هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "الإسلاميون في مصر.. تحولات الفكر والممارسة"
المؤلف: خليل العناني
الناشر: جسور للترجمة والنشر، 2019
في ضوء التغييرات الكثيرة التي أحدثتها ثورة يناير 2011، التي ساهمت في إعادة تشكيل المجال الديني في مصر، يقدم الباحث وأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية خليل العناني تفسيرات للتحولات التي مر بها الإسلاميون في مصر طيلة العقد الماضي، على مستوى الأفكار وعلى مستوى الممارسات، من خلال عرض وتفكيك خارطة الفاعلين الإسلاميين منذ ثورة يناير. مع ملاحظة أن هذه التحولات تراوحت في حجمها وتأثيرها بين حركة وأخرى، حيث انتقل بعضهما من مقعد المعارضة إلى السلطة، مثل جماعة الإخوان المسلمين، في حين تحولت جماعات أخرى من الظل إلى العلن كما هو الحال مع التيارات السلفية، وهي تحولات لعبت دورا مهما في تغيير نظرة الإسلاميين لأنفسهم ولدورهم في المجتمع، بحسب ما يقول العناني.
تحت عنوان " جدل الدين والثورة في مصر" يلفت العناني إلى أن الدين لم يكن المحرك الأساسي للثورة المصرية، إلا أن زيادة مساحة الدين، بالمعنى الهوياتي والسياسي، في مرحلة ما بعد الثورة تعد أمرا طبيعيا، بل ومتوقعا في ظل حالة الانفتاح السياسي التي تلت الثورة. غير أن هذا الحضور لم يلفت إليه النظر في البداية لسببين؛ الأول أنه كان حضورا إيجابيا ومنسجما مع المزاج التوافقي الذي ساد خلال الثورة. والثاني حالة التوافق التي حدثت بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية خلال الثورة والتي جعلتها تركز على هدف واحد هو إسقاط النظام، دون النظر للاختلافات السياسية والايديولوجية الموجودة بينها.
واحدة من تجليات هذا الجدل كان الصراع على الهوية فبعد الثورة باتت هذه المسألة إحدى النقاط الساخنة للخلاف بين مختلف التيارات السياسية نتيجة عاملين أساسيين؛ الأول هو الإرث السياسي السلبي لعهد مبارك، الذي لم يتح المجال لأي حوار حول القضايا الأساسية للأمة المصرية ومنها علاقة الدين بالدولة ومساحة الدين في المجال العام، والثاني محاولة تسييس هذه المسألة واستخدامها كأداة في الصراع السياسي من أجل حشد الأنصار والموالين لفصيل سياسي ضد آخر.
أمر آخر شهدته الساحة السياسية بعد الثورة ما أسماه العناني "السقوط في فخ الاستقطاب الإسلامي-العلماني". وعلى الرغم من أن هذا الاستقطاب لم يكن جديدا على الساحة السياسية والفكرية، إلا أنه أصبح أكثر حدة وخطورة. وقد تمحور هذا الاستقطاب بين تيارين أساسيين هما التيار الليبرالي العلماني والتيار الديني الإصلاحي. يقول العناني أن هذا الاستقطاب عكس قدرا من افتقاد الرؤية لدى طرفي الاستقطاب، وأخطر مافيه أنه جاء في مرحلة مبكرة جدا من عمر الثورة وتجاوز ما هو إجرائي ومؤقت إلى ما هو جوهري ودائم، والقفز بالجميع إلى مربع من القضايا يحتاج عقودا لحلها كالعلاقة بين الدين والدولة، والدين والمجتمع، ومساحة المدني والديني في المجال العام. وهذه الانقسامات كانت في الحقيقة تعكس صراعا على المصالح الاجتماعية والسياسية والطبقية.
التحوّل السلفي
في ظل حالة الانفتاح السياسي التي أعقبت الثورة تشجعت الكثير من التيارات الإسلامية على الانخراط في العملية السياسية عبر تشكيل الأحزاب وإعادة تنظيم نفسها، حيث انتقل الكثير من الإسلاميين إلى ممارسة الدعوة من خلال السياسة التي اعتبروها أداة جيدة لنشر أفكارهم. وقد حاول هؤلاء الخروج من عباءة "الإخوان المسلمين" وكسر نموذجها المهيمن، بحسب ما يقول العناني.
