في حلقة تلفزيونية
استغرقت ساعتين حوارا على قناة "بلانكا بريس"، مع الإعلامي كمال عصامي في
برنامج "وجوه مشرقة"، بتاريخ 29 تموز/ يوليو
2022م،
أدلى العلامة أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بآرائه
وأفكاره الشخصية في قضايا كثيرة ومسائل متنوعة: فقهية وسياسية وتاريخية ودعوية،
وكانت حلقة حافلة بالآراء والاجتهادات والرؤى، سوى ما كان متعلقا بموريتانيا وأنها
كانت تابعة للمغرب قبل الاستعمار، وأن بيعتها ثابتة للمغرب، وما يتعلق بالصحراء
المتنازع عليها دوليّا بين
المغرب والجزائر -وقضيتُها في الجهات الدولية ما زالت-
وكان أخطر ما جاء فيه أن "جلالة الملك المغربي" لو دعا للجهاد بأي صورة
من صوره لخرج المغاربة: علماء ودعاة، زاحفين إلى "تندوف"!! مما كانت له
ردود فعل غاضبة جدا بلغت حد التراشق والشتم والتجريح الشخصي.
ومن العجيب أن
ردود الفعل على الحلقة أو "الحصة" تأخرت لمدة أسبوعين، وما زالت ردود
الفعل تتوالى حتى كتابة هذه السطور!
وبعد أن أسجل
مخالفتي لهذه التصريحات فيما يتعلق بموريتانيا والجزائر، على الأقل في هذا الوقت، وإنكاري
لها، وأنها لا تليق أن تصدر عن مثله، مع كل تقديري وإكباري للأستاذ الريسوني وعلمه
وفضله وتاريخه المشرف؛ فإن ردود الفعل التي جاءت رداً عليها كانت بالنسبة لي أكثر
أسفاً وأعظم إنكاراً؛ إذ كشفت عن أمراض تكاد تكون مزمنة، وتمخضت عن عدد من الأفكار
التي تحتاج لوقفات، وتحتاج لزمن طويل لمداواتها وعلاجها؛ حيث إن الاستعمار -أو
"الاستخراب" كما يسميه البعض- قد حرص على زرع هذه الآفات وسقيها حتى
استوت على سوقها، وتغلغلت في نفوس الشعوب، وأصبح من الصعوبة البالغة علاجها
والتخلص منها، ويتلخص بعضها في الآتي:
كشفت عن أمراض تكاد تكون مزمنة، وتمخضت عن عدد من الأفكار التي تحتاج لوقفات، وتحتاج لزمن طويل لمداواتها وعلاجها؛ حيث إن الاستعمار -أو "الاستخراب" كما يسميه البعض- قد حرص على زرع هذه الآفات وسقيها حتى استوت على سوقها، وتغلغلت في نفوس الشعوب
أولا: الانتقال
من الرد على الفكرة إلى التجريح في الشخص، وقد بدا هذا جليا في
ردود الفعل التي
صدرت عن شخصيات علمية ودعوية كبيرة، وبيانات حركات إسلامية يُعتبر الأستاذ
الريسوني محسوبا عليها وهي محسوبة عليه، في خطها العام الفكري على الأقل؛ فهذا
عالم يتهمه في رجولته وشهامته وعلمه!! وهذا بيان يتحدث عن أنه "مغمور"
لا يعرفه أحد!! وذاك بيان آخر يصفه بأنه لا علاقة له بالعلم الشرعي!! وهلم جرا!
وهذا كشف عن فجوة كبيرة بين ما ندعو إليه عند الردود والاختلاف من رعاية أدب
الاختلاف، وحفظ جناب الأشخاص، ومناقشة الأفكار دون التعرض للأشخاص والهيئات، وبين
الممارسة التي كشفت عن أزمتها هذه الواقعة.
ثانيا: أن
ردود فعل
الجزائريين، وردود فعل الموريتانيين، وردود فعل المغاربة كذلك، جاءت
متترسة بالتعصب للتراب، وإعلائه فوق القيم الإيمانية، والأخلاق الإسلامية، ووحدة
الأمة -مع تقرير حب الأوطان والدفاع عنها بمفهوم الوطن الشامل- فكل فريق تحدث عن
تاريخ بلده، وجعلوا ذلك هو المقدم، وهو الأساس، وما سواه مما ذكرنا يجب تدميره في
مقابل ما ليس من حقه التقديم على ما من حقه التقديم الذي هو ثابت في القرآن الكريم
والسنة النبوية، وكما هو مقرر ومكرر في أحداث السيرة النبوية الملأى بالوقائع
والأحداث التي تقدم الإيمان والأخوة الإسلامية على مجرد الانتماء الوطني -مع
أهميته واعتباره- بل حتى على علاقة النسب والدم!
