هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في سياق بيانها لمهام ووظائف ولي الأمر، المتمثلة بحراسة الدين والقيام على تطبيق أحكامه، وتدبير شؤون الرعية الدنيوية، تناولت المراجع الفقهية الإسلامية ما يجوز للحاكم المسلم من تقييد المباح ومنعه، إذا ما كان في ذلك مصلحة عامة متحققة، أو درء مفسدة حقيقية ضمن شروط وضوابط يجب مراعاتها والالتزام بها.
وأوضحت تلك المراجع دائرة المباح وأنواعه، وبينت سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، وضوابط تقييد المباح، وإيراد أمثلة على تقييد المباح حسب ورودها في الأحاديث النبوية، واجتهادات الخلفاء الراشدين، والتمثيل باجتهادات العلماء في تقييد المباح، تأصيلا وتنزيلا مع مراعاة الشروط والضوابط المنصوص عليها.
وفي إطار التأصيل السابق، يجري بحث تدخل الحاكم المسلم في منع تعدد الزوجات عملا بتقييد المباح للمصلحة العامة، وهو ما أثاره وتناوله شيوخ المدرسة الإصلاحية والتجديد المعاصرة، بدءا بالشيخ محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا، والدكتور محمد سلام مدكور، والشيخ الطاهر بن عاشور كاجتهاد مصلحي انطلاقا من تحقيق المصلحة العامة، ودرء للمفاسد الناتجة عن سوء تطبيق التعدد، وفق الباحث في العلوم الشرعية، والمهتم بتراث المدرسة الإصلاحية، صالح سهيل حمودة.
وأضاف: "تقييد المباح من حيث الأصل موجود في التراث الفقهي الإسلامي، ومن قبل ذلك ورد في الأحاديث النبوية، كحديث النهي عن ادخار الأضاحي، قال صلى الله عليه وسلم "يا أهل المدينة لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام" فشكوا إلى رسول الله أن لهم عيالا وحشما وخدما، فقال: "كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا"".
صالح سهيل.. باحث في العلوم الشرعية
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "وفيما يتعلق باجتهاد شيوخ مدرسة الإصلاح والتجديد، فقد رأوا أن من حق الحاكم المسلم تقييد تعدد الزوجات، وهو حق منوط بالمصلحة، نظرا لما شاهدوه من عدم الالتزام بالقيود الشرعية في التعدد كالقدرة وإقامة العدل، فكان اجتهادهم مصلحيا، درءا لتلك المفاسد، وتحقيقا للمصلحة العامة".
ولفت الباحث والمحقق الأردني، حمودة إلى أن بعض "شيوخ المدرسة الإصلاحية لم يروا ذلك الاجتهاد ولم يوافقوا عليه، كالشيخ محمود شلتوت الذي وافق ما عليه جماهير فقهاء المسلمين الذين قالوا بإباحة تعدد الزوجات من غير شرط ولا قيد، ما عدا شرطي العدل والقدرة على الإنفاق".
وتابع: "وحتى يُفهم اجتهاد شيوخ المدرسة الإصلاحية، في جواز تقييد تعدد الزوجات إذا ما كان مصلحة في ذلك، على وجهه الصحيح، تجدر الإشارة إلى أنهم في الأصل لم يمنعوا تعدد الزوجات، فهم ينصون على إباحته، لكنهم لما رأوا مفاسد كثيرة تترتب على تطبيقاته، من عدم الالتزام بشرطي القدرة والعدل كان اجتهادهم بإعطاء الحق للحاكم في تقييده ومنعه تحقيقا للمصلحة العامة".
وتوضيحا لما تفردت به المدرسة الإصلاحية في هذه المسألة وتطبيقاتها، وعلى وجه الخصوص القول بجواز تقييد التعدد للمصلحة العامة، ذكر حمودة أنه "وعلى حد علمه لم يجد في الفقهاء المتقدمين من سبق إلى القول بهذه المسألة، مع أن المبدأ والأصل الذي بُنيت عليه موجود ومعروف ومقرر عند جماهير الفقهاء".
ونبه إلى "ضرورة تفهم آراء وأقوال واجتهادات شيوخ وعلماء المدرسة الإصلاحية تفهما صحيحا، والاطلاع عليها في مظانها من كتبهم وأبحاثهم المطبوعة والمنشورة، والتي توضح تلك الاجتهادات، وتبين أدلتها ووجوه الاستدلال التي سلكوها، وأقاموا أقوالهم واجتهاداتهم استنادا إليها".
