كتب باتريك جيه بوكانن كتابا تحت عنوان "موت
الغرب"، وهو سياسي ومفكر أمريكي ومستشار لثلاثة رؤساء، ثم تبعه المفكر
المغربي حسن أرويد بكتابٍ يحمل تقريبا نفس الأفكار، ولكن بمنهجية ولغة مختلفة،
بعنوان: "أفول الغرب". طبعا هذه الكتابات هي توقعات منطقية تعتمد على قراءة
تاريخ الأمم، ومقارنة مسارها التاريخي والحضاري بفصول السنة، ربيع وصيف وخريف
وشتاء، وهذا النموذج من الاستقراء والاستنباط ينطبق على كل الأمم. ولكن القراءة
يجب أن تكون بآلية الرجل الأسكيمو، أي الرجل الذي ليس لديه أي تحيز سابق في
الموافق أو في نظامه المعرفي، كي يقوم بناء تصوره عن موضوع معين. وهذا ما سوف
أتبعه في قراءة المشهد الشيعي السياسي.
ما حصل في
العراق بالأمس القريب، بعد إعلان انسحاب
مقتدى الصدر واعتزال تياره من الحياة السياسية، ليس موقفا عابرا ويمر مرور
الكرام، دون أن يترك أثرا على المشهد العام في المنطقة عموما، وفي العراق خصوصا،
فهذا التخبط الحاصل في البيت الشيعي السياسي الواحد لهو علامة فارقة على بداية
أفول الشيعية السياسية في العراق خصوصا، والهلال الخصيب عموما.
فهذه الهيمنة بدأت مع نجاح الثورة
الإيرانية بقيادة
الخميني، الذي أعلن عن تصدير الثورة بمفهومها الأيديولوجي إلى كل المنطقة، والانتشار
بدأ فعليا مباشرة بعد سقوط النظام العراقي سنة 2003، وبعد سقوط نظام طالبان في أفغانستان.
فسقوط صدام أدى إلى فتح البوابة الشرقية أمام التوغل الإيراني والتمدد في المنطقة
العربية، مع وصول بشار الأسد إلى الحكم في سوريا. لقد أصبح النظام الإيراني له
اليد الطولى هناك، فلقد كان حافظ الأسد يتمتع بعلاقات جيدة مع إيران ولكن هو من
يدير هذه العلاقة، على عكس ابنه الذي تبدلت الأمور مع وصوله، وأصبح الإيراني هو من
يسيطر على هذه العلاقة ويعزز من وجوده من خلال المراقد الشيعية حسب زعمهم.
أما في لبنان، فلقد استطاع حزب الله الانتقال من الحالة
الحزبية السياسية إلى حالة اجتماعية بمفهومها الأيديولوجي، وعزز من وجوده من خلال
شعار المقاومة والتحرير، وأصبح دويلة بديلة عن الدولة بالنسبة للشيعة.
هكذا يكون قد اكتمل الهلال الشيعي بمفهومه السياسي
الممتد من طهران، مرورا ببغداد ثم دمشق، وصولا إلى بيروت. طبعا واقع العاصمة
اليمنية صنعاء مختلف عن باقي العواصم العربية، ولن نتكلم فيها الآن، فهذه الحالة
المتضخمة بدأت بالأفول والتراجع التدريجي، وهي واضحة المعالم إن كانت في العراق أو
في سوريا أو في لبنان لعدة أسباب، والسبب الرئيسي أنها لم تنتج حضارة إنسانية
قادرة على إنتاج ثقافة سلسة وانسيابية بالمعنى التمدد والتمدن.