ثالثا: أن
هذه الواقعة كشفت إلى أي حد تغلغلت مفاهيم "سايكس- بيكو" في قلوب ونفوس
وعقول الشعوب، وأن سايكس وأخاه بيكو لم يكونا يحلمان أن تصل آثار اتفاقيتهما إلى
هذا المستوى من التقدير والاعتبار إلى الحد الذي تضاءلت أمامه مقتضيات العقيدة
والإيمان، وتصاغرت له كل القيم الإيمانية والأخلاق الإسلامية؛ فلو بذل "سايكس
وبيكو" ما وراءهما وأمامهما لتصل الشعوب العربية والإسلامية لهذا المستوى
المذهل من تقديس مقتضيات هذه الاتفاقية؛ لما وصلت إلى هذه الدرجة من التعصب الأعمى
الذي يعمي القلوب ويغيب العقول.
رابعاً: البيانات
التي صدرت ردا على تصريحات د. الريسوني كانت عن حركات إسلامية، وشخصيات علمائية،
ورموز دعوية كبرى، فالذي تولى هذه الردود هي حركات تنتمي للإسلام عقيدة وشريعة،
وتتحدث باسمه وتعمل له، وشخصيات علمائية ودعوية درست الشريعة الإسلامية والقرآن
الكريم والسنة النبوية والفقه الإسلامي وأصول الفقه الإسلامي، وتقوم بتعليم هذه
العلوم وتدريسها، ومع هذا تُقدم كل ما يتعلق بـ"سايكس- بيكو" على كل ما
يتعلق بمقتضيات العقيدة وموجبات القيم الإيمانية والأخلاق الإسلامية، وهذا يجعلني
أقول بكل أسى: إن هذه الأزمة كشفت -ضمن ما كشفت، وما أكثر ما كشفت!- عن أن أي
مشروع لوحدة الأمة وجمع رايتها وتوحيد شعوبها سيكون الإسلاميون وكثير من العلماء
الدارسين لعلوم الشريعة -بل هو كائن بالفعل- أكبر عقبة في طريقه: تعصباً لما زرعه
سايكس مع أخيه بيكو في وجدان الشعوب والمسلمين، وبكل أسف في نفوس أبناء الحركات
الإسلامية، وفي عقول الشخصيات العلمائية.
أولى أولوياتنا اليوم هي صناعة مشروع سياسي لجمع الأمة عليه، بعدما أوشكت الحركات الإسلامية أن تسلم الراية وتختم تاريخها وتطوي صفحتها، وإنشاء جيل رباني قرآني فريد؛ يؤمن بالفكرة الإسلامية الخالصة الصافية التي لا تلتقي مع "سايكس- بيكو" في منتصف الطريق، ولا تستورد أفكارها ونظمها المختلفة من شرق ولا غرب
خامسا: أن
هذه الأزمة كشفت عن خلل في فقه الميزان وفقه الأولويات، وأنا هنا لا أنظّر من علٍ،
وإنما هو ما كشف عنه الواقع بالفعل، وهذا من ناحيتين؛ الأولى: أن الأولوية في
وقتنا هي لـ"زحف" العلماء والدعاة ضد الصهاينة، وضد من يقيم العلاقات "الصهيونية-
العربية" التي تجاوزت التطبيع إلى علاقات محرمة واتفاقيات مُجَرّمة. والناحية
الأخرى: هي أن العصبية التي ظهرت على عموم من تحدث، وبخاصة العلماء لم نرها أبدا
ولا قريبا منها في قضايا أهم وأخطر، قضايا تمس الإيمان والأخلاق، بل ممارسات أعداء
ومحتلين يسفكون الدماء ويهتكون الأعراض، ولكن حين تعلق الأمر بمقتضيات سايكس مع
أخيه بيكو تمعرت الوجوه واحمرت الحدق وانتفخت الأوداج، وشمر الجميع عن أسلوب لا
يرقى إلى الأخلاق الإسلامية والأخوة الإيمانية والمقاصد الشرعية.
* * *
وفي الختام، أقرر
أن من أولوياتنا اليوم هي مقاومة التغلغل الصهيوني في المنطقة العربية، وكف أيدي
الصهاينة عن إخوتنا في غزة والقدس والأقصى والأسرى. والذي أود أن أضيفه وأنبه إليه
وهو يحتاج لعمل آخر ومقالات أخرى: أن أولى أولوياتنا اليوم هي صناعة مشروع سياسي
لجمع الأمة عليه، بعدما أوشكت الحركات الإسلامية أن تسلم الراية وتختم تاريخها
وتطوي صفحتها، وإنشاء جيل رباني قرآني فريد؛ يؤمن بالفكرة الإسلامية الخالصة
الصافية التي لا تلتقي مع "سايكس- بيكو" في منتصف الطريق، ولا تستورد
أفكارها ونظمها المختلفة من شرق ولا غرب، ولا تؤمن إلا بالله ربا، وبالقرآن
دستورا، وبالأمة سلطة، وبالعدالة منهجا.