تدخل الحرب الأوكرانية-
الروسية بعد أيام قليلة، شهرها السابع. الرهان الأمريكي كان معقوداً منذ البداية
على إطالة أمدها قدر المستطاع من أجل استنزاف موسكو، لكنّ ما حصل هو أنّ الحرب
استنزفت الجميع من دون استثناء، وكان أكبر المتضررين من العقوبات التي فُرضت على
روسيا،
القارة الأوروبية ودول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً مع تنامي تأثيرات هذه العقوبات،
التي أصبحت ما يشبه "المسمار" الذي يُدق في نعش القارة العجوز.
الأصوات الأوروبية المتململة
من تبعات هذه الحرب، بدأت تتعالى مع كل يوم يقترب فيه فصل الشتاء. دول الاتحاد
الأوروبي تئنّ من تداعيات الوضع في أوكرانيا، نتيجة إصرار واشنطن على رفض الحوار
واستمرار القتال.. حتى آخر جندي أوكراني، أو ربّما حتى آخر مواطن أوروبي!
هذا كلّه يتسبّب اليوم
باحتمال تدهور العلاقات بين واشنطن وبروكسل، حسبما تظهر التطورات المتسارعة على
الأرض، خصوصاً بعد أن أمست الدول الأوروبية ضحية الصراع، وباتت مضطرة للتعامل مع
أزمة اللاجئين الذين ناهز عددهم 10 ملايين، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، ومع
الطاقة والارتفاع الحادّ في أسعار السلع، ناهيك عن محاولات كبح هبوط سعر اليورو
ولجم الركود الاقتصادي، الذي يلوح في الأفق، مستحضراً شبح الاضطرابات الاجتماعية
والسياسية داخل
أوروبا.
الأوروبيون بدأوا اليوم -متأخرين-
يثيرون شكوكاً بشكل بارز، في نوايا الولايات المتحدة من استمرار الحرب وتكثيف
العقوبات، التي أصبحت تستهدفهم بشكل مباشر ولا تؤثر في روسيا. هذه الشكوك آيلة إلى
التوسّع يوماً بعد يوم، خصوصاً مع إصرار واشنطن على تصوير الحرب في أوكرانيا على
أنها "تهديد روسي" للغرب كلّه.
القارة العجوز في عين العاصفة
العقوبات الأمريكية، وتلك
الأوروبية ولو كانت قصيرة النظر، أطلقت العنان لجنون أسعار الطاقة وبدأت تهدّد
بتدمير حياة المواطنين الأوروبيين. أسعار الغاز في القارة الأوروبية ارتفعت إلى
نحو 2200 دولار لكل ألف متر مكعب، أي بزيادة اقتربت من 8 في المائة، ما دفع
بحكومات أوروبا إلى اتخاذ إجراءات لم تكن تخطر في بالِ عاقل قبل 24 شباط/ فبراير.
- في بريطانيا، أجرت شركة Mactavish للتأمين، مسحاً
نشرته وسائل إعلام غربية، يؤكّد أنّ ثلثي الشركات البريطانية بدأت تعاني فعلاً من
تداعيات العقوبات الغربية التي فُرضت على روسيا. كما نقلت وكالة
"بلومبيرغ" عن مصادر بريطانية، أنّ لندن قد تواجه عجزاً في الطاقة
الكهربائية بنحو السدس، حتى بعد تشغيل محطات الفحم!
- في فرنسا، احتياطيات البلاد
من الوقود وصلت إلى مستوى قياسي منخفض، وهذا ما دفع بالسلطات الفرنسية إلى دعوة
الفرنسيين إلى الاستعداد باكراً لفصل الشتاء من الآن، بعد أن حظرت شاشات العرض
الدعائية في الشوارع وطلبت عدم تشغيل مكيفات الهواء وتقليل الإضاءة في المتاجر من
أجل توفير الغاز المستخدم بتوليد الكهرباء، التي باتت أغلى بنحو 600 يورو لكل
ميغاواط/ساعة، وهو رقم أعلى بثلاث مرات مما كان عليه سعر الميغاواط الواحد نهاية شباط/
فبراير الفائت.
- في بولندا، الأمر ليس أفضل
حالاً، فقد أصدر رئيس الوزراء ماتيوز موراوسكي توجيهات للمؤسسات الحكومية بشراء
4.5 مليون طن من الفحم على وجه السرعة، من أجل التعامل مع أزمة الطاقة.
- في هنغاريا، أصدرت وزارة
الزراعة قراراً يقضي بحظر تصدير الحطب إلى الخارج، وتعمل السلطات هناك على وضع
برنامج أطلقت عليه اسم "المواقد والمَرَاجل" من أجل التخلّي عن الغاز في
عملية التدفئة، ولا سيما في المدارس، ما قد يهدّد الطلاب الهنغاريين بعام دراسيّ
صعب.
- في اليونان، طالبت الحكومة
موظفيها بإطفاء الأنوار والأجهزة الكهربائية كافة في أماكن عملهم قبل المغادرة،
وأطلقت برنامجاً لاستبدال مكيفات الهواء والثلاجات التي تستهلك الكثير من الطاقة،
بأجهزة أخرى أكثر توفيراً.
- في إيطاليا، أصبحت مكيفات
الهواء في المباني الحكومية والتعليمية، محدّدة عند درجة حرارة 27 وما فوق، وفرضت
السلطات الإيطالية غرامة تصل إلى حدود 3 آلاف يورو على كل من يخالف هذه التعليمات.