يقول أرنولد توينبي؛ "إن الحضارات لا تموت إنما
تقتل نفسها بنفسها". وهناك أمثلة كثيرة مثل الحضارة الرومانية التي سقطت لعدة
أسباب، وأحد أسباب زوال إمبراطوريتها هو اعتناقها المسيحية، وهي تناهض طبيعتها
البنيوية الوثنية، والحضارة العثمانية وغيرها من حضارات، ولكن ما هي مؤشرات
الأفول؟
الحضارة الثقافية:
ماذا تعني كلمة حضارة؟ ولماذا يتسق المفهوم الحضاري مع
أي كيان سياسي وُجد في بقعة جغرافية معينة؟ فالحضارة بالمعنى الاصطلاحي تعني الحضور
لأي كيان ببعده الثقافي والمادي والروحي.
والسؤال: هل أنتجت إيران مهد الشيعية السياسية في
المنطقة أي ثقافة إنسانية أو تاريخية وأي وجه آخر؟ فلنذهب إلى لبنان ونأخذ حزب
الله نموذجا حيّا. لقد طرح حزب الله ثقافة غريبة عجيبة على المنطقة، فهذا أدى
إلى زيادة الهوة بين البيئة الشيعية التي حملت لواء الشيعية السياسية وباقي
البيئات المختلفة. فالأولى تمثل البيئة الإيرانية ببعدها الثقافي القومي، والثانية
تحمل هويات مختلفة، ولكنها متفقة نوعا ما على طبيعتها العربية الوسطية، فتحول
الصراع من صراع سياسي إلى صراع ثقافي.
ولكن الثقافة التي جاء بها حزب الله تمت حمايتها
بالسلاح، فإن ذهب السلاح ذهبت الثقافة بكل مندرجاتها وعناصرها، من هنا ندرك أنها
ثقافة مرحلية غير قابلة للحضور لأجيال لاحقة، كما حصل للفاطميين على يد صلاح
الدين في مصر.
يعتقد البعض أن سوريا أصبحت شيعية بالمفهوم الأيديولوجي،
ولكن هذه نظرة سطحية، فإن تفريغ المنطقة ديمغرافيا، وتغييرها مذهبيا لن يغير من
هويتها الثقافية الحاضرة بقوة بطابعها العمراني والتاريخي، ومع ذهاب النظام
السياسي يعود النظام الاجتماعي إلى أصوله الثابتة والمترسخة منذ مئات السنين. حتى
في لبنان، إذا تراجع وجود حزب الله السياسي والمالي، فإن وجوده الثقافي سوف يندثر
بشكل سريع.
إذا ذهبنا إلى أي دولة عربية مثل الإمارات أو البحرين،
نستطيع أن نرى وأن نلمس البعد الثقافي الأمريكي من خلال المطاعم أو من خلال اللغة
أو من خلال أسلوب ممارسة الحياة، فهذا ما لم تفعله الحالة الشيعية السياسية.
الحضارة المادية:
منذ التضخم السياسي للحالة الشيعية المتحصنة بالمفاهيم
الأيديولوجية الاثني عشرية، هل قدمت نموذجا ماديا حضاريا؟ هل سمعنا يوما أن
طالبا عربيا أو غربيا ذهب ودرس الطب في إيران أو في العراق أو في سوريا؟ هل سمعنا
يوما أن المليشيات في سوريا بنت مركزا تربويا غير ديني؟ هل سمعنا يوما أن
إيران تبني المدارس والجامعات التي تدّرس الطب والهندسة والعلوم الإنسانية؟ هل
سمعنا أنها بنت المستشفيات وغيرها؟ ما حال العدالة الاجتماعية في إيران نفسها؟
وتوزيع الثروات؟ هل إنتاج السلاح النووي مؤشر للتقدم الحضاري أو تطور الدول؟
باكستان وكوريا الشمالية دول لديها أسلحة نووية، ولكن ما هو وضع حالة شعوبهما
المادية؟
هنا يجب أن نسأل أنفسنا: الكثير من العالم العربي في أثناء الثورات أو الربيع العربي هربوا إلى الغرب، ولم يفكر أحد أن يهرب إلى إيران؛ لأنها لم تقدم أي نموذج إنساني يحتذى به، ومنه البعد المادي المتعلق بالعلم
والتطور التكنولوجي والرقمي وغيرها، حتى بالسلاح والقوة العسكرية.