الخروج السلفي إلى الفضاء العام كان إحدى"ثمار" ثورة يناير، وهو خروج بدا للبعض مفاجئا، لكن العناني يشير إلى مجموعة من السياقات والمحددات التي جعلت هذا الخروج مطقيا ومبررا، على الأقل من وجهة نظر القيادات السلفية. التيار السلفي، كغيره من التيارات، لم يقاوم رياح الحرية والتغيير التي جاء بها الربيع العربي، وأطلقت سراح جميع القوى السياسية، وأعطتها فرصة تاريخية لتمثيل نفسها وأفكارها في المجال العام. فقد تم رفع القيود المؤسسية والقانونية التي كانت تعرقل إنشاء الأحزاب الإسلامية، كما تم رفع الحظر عن الأنشطة الدينية والاجتماعية للتيارات الدينية، خاصة السلفية، لذا لم يكن هناك ما يبرر حالة الانعزال والانطواء السياسي.
أيضا يمكن القول أن الخروج السلفي للمجال العام كان أمرا مؤجلا ولم يكن محرما. إن الخلاف الحقيقي بين السلفيين كان حول مدى الممارسة السياسية وأشكالها. على أن معظم شيوخ السلفية السياسية يجمعون على تحريم المشاركة السياسية على أرضية الديمقراطية التي تتراوح نظرتهم إليها من اعتبارها كفرا صريحا إلى اعتبارها أداة لا بأس بها من أجل تحقيق غايات أخرى.
يشير العناني إلى تحولات طالت بنية الخطاب السلفي وممارسات المنتسبين إلى هذا التيار، حتى وإن كانوا يرفضون الاعتراف بها. ويقول إن السلفيين انتقلوا في خطابهم من المطلق إلى النسبي وحاولوا تبني خطاب الموازنات والمواءمات القائم على مراعاة الظروف التي هي بطبيعتها نسبية ومتغيرة. كما تحول مصدر الشرعية عندهم من شرعية المسجد إلى شرعية صندوق الانتخاب. وحدث ما يمكن تسميته بـ "علمنة" الفضاء السلفي عبر الاستخدام الكثيف للمصطلحات الغربية في خطابهم سواء كان ذلك بوعي أو دون وعي، مثل الانتخابات، والمواطنة، والأحزاب، والبرلمان والدستور..إلخ.
وعلى مستوى الممارسة دخل السلفيون في كافة مجالت اللعبة السياسية، كما كان لديهم استعداد، حتى وإن كان شكليا، للدخول في حوار سياسي مع غيرهم من القوى التي تختلف معهم إيديولوجيا وفكريا. وكان واضحا أنه لا توجد لديهم خطوط حمراء في ما يخص العلاقة بينهم وبين العالم الخارجي، حتى أن معظم الأحزاب السلفية لم تمانع بقاء معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية على حالها دون تعديل مادام أنه لا توجد ضرورة لذلك.
الإخوان معارضون لا حكام
يفرد العناني الفصلين الأخيرين من كتابه لمناقشة تجربة الإخوان في السلطة وسقوطهم السريع منها، ويرى أن هذا السقوط كان محصلة لعدد من العوامل والمتغيرات المعقدة، بعضها ارتبط بأخطاء الإخوان في مرحلة ما بعد الثورة وأثناء وجودهم في السلطة، والبعض الآخر نتيجة لتحالفات قوى الثورة المضادة والدولة العميقة. على سبيل المثال ظلت معايير الولاء والانتماء الفكري والتنظيمي للجماعة هي المحك في رسم سياساتها وتنفيذ برامجها، وهو ما جعل البعض يتهمها بمحاولة الهيمنة والاستفراد والإقصاء.
كما أن الجماعة لم تتبن معايير الجدارة والكفاءة في اختيار القيادات والمسؤولين لشغل المناصب الحكومية، وذلك على الاقل حتى لا تتهم بالإقصاء وحتى لا تتحمل وحدها تداعيات الفشل. وعلى مستوى السياسات والتكتيكات فشل الإخوان في التصرف كقوة حاكمة واثقة لديها رؤية واضحة للمستقبل، فعلى مدار عام كامل اعتمدت الجماعة آلية وحيدة لتحقيق توازن مع القوى السياسية المنافسة هي الحشد والتعبئة حتى مع وجودها في الحكم.
إن مستقبل الإسلاميين سوف يتوقف على ثلاثة أمور: أولها قدرتهم على إعادة النظر في خطابهم واستراتيجيتهم بحيث يجري تجديد حقيقي في الفكر والقيادة. وثانيها درجة التسامح السياسي للنظام الحالي واستعداده لدمجهم مجددا في العملية السياسية. وثالثها قدرة هذا النظام على تحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية قد تضعف من شرعية الأحزاب الإسلامية، وهو أمر يبدو محل شك.