- في إسبانيا، منعت الحكومة
تشغيل مكيفات الهواء عند درجة أقل من 27 درجة أيضاً، واضطرت لإطفاء الأنوار بعد
الساعة العاشرة مساءً، فضلا عن دعوة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز، موظفي القطاع
العام والخاص إلى التخلي عن رابطات العنق، بسبب موجة الحرّ التي تضرب أوروبا، علّ
هذا الإجراء يخفف من ساعات تشغيل التكييف.. وانسحب هذا الحال على كلٍ من فنلندا
والتشيك، وكذلك البرتغال التي تشهد اعتصامات ضد إجراءات الحكومة.
- في هولندا، أعلنت السلطات
إغلاق 76 ألف شركة في النصف الأول من العام الحالي، وهو أعلى رقم يُسجل منذ العام
2007، تاريخ بدء مكتب الإحصاء في البلاد تتبع عدد الشركات المُفلسة.
- في ألمانيا، المستورد
الأبرز للغاز الروسي، ألزمت السلطات جميع المباني الحكومية والمعالم التاريخية
بإطفاء الأنوار أيضاً، وبعدم تسخين المياه داخل الصالات الرياضية وحمامات السباحة.
فيما أرسل المستشار الألماني أولاف شولتس قبل أيام، إشارات سياسية، مفادها أنّ
إعادة إعمار أوكرانيا ستكون أضخم من "خطة مارشال"، وستكلف العالم
مليارات ضخمة، غامزاً إلى ما قد يترتّب على الدول الأوروبية من أعباء إضافية كلّما
طال أمد الحرب في أوكرانيا.
ما سبق كله، يترك شعوراً
متنامياً لدى الأوروبيين بأنّ الحرب باتت ضدّهم، خصوصاً مع كل يوم يقترب فيه
"الجنرال الأبيض" (فصل الشتاء) الذي لم يخذل روسيا يوماً في كل حروبها،
بخلاف الخذلان الأوروبي من سياسات الولايات المتحدة؛ خذلان بدأ بالتسلّل متأخراً
إلى نفوس الحكومات الأوروبية، معيداً إليها جزءاً من رشدها حتى تستدرك بأنّ النفخ
الأمريكي في أبواق الحرب، كان هدفه إبعاد دول أوروبا عن روسيا وإغراقهم في
الأزمات، بمعزل عن أيّ تفصيل من تفاصيل الخلاف بين روسيا وأوكرانيا.
التاريخ يشهد على تدخلات
واشنطن
هنا لا بدّ من العودة قليلاً
إلى التاريخ، تحديداً إلى السياسات الأمريكية التي كانت على مر العقود الخمسة
الماضية، حافلة بالتدخلات في شؤون الدول حول العالم، وكانت ترمي دوماً لتغيير
المسارات أو لخلق العدوات بين الدول والكيانات.. تدخلات ما نضبت التسريبات حول
تفاصيلها منذ عقود إلى اليوم، وقوامها كان غالباً الغزوات وتنظيم الانقلابات
المسلحة، والتأسيس للثورات الملونة، أو إطلاق العنان للحروب الدموية، بواسطة
مؤسسات كانت غالباً واشنطن تحتضنها وترعاها مع مرور الوقت، بغية إقحامها في الوقت
المناسب في تنفيذ ما تسميه الأوساط الروسية "النموذج السياسي-
العدواني"، في كل لحظة ينشب خلاف مع الاتحاد الروسي، أو قبله مع الاتحاد
السوفييتي.
أحداث من هذا النوع حول
العالم، شهدت على تدخلات واشنطن بالانقلابات والتسليح، وكلّها حديثة في القرن
العشرين، مثل ما حصل في المكسيك، والدومينيكان، وكوبا، وغيرها. فلمن يذكر الصراع
بين إيران والعراق، يومها كانت الولايات المتحدة تدعم العراق علانية، لكنّها في الوقت
نفسه كانت زوّدت طهران بالسلاح ضمن صفقة "إيران كونترا" لمصالحها الضيقة
(تحرير الرهائن).
في العام 1983، غزت الولايات
المتحدة غرينادا، ودافعت عن عملية الغزو باعتبارها عملًا يهدف إلى حماية المواطنين
الأمريكيين في الجزيرة. يومها اعتبرت واشنطن أنّ الغزو كان "ضرورياً"،
فأوجدت لنفسها قرينة مفادها أنّ ميثاق الأمم المتحدة "يسلّم بأهلية الهيئات
الإقليمية في التكفل بالحفاظ على الأمن والسلم الإقليميين"، وذلك في انتهاك
صارخ لميثاق الأمم المتحدة التي أدانت جمعيته العامة الغزو، ووصفته بأنّه خرق للقانون
الدولي.
الأمر نفسه حصل أيضاً في بنما
عام 1989 تحت مسمى "حماية المواطنين الأمريكيين" (نحو 35 ألف أمريكي) في
حينه صنّفت واشنطن غزوها "دفاعاً مشروعاً" عن الديمقراطية وحقوق
الإنسان، ومحاربة تجارة المخدرات، ناهيك عما حصل في ليبيا عام 1986 أو ما يُعرف
بأحداث "خليج سرت" الذي صنّفته "مياهاً دولية"، سامحة لنفسها
إجراء مناورات عسكرية فيه، ما أفضى إلى صدام دموي مع القوات الليبية.