها "بطريق كلي، كما في قضية الشورى والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحوها". ما يستبطنه هذا الفهم لموقع الجهاد في الإطار الفقهي الإسلامي، أن التشريعات الحاكمة لممارسته هي تشريعات متغيرة، بتغير الزمان والمكان والسياق الموضوعي، تماما كما بناء مؤسسة الدولة وممارسة الحكم والشورى.

بيد أن هذا ليس كتابا حول جهاد الدفع وجهاد الطلب، وحسب. هذا كتاب يتناول عددا واسعا من المسائل المتصلة بمسألة الجهاد، ومن المسائل المتصلة بعلاقات المسلمين بغيرهم، سواء من يقيمون بدار الإسلام، أو في الدول الأخرى. يكرس الباب الثالث من الكتاب في كليته للجيش، باعتباره جيش الجهاد الإسلامي وليس مجرد جيش للحرب، موضحا واجبات هذا الجيش وآدابه ودستوره. ويقدم هذا الجزء إضافة بالغة الأهمية للقانون الإنساني، بصورة عامة، ولثقافة الجماعات الإسلامية التي تصف نفسها بالجهادية، بصورة خاصة. كما يتطرق إلى مسألة الجزية، وطبيعتها وشروط فرضها، مشيرا إلى أن فكرة المواطنة في الدولة الحديثة ومشاركة المواطنين جميعا في الدفاع عن بلادهم، تؤدي منطقياً إلى إسقاط الجزية. 

ولكن "فقه الجهاد" في النهاية ليس نصا اعتذاريا، ليس محاولة من القرضاوي لتجميل صورة الجهاد في الإسلام، أو مصالحة منتقديه. ولا بد أن اعتبار القرضاوي للسياق الحديث ينبع من اعتقاد بأن هذا هو منطق الفقه الإسلامي، كونه مشروعا حيّا، لا يتوقف عن النمو والتجلي في سياقات زمنية ومكانية مختلفة. وإن كان ثمة من تلخيص لرؤية القرضاوي للجهاد في الإسلام، فهو أن الجهاد مستمر إلى يوم القيامة، ولكن الجهاد هو نهج منضبط بضوابط معينة، ومحدد بأهداف معينة، وعلى الامة الإسلامية أن تكون في حالة استعداد دائم، وبكل ما تستطيع، لممارسته عندما يتطلب الأمر.  

7 ـ النهج الوسطي:

هذه البنية بالغة التركيب والتنوع، هذه المقاربة التجديدية لسلفية الإصلاحيين الإسلاميين الأوائل، يطلق القرضاوي عليها اسم "الوسطية". والوسطية هو مصطلح ذو أصل قرآني، ولكن وروده في السياق القرآني لوصف الأمة الإسلامية ككل، يجعل من الصعب تعريفه على وجه اليقين. يقول القرضاوي: "الإسلام منهج وسطي في كل شيء: في التصور والاعتقاد، والتعبد والتنسك، والأخلاق والسلوك، والمعاملة والتشريع. وهذا هو المنهج الذي سماه الله "الصراط المستقيم"... والوسطية إحدى الخصائص العامة للإسلام". 

كتب القرضاوي هذا النص، موردا مصطلح الوسطية للمرة الأولى، ربما، في معرض معالجة ظاهرة الاستقطاب المتزايد بين جحود الإسلام والتطرف في فهمه. ويشير القرضاوي إلى أن من الأسباب الرئيسة لظاهرة التطرف الإسلامية المعاصرة: ضعف البصيرة بحقيقة الدين، وبروز اتجاه ظاهري في فهم النصوص؛ أي التعامل معها بحرفية ودون السعي إلى فهم فحواها ومعرفة مقاصدها، وضعف معرفة اللغة وإدراك أسرارها، والخلط من ثم بين الحقيقة والمجاز، وبين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، والإسلام الكامل ومجرد الإسلام، أو الكفر الأكبر المخرج عن الملة وكفر المعصية.. إلخ، وضعف المعرفة بالتاريخ والواقع وسنن الكون والحياة. فالوسطية لدى القرضاوي، إذن، هي اعتماد منهج تعليل الأحكام، والقياس، والالتفات إلى المصالح والمقاصد المنوطة بالأحكام، وأخذ خصائص اللغة في الاعتبار، وإدراك السياق التاريخي وحقائق الواقع وطبيعة السنن الكونية. ما تعنيه وسطية القرضاوي، بكلمة أخرى، هو توكيد نسبية الإدراك الإنساني للحق.

