هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بعد نجاح الرئيس التونسي قيس سعيد في تفكيك النظام البرلماني المعدّل، وبعد ضرب أغلب الأجسام الوسيطة والمؤسسات الدستورية المهيمنة على الديمقراطية التمثيلية، وبعد أن نصّب نفسه "مؤسِّسا" للجمهورية الجديدة إثر تمرير الدستور الذي كتبه بنفسه محوّلا نظام الحكم إلى نظام رئاسوي، يبدو أن الرهان القادم للرئيس سيكون "تدجين" العمل النقابي بجناحيه المدني والأمني وذلك لضمان السيطرة المطلقة على القرار السياسي بعيدا عن تغوّل النقابات ومراكز النفوذ التي تقف خلفها.
وبصرف النظر عن حجج الرئيس وأنصاره في الدفاع عن "التأسيس الجديد" وشرعنته، فإن الدستور الجديد قد أقام "حكما جبريا" يضع الرئيس في مركز السلطة ويحصنّه من المساءلة والمحاسبة وكأنه "الملك الشمس" أو خليفة الله في أرضه ـ وهما خلفيتان ممكنتان عند النظر في فصول الدستور والصلاحيات الدنيوية والدينية التي أسندها للرئيس ـ.
ورغم النجاح الظاهر لخارطة الطريق الرئاسية وعجز المعارضة عن مواجهة محطاتها الثلاث سواء الاستشارة الإلكترونية أو الاستفتاء أو الانتخابات البرلمانية المنتظرة، فإنها قد عمقت الأزمة السياسية وزادت في حدة الانقسام المجتمعي في ظل أزمة اقتصادية خانقة تهدد بإفلاس الدولة حسب وكالات التصنيف الإئتماني الدولية.
لقد برهنّا في المقال السابق على أن "سردية السيادة" واستقلالية القرار الوطني ليست إلا "مسرحية سياسية" لا شاهد لها في سياسات الدولة وخياراتها الاقتصادية. فخطاب السيادة هو في جوهره خطاب ديماغوجي موجّه للاستهلاك المحلي ولا يعكس أي تغيير في مستوى واقع التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية، إذ لم تصحبه أية مراجعات حقيقية لعلاقة تونس اللامتكافئة مع القوى المانحة/الناهبة ولا لمنوال التنمية ولجوهر الدولة الريعي-الزبوني، مثله في ذلك كمثل خطاب "مقاومة الفساد" الذي وظفه الرئيس لضرب منظومة الحكم السابقة دون أن يتقدم فيه ـ بعد أن تمركزت كل السلطات بين يديه ـ مقدار أنملة سواء فيما تعلّق بفساد الأعيان أو فساد التشريعات والسياسات العامة.
بعد مرور أكثر من سنة على تاريخ جمعه كل السلطات، وأمام التناقض الواضح بين الدعوى/الوعود والمحصول في أغلب الملفات -خاصةً الاقتصادية منها-، يبدو أن خطاب تحميل الأزمة الحالية للمنظومة السابقة قد أصبح حجة داحضة، أو على الأقل يبدو أنه قد فقد الكثير من مصداقيته أمام جزء معتبر من الشعب التونسي. وقد جاءت نتيجة الاستفتاء لتؤكد أن الرئيس لا يمثل الشعب التونسي كله كما يزعم، بل هو صاحب مشروع سياسي لا يمثل إلا 30 في المائة من الناخبين.
ولكنّ الرئيس يصرّ على إنكار الانقسام الاجتماعي وعلى قراءة الأرقام والمعطيات الكمية بطريقة تكرّس احتكاره للسلطة وتُماهي بينه وبين الإرادة الشعبية لنفي الحاجة إلى أية وسائط غيره بين الشعب والدولة. ولا شك في أن النقابات هي جزء من تلك الوسائط التي يقتضي مشروع الرئيس ـ أو بالأحرى مشروع الجهات المانحة ـ تدجينها وتهميشها وجعلها مجرد ملحق وظيفي بقصر قرطاج.