من جهته قال أستاذ الفقه وأصوله بجامعة أم القرى في مكة المكرمة، الدكتور محمد السعيدي: "لا بد أن نستصحب في فتوى هذه المسألة جواب هذا التساؤل: هل السؤال الذي يُطرح عن حقوق الحاكم في التحجير على بعض المباحات أو الإلزام بها.. هل المراد به حقا معرفة حقوق ولي الأمر، وأن أولياء الأمور بحاجة لمعرفة مدى صلاحياتهم أم أن هذا السؤال يُطرح لتبرير بعض التصرفات من بعض الحكام في بعض ما يريدونه متابعة لأهوائهم، أو خضوعا للمنظمات الحقوقية الغربية"؟
وأردف: "والذي يظهر جليا أن كثيرا من هذه التساؤلات تطرح للأمر الثاني، ولهذا أقول: إن تنزيل الفتاوى على أفعال الحكام لتزين لهم تحريم ما أحل الله وخداعهم وخداع شعوبهم هو من المحرمات، بل ومن الكبائر لقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾ [المائدة: ٨٧].
محمد السعيدي.. أستاذ الفقه وأصوله بجامعة أم القرى في مكة المكرمة
وأضاف: "فإذا استصحبنا هذا وكان سؤالنا عن القاعدة الشرعية، فإن الأصل أن للحاكم أن يمنع بعض المباحات، ويلزم ببعضها جلبا للمصلحة المتحققة أو درءا للمفسدة المتحققة، وذلك بشروط، منها: أن تكون المصلحة المطلوبة من المنع من المباح شرعية، أي يُقرها الشرع، كما لو قرر الحاكم منع الشباب دون العشرين أو غير المتزوجين من السفر لبلد ما لحفظهم من الوقوع في الرذائل، أو حفظ عقائدهم وأفكارهم، فهذه مصلحة يطلبها الشرع، فجاز المنع من السفر المباح لأجلها".
أما الشرط الثاني، تابع السعيدي حديثه لـ"عربي21" فمفاده "أن يكون تحقق المصلحة من المنع من المباح مقطوعا به أو من غلبة الظن، كما لو منع الحاكم البنات من البيع والشراء في وقت متأخر حرصا عليهن، فإن كانت مصلحة متوهمة فلا يجوز المنع من المباح لأجلها كمنع الناس من أكل الفول ـ مثلا ـ لأنه يفسد المزاج بزعمهم".
وبيّن أن الشرط الثالث يتمثل بأن "تكون المصلحة عامة وليست خاصة، وذلك كالمنع من السفر من غير المنافذ الدولية المعتمدة، لأن فتح الحدود يسمح بالتهريب وغيره من الأمور المضرة بالاقتصاد والأخلاق والصحة، ومثال المصلحة الخاصة المنع من شراء نوع من السلع لأنها تضر بمصلحة تاجر معين، فإذا توفرت هذه الشروط جاز للحاكم المنع من بعض المباحات".
وعن مدى انطباق تلك الشروط على مسألة التعدد، رأى أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله، السعيدي أنها "لا تدخل في هذا المباح للحاكم فعله، بل تدخل فيما يحرم على الحاكم فعله، فالمنع من التعدد مصلحة غير شرعية وموهومة وخاصة، ولهذا نقول: إن منع الحاكم لتعديد الزوجات من التصرفات المحرمة، بل ومن كبائر الذنوب" على حد قوله.
وفي ذات السياق أكد أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة في الجامعات المغربية، الدكتور محمد رفيع أن "المقرر عند الأصوليين أن تصرف الحاكم المسلم في رعيته منوط بالمصلحة، مع أن المقصود بالمصلحة ما اعتبرت شرعا نصا أو مقصدا، وأمور الدنيا على مراسم الشريعة تجري كما قال الجويني رحمه الله".
محمد رفيع.. أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة في الجامعات المغربية
وتابع لـ"عربي21": "لأن المصلحة وإن كانت مدركة بالعقول، لكنها منضطبة بالشريعة، وعليه فإن إمكانية تقييد المباح من قبل السلطة الحاكمة الشرعية مبني على أصل المصلحة المعتبرة، فإذا ما ثبت اجتهادا معتبرا أن التقييد مفض للمصلحة صحّ ذلك، إلا أن النظر فيما يصلح أحوال الأمة الدينية والدنيوية، والقيام بالتصرفات على أساس المصلحة المرسلة لا يكون إلا من حاكم مجتهد، أو من حاكم يستشير أهل الاجتهاد على سبيل اللزوم".
وختم رفيع حديثه بالقول: "وتأسيسا على ما سبق يكون منع تعدد الزوجات باعتباره مباحا أو رخصة من صلاحيات الحاكم بالمعنى الذي ذكرنا، أما أن يكون الحاكم بأمره يتصرف في الرعية بغير أحكام الشريعة، ولأمر ما يلتجىء إلى قاعدة تقييد المباح، لانتصاره لفئة دون أخرى في سياق صراع أيديولوجي فهذا خارج عن المقصود".