 

الإصلاحي هو بالضرورة غير ثوري؛ لأنه يرى في النهج الانقلابي ضررا أكبر، كما يرى فيه مخاطر قطيعة وعنف وتشظّ لا يمكن التحكم في مآلاتها. ولذا، فإن النهج الإصلاحي هو في جوهره نهج قلق، دائم التوتر بين حدّي المحافظة والتجديد.

 



خلال ربع قرن من نشر هذا النص الأولي، شاع مصطلح الوسطية في الدوائر الفكرية والثقافية الإسلامية، للدلالة على رؤية القرضاوي للإسلام. وربما كان هذا ما دفع القرضاوي إلى نشر مقالة أكثر تفصيلا حول ما يقصده بالوسطية. في هذه المقالة، لا يقتصر تعريف الوسطية على ما تعنيه من جهة الاستنباط الفقهي والعقدي، بل يتسع ليطال جوانب رؤية القرضاوي كافة للإسلام والعالم. فالوسطية هي الفهم الشمولي للإسلام، ومرجعية القرآن والسنة، وترسيخ المعاني والقيم الربانية، هي منهج لرؤية الإسلام ككل، أو هي، ربما، إصلاحية جديدة.

على سبيل الخاتمة:

إن الإصلاحية تعني من حيث التعريف، تجنب النهج الانقلابي الراديكالي، تعني اعتماد مقاربة معتدلة لمفاهيم السرديات الكبرى الرئيسة، ومقاربة متوازنة لمتطلبات التغيير الاجتماعي. الإصلاحي هو بالضرورة غير ثوري؛ لأنه يرى في النهج الانقلابي ضررا أكبر، كما يرى فيه مخاطر قطيعة وعنف وتشظّ لا يمكن التحكم في مآلاتها. ولذا، فإن النهج الإصلاحي هو في جوهره نهج قلق، دائم التوتر بين حدَّي المحافظة والتجديد. وقد يبدو القرضاوي في تصديه لبعض من القضايا والمسائل، أكثر ميلا إلى المحافظ منه إلى التجديدي، أو على الأصح أكثر التزاما بالمحافظة على الثوابت منه إلى الاستعداد لإعادة النظر فيها. هذا المنحى في خطاب القرضاوي، لا بد من رؤيته في ضوء الهموم التي أثقلت مسيرته، مثل وعيه للتراجع الفادح في موقع الأمة الإسلامية ودورها، وما نجم عن هذا التراجع من تدخلات غربية مستمرة في البلاد الإسلامية، وبحث القرضاوي المديد عن طرق تعزيز وحدة الجماعة المسلمة، وحرصه ما أمكن على الابتعاد عن إثارة الجدل الانقسامي، ما لم يتعلق الأمر بقناعات أساسية لديه. 

مرت مياه كثيرة في حقل الفكر الإسلامي، لاسيما ما يخص بعلاقة المسلمين بالغرب الحديث، منذ ولادة التيار الإصلاحي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين. عبد الكريم الخطابي، تلميذ السلفية الإصلاحية المغربية، أصبح قائدا لحركة مقاومة مغربية مدوية ضد الاستعمار الغربي. وكذلك كان عز الدين القسام، المتأثر بعبده ووثيق الصلة بالدوائر السلفية الإصلاحية في مصر وبلاد الشام. وقد أصبح رشيد رضا أكثر عداء في موقفه من القوى الغربية، وأكثر شكّا في النموذج الحضاري الغربي، بعد إخفاق المشروع العروبي، ووقوع الولايات العربية العثمانية السابقة تحت الهيمنة الإمبريالية الغربية. 

من جهة أخرى، وجد الإصلاحيون الأوائل أنفسهم في صراع محتدم مع المؤسسة العلمائية التقليدية والطرق الصوفية في آن واحد. تراجعت حدة هذا الصراع كثيرا منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، بعد أن عجزت المؤسسة التقليدية والتصوف عن الصمود أمام رياح حركة التحديث، وتبلورت مساحات التقاء متفاوتة بين السلفية الإصلاحية والمؤسسة العلمائية التقليدية. والقرضاوي هو ابن ميراث القرن العشرين، وشاهد هذه المتغيرات في الجسم الإسلامي، معا. ولا بد من أن يوضع هذا السياق في الاعتبار، أولا، حتى يصبح من الممكن رؤية جوانب الجرأة التجديدية البالغة في مشروع القرضاوي الفكري. هذا، كان بالفعل آخر الإصلاحيين الكبار. 

 

اقرأ أيضا: الشيخ القرضاوي (1926- 2022).. آخر الإصلاحيين الكبار (1من2)


التعليقات (0)