وعلى الرغم من أن الجماعة تمتلك أكبر قدر من الكوادر المهنية مقارنة بغيرها من القوى السياسية والاجتماعية، إلا أنها افتقرت للخبرات والمهارات التي تمكنها من تكوين نخبة سياسية بيروقراطية فعالة يمكنها إدارة دولة بحجم وتعقيد مصر. وبحسب العناني فإن كثير من كوادر الإخوان تمت تنشئتهم داخليا في محاضن الجماعة كي يكونوا معارضين لا حكاما.
من جهة أخرى فقد حرم نظام مبارك الجماعة من أن تدير أي مؤسسة عامة أو أن يحصل كوادرها على خبرة تكنوقراطية وبيروقراطية، لذا فقد واجه الإخوان مقاومة شديدة من البيروقراطية المصرية حين حاولوا تطهيرها وإصلاحها. إضافة إلى ذلك فقد عجزوا عن السيطرة على الدولة العميقة التي نجحت في استنزافهم والاستثمار في ضعف خبرتهم، حتى كشف انقلاب يوليو عن الوجه القبيح لهذه الدولة العميقة عندما التقت أطرافها من أجل الإجهاز على محمد مرسي والإخوان. ومنذ إخراج الإخوان من السلطة فقدت الجماعة توازنها ودخلت في حالة من التخبط وانعدام الرؤية وضعف الاستراتيجية.
يستبعد العناني في المدى المنظور على الأقل أن تقدم جماعة الإخوان المسلمين على ما أقدمت عليه حركة النهضة التونسية بفصلها النشاط الدعوي عن العمل السياسي، بسبب ما يرى أنها معوقات وعراقيل كثيرة تحول دون ذلك من أهمها: أن الخلط بين الدعوي والسياسي يمثل جزءا رئيسيا من "الحامض النووي" للإخوان فكرة وتنظيما، وأي فصل بين هذه العناصر سوف يتطلب بالضرورة إعادة تعريف الجماعة لنفسها ولرسالتها ولدورها وحدوده.
كما أن قيم التنشئة الإخوانية تفترض في الفرد الإخواني الحضور الدائم في المجال العام بمستوياته المختلفة، سواء كانت السياسية أم الاجتماعية أو حتى على مستوى الروابط العائلية والشبكات الاجتماعية. أيضا لا بد من ملاحظة أن طبيعة التنظيم الإخواني، كبنية هيراركية مغلقة، ونمط عضوية مقصورة على فئات بعينها، ساهم في "تطييف" العقل الإخواني بشكل يصعب معه التحول إلى حزب سياسي مفتوح يضم أناسا من خلفيات مختلفة. من جهة أخرى فإن الجماعة في الوقت الحالي تواجه معركة استئصال وحشية، كما أنها منقسمة على ذاتها داخليا وخارجيا، ما يصعب اتخاذ قرار مصيري بالفصل بين الدعوي والسياسي.
يمكن القول، بحسب العناني، أن حقبة الإسلاميين الكلاسيكيين( جماعة الإخوان المسلمين، الجماعة الإسلامية) قد انتهت أو على الأقل توقفت مكانها. هذه الحركات فقدت الكثير من جاذبيتها كقوى سياسية فاعلة وقادرة على الحكم، وفقدت قدرتها أيضا في إقناع جمهورها بأنها قابلة للتطور والتغيير سواء على مستوى الأفكار أو القيادات أو الاستراتيجيات. ويرى العناني أن ما تفعله جماعة الإخوان بعد إزاحتها من السلطة دليل على ذلك. فالجماعة لا تزال تعيش في حالة من عدم التوازن، وتتبع الاستراتيجيات القديمة نفسها وكأن شيئا لم يحدث.
ومن جهة أخرى لم تستطع الأحزاب الإسلامية الجديدة التي ظهرت بعد الثورة إثبات نفسها في المجال العام إما بسبب ضعف مواردها التنظيمية والمالية، وإما لأنها تخشى مواجهة السلطة. كما أن السلفيين فشلوا في ملء الفراغ الذي تركته جماعة الإخوان، وباستثناء وجودهم الدعوي فقد فقدوا حضورهم السياسي الذي كانوا قد حظوا به بعد الثورة.
يقول العناني، إن مستقبل الإسلاميين سوف يتوقف على ثلاثة أمور: أولها قدرتهم على إعادة النظر في خطابهم واستراتيجيتهم بحيث يجري تجديد حقيقي في الفكر والقيادة. وثانيها درجة التسامح السياسي للنظام الحالي واستعداده لدمجهم مجددا في العملية السياسية. وثالثها قدرة هذا النظام على تحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية قد تضعف من شرعية الأحزاب الإسلامية، وهو أمر يبدو محل شك.