هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أثار موقف حزب العدالة والتنمية من العدوان الإسرائيلي على غزة نقاشا كبيرا داخل الأوساط السياسية والإعلامية المغربية، بل وحتى داخل حزب العدالة والتنمية نفسه.
خصوم هذا الحزب، رأوا في هذا الموقف محاولة لمناكفة سياسة الدولة التي أنتجت في اللحظة التي كان حزب العدالة والتنمية يترأس الحكومة، بل كان رئيس الحكومة الدكتور سعد الدين العثماني هو الذي وقع على الاتفاق الثلاثي، الذي أعطى الانطلاقة الرسمية للتطبيع بين الرباط وتل أبيب، فيما لاحظ مخالفوه من المنصفين وجود تحول في الموقف، يعكس رغبة لدى الحزب في تصحيح موقفه من القضية الفلسطينية، ومسح عار التطبيع الذي لحقه.
في الداخل الحزبي، تباينت وجهات النظر إزاء هذا الموقف، فالغالبية ترى أنه يمثل الموقف الأصيل الذي تبناه الحزب منذ تأسيسه، وبقي محافظا عليه إلى أن جاءت لحظة التوقيع على الاتفاق الثلاثي (يعتبرون هذه اللحظة مشؤومة)، والبعض الآخر، يرى أن الانحراف الذي وقع في موقف الحزب إزاء التطبيع، تتحمله القيادة السابقة، وهو لا يعكس موقف الحزب، وأن الحزب بصدد العودة إلى موقفه الأصيل، والمصالحة مع مبادئه وهويته، بل وحتى مع قواعده وعاطفيه، ممن قرروا وضع مسافة عن الحزب لحظة انخراط قيادته في التطبيع.
المسيسون داخل الحزب، أو بالأحرى الذين باشروا التجربة الحكومية السابقة، يحاولون أن يقرؤوا موقف الحزب باعتبار تموقعه، وأن وجوده في رئاسة الحكومة كان يفرض عليه التماهي مع موقف الدولة وعدم مناكفتها، وأنه في اللحظة التي تم فيها التحرر من الموقع الحكومي عاد الحزب لموقفه الأصيل.
"الحاذقون" من هذا الصنف، يبحثون عن حجج أكبر للتمييز بين الموقف المبدئي الذي يفترض صدوره من موقع المعارضة، والموقف السياسي البراغماتي الذي يصدر من موقع إكراهات التدبير الحكومي، ويعتبرون أن سياسة "تركيا" التي تعتبر نموذجا ملهما للإسلاميين، لا تختلف في شيء عن سياسة المغرب بهذا الخصوص، سواء في الانعطاف نحو دول الخليج التي نابذت الإسلاميين العداء ودعوة قوى الثورة المضادة، أو في التطبيع مع إسرائيل والعودة لتقوية العلاقات معها بعد سنوات من الصراع الكلامي.
في هذا المقال، نحاول أن نبحث هذه القضية من زاوية فكرية وسياسية، تتحرر من ضغط هذه المواقف، وتنظر إلى وجه المشكلة في موقف حزب العدالة والتنمية، أي شكل تعاطيه مع السياسة الخارجية للبلاد، والثوابت التي تحكمه في ذلك، وما إذا كانت قواعد تفكيره في النظر لهذه السياسة هي ما يعكس أزمة موقفه أو تناقض اختياراته، أم أن الأمر يتعلق بتمايز الموقع، وإكراهات الحكومي؟
في نقد سياسة وزارة الخارجية تجاه القضية الفلسطينية
من المهم قبل مباشرة الحديث عن موقف العدالة والتنمية من بلاغ وزارة الخارجية المغربية إزاء العدوان الإسرائيلي على غزة، الإشارة إلى أن الشجب انطلق قبل صدور الموقف، إذ تم توجيه نقد شديد للخارجية المغربية بسبب تأخرها عن إعلان موقف من العدوان الإسرائيلي على غزة.
عدد من الناشطين داخل العدالة والتنمية، والذين يتموقعون في مراكز أو مراصد لمناهضة التطبيع باشروا هذا النقد وركبوا لغة حادة، وبنوا نقدهم على حجتين اثنتين: أولهما أن الدولة العبرية هي التي أعلنت الحرب باغتيالها قائد سرايا القدس، تيسير الجعبري. والثانية، أن بلاغ الخارجية المغربية الذي أعقب الاتفاق الثلاثي، حدد مرجعية واضحة تؤطر الموقف المغربي وتضع القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية، بما يعنيه ذلك، حضور البعد المبدئي في النظر إلى أي عدوان إسرائيلي، وهو ما لا يبرر بحال التأخر في الموقف.
