تتنامى الحيرة الفكريّة، النخبويّة
والشعبيّة، في
العراق بسبب حالة التداخل والتمازج والانقسام والتراخي في المشاهد
السياسيّة والأمنيّة والقانونيّة والثقافيّة والإعلاميّة، وقد وصلت الضبابيّة
لمراحل مُتقدّمة جعلت الجميع في دهشة واضحة حول مآلات المستقبل!
وقد وصلني، قبل أيّام، سؤال مُحدّد من
مركز عراقيّ مهتمّ بالدراسات الاستشرافيّة، وقد كان السؤال واضحا جدا: إلى أين
يقودنا مشهد العراق وفق المُعطيات الراهنة؟
وقد طلبوا أن تكون الإجابة مُكثّفة ومُختصرة
ما بين 100 و150 كلمة. ومثل هذه الأسئلة بحاجة لعشرات الحوارات والنقاشات للردّ
عليها، وبالذات في الحالة العراقيّة المليئة بالغموض والضبابيّة السياسيّة
والمبدئيّة والثقافيّة والولائيةّ والإعلاميّة والمجتمعيّة.
وأعتقد أنّ الضبابيّة التي تلفّ المشهد
العراقيّ ليست جديدة، بل هي مُعضلة تتنامى منذ مرحلة ما قبل الاحتلال ثمّ المرحلة
المُهلكة التي تلت كارثة الاحتلال وحتّى اليوم.
والضبابيّة تتمثّل في عدّة محطّات ولكنّها
تبرز تماما بغياب السلطة الوطنيّة الحريصة على مصالح الوطن، وبضياع الانتماء
السياسيّ الوطنيّ، والفشل ببناء الدولة، وهذه الحقيقة ملموسة للعراقيّين ولغالبيّة
زعماء العالم بمن فيهم الزعماء والشخصيّات الفاعلة في أمريكا قائدة غزو العراق!
وسبق للرئيس الأمريكيّ السابق دونالد
ترامب أن انتقد في 16 كانون الثاني/ يناير 2017، قرار غزو العراق، واصفا إيّاه بأنّه
"أسوأ قرار اتّخذ في تاريخ بلادنا على الإطلاق، وأنّ الهجوم على العراق ما
كان يجب أن يحصل بداية"!
والعراق اليوم، وبعد قرابة 20 سنة من "التحرير
والديمقراطيّة والضياع"، على شفا الحرب الأهليّة وحافّة الهاوية، وهذا التخوّف
أطلقته مساعدة وزير الخارجيّة الأمريكيّ لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف، خلال
زيارتها لبغداد، الاثنين (5 أيلول/ سبتمبر 2022)، والتي حملت العديد من رسائل التهديد
المباشرة للقوى المُتناحرة ببغداد!
وقد أكّدت ليف أنّ واشنطن "تُتابع
المشهد العراقيّ بدقّة، وما جرى من أحداث في الأسبوع الماضي يدلّ على وصول المشهد
السياسيّ لحافّة الهاوية".
ومع هذا أتصوّر أنّ الحرب المقبلة في
العراق لا يُمكن وصفها بأنّها حرب أهليّة، ويُمكن تسميتها بأنّها اقتتال "مليشياويّ-
مليشياويّ" أو حرب بالإنابة، أو بالوكالة عن أطراف خارجيّة لا تُريد الخير والاستقرار
للعراق والعراقيّين!
ومنذ عدّة أشهر نُتابع التهديدات والمنشورات
العسكريّة والسياسيّة والإعلاميّة حول فرضيّة حدوث تغيير أو "انقلاب" في
العراق بسبب استمرار حالة اللا دولة الموجودة الآن، وهذه الفرضيّة صارت ربّما حلم الكثير
من المواطنين وحتّى بعض السياسيّين، وربّما بعض قيادات الدول القريبة والبعيدة من
العراق.
