هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قبل أقل من نصف قرن، وفي منتصف سبعينيات القرن الماضي، كان معدل دخل المواطن الجزائري غير بعيد عن الإسباني، بل إن الإسبان قبلها، وأثناء الاستعمار الفرنسي، كانوا يهاجرون كـ"حراقة" للجزائر بحثا عن لقمة عيش!
بعد وفاة الديكتاتور فرانكو حدث الانتقال الديمقراطي في إسبانيا، وبدور للجيش وجنرالاته، وشهد البلد تطورا كبيرا جعل حجم اقتصاده مثلا يقارب حجم اقتصاد بلد كبير وغني مثل روسيا (بكل مفارقات ذلك أيضا!).. أين الجزائر الآن وأين إسبانيا، التي يهاجر لها الجزائريون بشكل مأساوي بقوارب الموت، ولم يعد الأمر يتعلق فقط بشباب مغامر، إنما بشابات ومسنين، ومسنات، بل وحتى عائلات بأكملها بأطفالها، وحتى رضعها، ونساء حوامل.
إلى إسبانيا يلجأ كذلك كثير من الجزائريين لأسباب سياسية، بينهم الدركي السابق محمد عبد الله، والعسكري السابق محمد بن حليمة، "المبلغين عن الفساد"، كما تؤكد منظمة العفو الدولية، واللذين سلمتهما مدريد مؤخرا إلى الجزائر، في "صفقتين غير قانونيتين وغير أخلاقيتين"، كما يشدد حقوقيون.
محمد عبد الله تم تسلميه قبل عام، فيما تم تسليم بن حليمة في آذار (مارس) الماضي، وسط اندلاع أزمة ديبلوماسية بين الجزائر وإسبانيا ستتصاعد بعدها بسبب موقف الأخيرة بشأن الصحراء الغربية، ودعمها لمقترح “الحكم الذاتي” الذي طرحه المغرب، والذي اعتبرته الجزائر "خيانة تاريخية" و"انقلابا مفاجئا" في موقف إسبانيا، المستعمر السابق للصحراء الغربية.
كموقف شخصي داعم لحق الشعب الصحراوي في تحقيق مصيره، هو فعلا كذلك. وبقراءة موضوعية فهو انقلاب تاريخي فعلا أثار التساؤلات، والانقسامات والانتقادات داخل إسبانيا نفسها. وذهبت تحليلات وحتى تسريبات إسبانية للتأكيد على أنه متعلق أولا بموقف رئيس الحكومة الإسبانية الحالي بيدرو سانشيز، ولاعتبارات شخصية، وحديث عن ابتزاز مرتبط باختراق مغربي لهاتفه ببرنامج التجسس الإسرائيلي "بيغاسوس" ـ (الذي طال مسؤولين جزائريين كذلك بالمناسبة) ـ وليس بمصالح إسبانيا، كما تحاول حكومته، التي تعرف انقسامات حتى داخلها حول هذا الانقلاب، تسويقه.
وفي مقابل هذا بدا الرد الجزائري، "المتفاجئ" بهذا الانقلاب التاريخي الإسباني "المفاجئ" مثيرا للتساؤلات بين "جعجعة" ردود الأفعال الخطابية "الانتصارية"، وتضارب المواقف، مثلما حدث مؤخرا بشأن تجميد العلاقات التجارية مع إسبانيا، ثم رفعه بعد شهر ونصف، ثم نفي ذلك عبر وكالة الأنباء الجزائرية وهو مشهد يضر أكثر مما ينفع.
وقبل ذلك غياب التوقع، ولما لا حتى الاستطلاع الاستخباراتي، الذي يبدو أنه منشغل بتتبع المعارضين السلميين والمبلغين على الفساد أكثر من هذا الموضوع بأهميته الجيواستراتيجية.
وفي هذا السياق بدت الصورة بأن حكومة مدريد، وفيما كانت "تلعب لعبتها" مع النظام المغربي بشأن القضية الصحراوية، اعتقدت أن "اللعبة" الأخرى في المقابل هي ترضية النظام في الجزائر بـ"صفقات" تسليم معارضين، مبلغين عن الفساد، مثل بن حليمة وليس رهانا جيوسياسيا كبيرا، يخص ما يعتبر "عمود أو حجر الزاوية" في السياسة الخارجية للجزائر، أي القضية الصحراوية.
بعد وفاة الديكتاتور فرانكو حدث الانتقال الديمقراطي في إسبانيا، وبدور للجيش وجنرالاته، وشهد البلد تطورا كبيرا جعل حجم اقتصاده مثلا يقارب حجم اقتصاد بلد كبير وغني مثل روسيا (بكل مفارقات ذلك أيضا!).. أين الجزائر الآن وأين إسبانيا، التي يهاجر لها الجزائريون بشكل مأساوي بقوارب الموت، ولم يعد الأمر يتعلق فقط بشباب مغامر، إنما بشابات ومسنين، ومسنات، بل وحتى عائلات بأكملها بأطفالها، وحتى رضعها، ونساء حوامل.