صدور بلاغ وزارة الخارجية، زاد في حدة الانتقادات، فتم استغراب عدم إدانة العدوان الإسرائيلي، وتم الاكتفاء، بإبداء القلق من تدهور كبير في الأوضاع في غزة، وعودة أعمال العنف...
وجه النقد الذي مارسه العدالة والتنمية أن بلاغ الخارجية يساوي بين الضحية والجلاد، ويغطي على العدوان، ويصور الوضع كما لو كان يتعلق بمجرد أعمال عنف صادرة من الطرفين، في حين كان المطلوب بمقتضى كافة المرجعيات التي تلتزم بها الدولة المغربية أن تتم المسارعة إلى إعلان التنديد بالعدوان الإسرائيلي والاصطفاف إلى جانب الحقوق الفلسطينية.
"العدالة والتنمية" الرسمي كان من بين المنتقدين لسياسة وزارة الخارجية، لكن من المهم أن نلاحظ أنه فضل أن يصرف موقفه عبر لجنة علاقاته الخارجية وليس عبر أمانته العامة.
الأمانة العامة للحزب، عبرت عن رفضها للتطبيع في أكثر من مناسبة، لكن لغة بلاغاتها لم تصل حد الاحتكاك المباشر مع بلاغ وزارة الخارجية المغربية.
لجنة العلاقات الخارجية لحزب العدالة والتنمية استعملت حجة أخرى غير مرجعية التوقيع على الاتفاق الثلاثي، فحاولت أن تمايز بين الملك وبين وزارة الخارجية، وأن "تستعمل رئاسة الملك للجنة القدس" حجة في النقد، وأن هذه المكانة الاعتبارية والرمزية، تفرض على المغرب أن يكون ضمن المتصدرين لقائمة المنددين بالسياسة العدوانية الإسرائيلية.
في إشكال الموقف من السياسة الخارجية
ليس القصد أن نناقش هذه المواقف، ولا حتى أن نحاكم الموقف المغربي الرسمي، لكن المراد أن نناقش قضية فكرية سياسية تتعلق بالنظر للسياسة الخارجية المغربية ومشروعية تقييمها ونقدها.
إذا رجعنا نسبيا إلى الوراء، وبالتحديد إلى ما قبل تجربة التناوب السياسي، كان الثابت عند أحزاب الحركة الوطنية، ثم أحزاب الكتلة الديمقراطية، أن السياسة الخارجية، هي جزء من السياسات التي يتوجه إليها التقييم والنقد والمراجعة، وأن مركزية حضور النظر الملكي في توجيه دفتها، لم يكن يمنع من إبداء الرأي، وأحيانا التعبير عن الاعتراض، إذا كان هناك تقدير سياسي بأنها قد تضر بالمصالح الحيوية للبلاد.
التجربة السياسية المغربية تقدم حجة كبيرة في هذا الصدد، فقد تم اعتقال عبد الرحيم بوعبيد بسبب اعتراضه على سياسة الدولة في الصحراء، واعتقاده أنها أخطات بقبولها الاستفتاء، وتقديمها لتنازل كبير سيشجع الجزائر وجبهة البوليساريو لممارسة الابتزاز في التفاوض.
الذين يمارسون السياسة بالعدالة والتنمية ويريدون خلق توتر بينه وبين المؤسسات، يلجأون إلى الحيلة الغبية، وهي أن يروجوا لمقولة أن "الحزب يواجه الملك عبر وزير الخارجية"، وأنهم يعارضون سياسة الدولة بالاختباء وراء رئاسة الملك للجنة القدس، وأن هذه المكانة الاعتبارية تلزم وزارة الخارجية بأن يكون موقفها متناسبا.
الزعيم الاتحادي كان يعبر عن نقده من تقدير سياسي، مفاده أن التفاوض تستعمل فيه أوراق، وأن إحراق الأوراق سيدفع الخصم إلى الشطط في مطالبه وتعقيد الملف وجعل حله أمرا متعذرا، لكن تقدير الدولة كان مختلفا، ولم يكن من الممكن ممارسة الإقناع السياسي للأحزاب السياسية، لأن الأمر يتعلق بنظر بعيد مبني على معطيات يصعب الإدلاء بها، فالزعيم الاتحادي، لم يكن يدرك أن سياسة "جعل الاستفتاء أمرا مستحيلا"، هو جزء من لعبة إفقاد الخصوم لأوراقهم في التفاوض.
في لحظة ترتيب تجربة التناوب، لم يخل النقاش بين الحكم وبين أحزاب الكتلة الديمقراطية، من طرح قضية السياسة الخارجية، وهل تبقى في إطار دائرة السيادة أم تخرج عنها إلى الأحزاب السياسية، وكان هناك توجه قوي من لدن الأحزاب الديمقراطية لتقليص وزارات السيادة، بما في ذلك وزارة الخارجية.