لتمرير "حزمة الإملاءات"، يحتاج الرئيس إلى هندسة المشهد العام بصورة تضمن مواجهة الاحتجاجات الشعبية المرتقبة. ورغم نجاحه إلى حد هذه اللحظة في ضرب الوسائط الحزبية وتدجين المؤسسات الدستورية، فإنه سيكون عاجزا عن إنفاذ مشروعه السياسي ـ أو مشروع الجهات المانحة ـ دون القضاء على جميع السلطات الموازية،
سبق وذكرنا في أكثر من مقال أن خارطة الطريق الخفية لتصحيح المسار هي "حزمة إملاءات" اقتصادية وسياسية تقتضي وجود نظام رئاسوي قوي وديمقراطية شكلية يمكن تسميتها بديمقراطية الحد الأدنى. كما ذكرنا أيضا أن تلك الحزمة تتمثل أساسا في تمرير إملاءات صندوق النقد الدولي بالتوازي مع مشروع التطبيع والتحاق تونس بالمحور المساند لصفقة القرن.
ولا شك في أن تغير الموقف الدولي من "الاستثناء التونسي" يعود في جزء منه إلى فشل النخب التي هيمنت على النظام البرلماني المعدّل وعلى أجسامه الوسيطة في إدارة الملف الاقتصادي مما حوّلها إلى عبء ثقيل على الجهات المانحة. ولا شك أيضا في أن "الديمقراطية" ليست أولوية حقيقية بالنسبة للنظام الرأسمالي الدولي مقارنة بضمان مصالحه الاقتصادية ـ أو القدرة على سداد الديون في ظل استقرار سياسي لا يعكس بالضرورة حياة ديمقراطية حقيقية ـ، وهو ما يفسر إلى حد كبير المواقف الغربية الإيجابية من "تصحيح المسار" رغم كل بيانات القلق الشديد والدعوات المتكررة للحوار الشامل.
لتمرير "حزمة الإملاءات"، يحتاج الرئيس إلى هندسة المشهد العام بصورة تضمن مواجهة الاحتجاجات الشعبية المرتقبة. ورغم نجاحه إلى حد هذه اللحظة في ضرب الوسائط الحزبية وتدجين المؤسسات الدستورية، فإنه سيكون عاجزا عن إنفاذ مشروعه السياسي ـ أو مشروع الجهات المانحة ـ دون القضاء على جميع السلطات الموازية، وهي هنا السلطات الكامنة في النقابات المدنية منها والأمنية. فما يُسمى بـ "الإصلاحات الاقتصادية" ـ أي رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات، تجميد الأجور، تخفيف نفقات الدولة، بيع بعض المنشآت الاقتصادية المفلسة الخ ـ يقتضي عودة الاتحاد العام التونسي للشغل إلى دوره التاريخي زمن الاستبداد، أي دور الشريك الاجتماعي المدجّن والمكلف بمهمة شرعنة خيارات الدولة السياسية والاقتصادية.
كما تقتضي تلك الإصلاحات الاقتصادية ـ خاصةً إذا ما أضفنا إليها خيار التطبيع باعتباره شرطا من شروط الجهات المانحة أو الدول الكبرى التي تتحكم فيها ـ هيمنة مطلقة على الجهاز الأمني، أي ضرب النقابات الأمنية التي يمكن أن تتحول إلى حليف موضوعي لبعض مراكز النفوذ الاقتصادية والسياسية والجهوية والإيديولوجية كما كان الأمر خلال المرحلة التأسيسية، خاصة زمن الترويكا. وإذا ما طرحنا المسألة ب"عقل الدولة" أو عقل المنظومة الحاكمة، فإن سعي الرئيس إلى تدجين النقابات المدنية وتوحيد النقابات الأمنية يصبح أمرا مفهوما، بل أمرا لا مهرب منه في ظل توجهات سياسية واقتصادية ذات تداعيات وانعكاسات كارثية في المستوى الاقتصادي والاجتماعي من جهة أولى، وفي مستوى "شرعية الرئيس" ومصداقيته أمام الرأي العام الوطني من جهة ثانية.
ولا يعني تفهمنا لعقل الدولة أننا نوافق على خياراته وتوجهاته الكبرى، بل كل ما يعنيه هو أننا أمام واقع موضوعي تحكمه توازنات محلية ومؤثرات خارجية تفرض جملة من السياسات الداخلية والتوجهات الديبلوماسية التي ستشكل المشهد التونسي خلال المرحلة القادمة. فبحكم غياب أي مشروع وطني للخروج من عقل "المنظومة القديمة" وسردياتها الفاشلة وصراعاتها الهوياتية العبثية، يبدو أن الرئيس قيس سعيد ومن خلفه في تونس وخارجها سيواصلون الهيمنة على المشهد التونسي على الأقل في المدى المنظور.