اللافت في قضية بن حليمة أنه انتشر وبسرعة فيديو، بدا مسربا عن قصد، للحظة تسليمه من إسبانيا لعناصر شرطة في الجزائر، عبر طائرة خاصة.
كان واضحا أن الغرض من نشر الفيديو هو تقديم التسليم على أنه "انجاز" أو رسالة تخويف للمعارضين، خاصة في الخارج، لكن ردود أفعال وتعليقات الجزائريين على مواقع التواصل الاجتماعي ـ حتى من غير المعارضين للسلطة ـ أعطت انطباعا مغايرا، حيث تساءل كثيرون عن "تواطؤ" إسبانيا، و"هوس" السلطة في الجزائر باستلام عسكري برتبة عريف، بينما يسرح ويمرح في إسبانيا نفسها عسكريون برتب أعلى، مثل وزير الدفاع الأسبق الجنرال خالد نزار، وقائد الدرك الأسبق الغالي بلقصير. بالإضافة إلى عدد من المسؤولين السابقين، وحتى الحاليين، في النظام أو عائلاتهم، مثلما هو الشأن مع أحمد أويحيى، رئيس الحكومة الجزائرية الأسبق المسجون في الجزائر.
وفيما تستقبل إسبانيا هؤلاء المتهمين بنهب أموال الشعب الجزائري، والذين يشترون فيها عقارات وممتلكات وإقامات، يتساءل كثيرون لماذا كل هذا الحرص من السلطة في الجزائر على جلب "مبلغين عن الفساد"، بينما لا تسعى مع إسبانيا لجلب الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة المبيضة في عقارات وغيرها مثل فندق رجل الأعمال المسجون علي حداد، الذي اشتراه في مدينة برشلونة، بـ54 مليون يورو، كما اعترف هو بنفسه خلال محاكمته.
وقد ركز كثيرون في تعليقاتهم على مفارقة تسليم العريف السابق محمد بن حليمة بطائرة خاصة، دفعت الجزائر بالتأكيد فاتورتها، ومقارنته مع الجنرال خالد نزار، الذي عاد من إسبانيا إلى الجزائر بطائرة رئاسية خاصة، وبتشريفات رسمية.
وكان نزار فر إلى إسبانيا، في نفس فترة فرار بن حليمة إلى إسبانيا تقريبا، وقد أصدرت المحكمة العسكرية في الجزائر، حكما غيابيا بالسجن لعشرين سنة، بحقه هو ونجله، الذي فر هو بدوره إلى إسبانيا، حيث تمتلك العائلة عقارات. وقد توبع خالد نزار بتهم خطيرة، بينها "الخيانة العظمى"، بعد دعوته في تسجيل موثق عبر "اليوتيوب" العسكريين في الجيش إلى التمرد. وقد أشار كثيرون في تعليقاتهم، حتى الذين يختلفون مع أسلوب بن حليمة، أن "اليوتيوب"، هي الوسيلة، نفسها التي استعملها بن حليمة لـ "كشف فساد في صفوف كبار ضباط الجيش الجزائري”، كما تقول منظمة العفو الدولية.
ويثير هذا المشهد بكل مفارقاته، الكثير من الأسف، ويطرح سؤالا: ماذا لو حذت الجزائر حذو إسبانيا، وسلكت طريق التغيير والانتقال الديمقراطي ـ مع كل الاختلافات طبعا بين البلدين ـ وبدور حتى للعسكر؟ هل كانت الجزائر في هذا الوضع، الذي تعيشه؟ خاصة وأن للجزائر مقومات اقتصادية، أقوى حتى من إسبانيا، التي تعتمد عليها في استيراد الغاز، وإن تراجعت الجزائر لمرتبة ثالث مورد لإسبانيا، بعد أن كانت المورد التاريخي لها، وذلك خلف الولايات المتحدة، ثم روسيا، التي وللمفارقة كانت حكومة مدريد تتهمها بتحريك الجزائر ضدها!
ضيعت الجزائر عقوداً من الرداءة والعبث منذ ستين سنة من الاستقلال، بينها عشرية دموية حمراء في التسعينيات، ثم عشريتين من فساد أكبر تحت حكم بوتفليقة، ثم جاءت انتفاضة 22 فبراير 2022 الشعبية، التي أطاحت به، والتي تحولت إلى حراك سلمي وصفته صحيفة "واشنطن بوست" بأنه "علامة فارقة في تاريخ البشرية".. "الحراك المبارك الذي أنقذ الجزائر"، كما تقول السلطة الحالية نفسها، التي تواصل قمعه، لكنه مازال يؤكد حجته في تغيير حقيقي يليق بالجزائر، وفرصة تاريخية مازالت قائمة لتحقيق ذلك، رغم كل الهوس القمعي المتواصل للسلطة ضد ناشطيه، الذين يستمر حبس المئات منهم، بينهم 5 نساء، والمتابعات القضائية المتواصلة، التي طالت الآلاف، واضطرار بعضهم للهروب عبر قوارب الموت إلى إسبانيا، حيث يسرح ويمرح من نهبوا وعبثوا بالجزائر!
*كاتب جزائري مقيم في لندن