ميدانيّا، هنالك احتماليّة كبيرة بحدوث
تغيير داخليّ من طرف ما، ربّما مِن داخل الملعب السياسيّ أو المنظومة العسكريّة أو
مِن خارجها، ولكنّ السؤال المُرهق:
هل ستتدخّل واشنطن عسكريّا من جديد وتُعيد
رسم المشهد العراقيّ، أم ستترك الساحة للمُناحرات، الداخليّة والخارجيّة، وتراقب الميدان
من فوق التلّ؟
أعتقد أنّ قضيّة التدخل العسكريّ الأمريكيّ
المُباشر والمُنفرد لا يُمكن أن تكون، ولكن ربّما ستتدخل واشنطن بالاشتراك مع بعض
الدول العربيّة المجاورة، التي جرت، وتجري، فيها حاليّا مُناورات عسكريّة بمشاركة
قوّات أمريكيّة، وهذه المُناورات ربّما لها علاقة بحسم مستقبل العراق إن فشلت
القوى السياسيّة في إنهاء خلافاتها.
وقد نكون أمام قوّات خاصّة تُسلّم زمام
الأمور لشخصيّات فاعلة، مدنيّة أو عسكريّة مُحدّدة، من خلال عمليّة "انقلابيّة"
مُعدّة سلفا، وقد يكون رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي رئيسا للحكومة القادمة، وبالذات
مع نصيحة ليف للمسؤولين العراقيّين وبلغة التهديد، بموجب تسريبات غير رسميّة، بضرورة
بقاء الكاظمي بمنصبه!
والخطّة التي أتوقّعها قائمة على متابعتي للتطوّرات
العراقيّة وتنامي الفعاليّات العسكريّة القريبة من حدود العراق، والخطّة ستكون
بضوء أخضر أمريكيّ، وستقلب الطاولة على
المليشيات، وسيعود سيناريو المحاكمات
العلنيّة، وهذه المرّة لغالبيّة زعماء العراق بعد العام 2003.
وما يُعزّز هذه الرؤية المستقبليّة
الاستشرافيّة هو التسريبات الصوتيّة والمصورة الكثيرة التي ظهرت فجأة لشخصيّات
سياسيّة عراقيّة ثقيلة؛ وهي تتوالى على العراقيّين يوميّا وكأنّنا أمام خُطّة
لتهيئة أرضيّة التغيير المرتقب وفقا للسيناريو المتقدّم!
ومن تلك المُعطيات تخوّف بعض القوى السياسيّة
والعسكريّة من احتماليّة حدوث أمر ما، إمّا في هذا الشهر (أيلول/ سبتمبر)، أو
نهاية العام الحاليّ!
وهذه التطوّرات تتزامن مع حالة الضياع السياسيّ
والقضائيّ الواضحة في البلاد، ومنها ردّ المحكمة الاتّحاديّة العراقيّة لدعوى حلّ
مجلس النواب التي تقدم بها التيّار الصدريّ، كونها ليست من اختصاصاتها المُحدّدة
في الدستور وقانون المحكمة، وكذلك مطالبة التيّار القضاء بالتحقيق مع نوري المالكي
على خلفيّة تسريبات "تُهدّد السلم الأهليّ"، فضلا عن انعدام الخدمات في
القطاعات الصحّيّة والتعليميّة والبلديّة، وتنامي الجريمة والمخدّرات والفوضى
المجتمعيّة وغيرها، وهذه السلبيّات عوامل دافعة ومُساعدة لحدوث تغيير مأمول في
العراق!
ولهذا أتصوّر أنّ العراق مُقبل على مرحلة تغيير
بشكل ما، ولا يُمكن تحديد وقتها، أو رسم ملامحها بسهولة بسبب السرّيّة التامّة
التي تُنفِّذ بها الأطراف المُشاركة لعبتها!
ومع هذه التطوّرات أظنّ أنّ هنالك العديد
من المُفاجآت والأحداث الغامضة التي تنتظر العراقيّين، وربّما سنعرف بعض طلاسمها قريبا!
twitter.com/dr_jasemj67