لقد خسرت إيران وأخواتها المليشيات
الطائفية في سوريا، لولا التدخل الروسي والخلاف العربي والتقاء مصالح الغرب مع الشرق في وأد الثورة
السورية وقتلها. فلقد فشلت فشلا ذريعا، ولكنها نجحت في تدمير كل الحواضر العربية
والإسلامية مثل الموصل وحلب وغيرها من مدن أخرى.
أما على المقلب الآخر، فقد استطاعت الولايات المتحدة
الأمريكية أو الحضارة الغربية أن تفرض نفسها، من خلال وجودها المادي مثل الطب
والعلوم والمعدات والتلفونات والسيارات وغيرها.
صراع الهوية:
كلنا نعرف تاريخ العلاقة والخصومة العربية والفارسية
وذلك الصراع الجدلي والأبدي، وهذا الصراع لازال حاضرا ضمن البيت الشيعي السياسي
الواحد والديني أيضا، فالنموذج العراقي هو خير مثال. إن الصراع بين الصدريين والحشد الشيعي يعود جزئيا إلى صراع الهويات، الذي أسس مرجعيات دينية مختلفة، فلا
يخفى على أحد أن النزاع القومي حاضر في الصراع الحاصل.
إن إيران الفارسية تغلغلت إلى المنطقة العربية منطلقة
من أبعادها القومية والجذور التاريخية، وهذا شكّل عائقا في التوسع الثقافي، وهذا
بسبب التراكم التاريخي في الصراع العربي الفارسي منذ ظهور الإسلام وتدمير الإمبراطورية
الفارسية، فهذا الحقد التاريخي بقي محفورا في وجدانهم. واليوم الصراع في العراق
ضمن البيت الشيعي الواحد الذي يمثل الشيعية السياسية، حتى في سوريا، كانت هناك
حالات كثيرة من الاشتباكات الداخلية بين المليشيات العربية والإيرانية، وهذا بسبب
الاستعلاء الإيراني على القومية العربية. حتى في لبنان، رغم التحالف الاستراتيجي
بين أمل وحزب الله، إلا أن هناك صراعا خفيا بين الطرفين، ولن يبقى على حاله بسبب الاختلاف
الثقافي بين حركة عربية وحركة ذات أصول إيرانية، مرتبطة عضويا وثقافيا وأيديولوجيا بإيران، فهذا الاختلاف البنيوي يؤسس إلى خلاف عميق وواضح المعالم.
كل هذه العلامات والمؤشرات إضافة إلى أسباب أخرى
متعلقة بطبيعة الصراع العالمي والإقليمي والتغييرات الاقتصادية، أدت إلى بداية
أفول هذه الحالة السياسية التي لم تقدم أي سمة حضارية للمنطقة، على العكس، فلقد
شرخت قسما من
الشيعة عن بيئتهم العربية الأصيلة، وأصبحوا مجتمعا منعزلا عن باقي
البيئات الثقافية، وأصبحت هناك هوة وفجوة بينهم وبين الآخرين، وهنا تكمن الخطورة.
فعلينا أن نميز بين الشيعية الفقهية والمذهبية وبين
الشيعية السياسية، فالخصومة مقتصرة على السياسة ببعدها العسكري والسياسي نفسه، أما
الجانب الديني فهذا يعزز من المفهوم الكوزموبوليتاني كمفهوم للتعددية المذهبية
والثقافية في المنطقة العربية. ولكن في طور الأفول هذا، لا بد من طرح مشروع جديد
يستوعب كل هذا التنوع في المنطقة العربية، مع الحفاظ على خصوصيات الجماعات والأفراد،
والتنافس على السلطة الذي هو من صلب الديمقراطيات السياسية.