لم يعد النقاش بعد تجربة التناوب، حول السياسة الخارجية، يعكس الصراع حول الحكم، بل بدأت تنسج أطروحة جديدة، تستند إلى مقولة التمييز بين الاستراتيجي والمرحلي، وأن تغير الحكومات، يمكن أن يؤثر في السياسات الخارجية، وأن الحاجة تدعو إلى إخراج السياسات الخارجية من دائرة الحكومي، وجعلها بيد الدولة، لأنها تتميز بصفة الثبات والاستمرار، وأن الاستراتيجي (النظر إلى مصالح الدولة على مدى بعيد) يحتاج لهذه الصفة.
رئيس الحكومة الأسبق، عبد الإله بن كيران، كان دائما يتكئ على هذه الحجة، ويرى أن السياسة الخارجية هي سياسة الدولة (سياسة الملك)، وأن الحكومة، تساند جلالة الملك فيها، وحتى في اللحظة التي وقع فيها الدكتور سعد الدين العثماني على الاتفاق الثلاثي (التطبيع) خرج بن كيران على حائطه الفايسبوكي، يقول بأن حزبه يتفهم موقف الدولة، وأن جلالة الملك يتحرك بنظر بعيد وفق حسابات مضبوطة لكسب قضيتنا الوطنية.
صحيح أنه منذ توليه الأمانة العامة للحزب، ما فتئ ينتقد التطبيع، بل وينتقد أيضا تورط القيادة السابقة في التوقيع، وأن خيارات كانت متاحة أمام رئيس الحكومة السابق لكي يعفي الحزب من السقوط في هذا الموقف المحرج، لكن في المحصلة، لا يزال هناك التباس كبير في النظر إلى السياسة الخارجية، وهل هي سياسة الدولة، التي تملك النظر إلى ما هو استراتيجي، وبالتالي، يبقى الموقف هو المساندة أو في الحد الأدنى التفهم، أم أن هذه السياسة هي مثل باقي السياسات، هي موضوع نقد وتقييم، أم أن هناك سياسة للملك تتطلب الدعم والإسناد، وأخرى لوزارة الخارجية، يمكن أن يمارس عليها النقد الكثيف.
نساند سياسة الدولة أم نعارضها أم نتفهمها؟
الموضوع معقد وشائك، وما يجعله أكثر تعقيدا أنه يخص قضية فلسطين والتطبيع مع إسرائيل، والراجح أنه لو كان يخص القضية الوطنية، لكان النقد أخف، حتى ولو ارتكبت أخطاء تدفع الخصوم إلى كسب نقاط ضد قضيتنا الوطنية.
الذين يمارسون السياسة بالعدالة والتنمية ويريدون خلق توتر بينه وبين المؤسسات، يلجأون إلى الحيلة الغبية، وهي أن يروجوا لمقولة أن "الحزب يواجه الملك عبر وزير الخارجية"، وأنهم يعارضون سياسة الدولة بالاختباء وراء رئاسة الملك للجنة القدس، وأن هذه المكانة الاعتبارية تلزم وزارة الخارجية بأن يكون موقفها متناسبا.
الأحزاب السياسية، لا سيما منها ذات المرجعية الإسلامية، يهمها أكثر الجانب المبدئي، وتحاول أن تحاسب السياسة الخارجية من منظوره، ولذلك، آلمها كثيرا ألا يصدر تنديد مغربي للعدوان الإسرائيلي، وألا يسبق المغرب الدول الأخرى في هذا التنديد.
لكن في الجوهر، ثمة مشكلة عميقة تحتاج لنظر. تتعلق بالموقف من السياسة الخارجية، وهل هي سياسة دولة تقوم على نظر استراتيجي، وتستدعي في كل القضايا الدعم والإسناد؟ أم هي كذلك، لكن مع وجود نقاط حمر تتعلق بثوابت الأمة وقضاياها العادلة وضمنها قضية فلسطين ومناهضة التطبيع؟ أم هي ينبغي النظر إليها على أساس أنها سياسة حكومة، تخضع مثلها مثل باقي السياسات العمومية للنقد والمراجعة والاعتراض؟ أم هي سياسة دولة، تقتضي الإسناد في حال الاتفاق وتقتضي التفهم في حال الاختلاف، في كل القضايا بما في ذلك قضية فلسطين ومناهضة التطبيع؟
الأحزاب السياسية، لا سيما منها ذات المرجعية الإسلامية، يهمها أكثر الجانب المبدئي، وتحاول أن تحاسب السياسة الخارجية من منظوره، ولذلك، آلمها كثيرا ألا يصدر تنديد مغربي للعدوان الإسرائيلي، وألا يسبق المغرب الدول الأخرى في هذا التنديد.
صحيح أنها ترمم شعبيتها بهذا النقد، وتتصالح مع مواقفها المبدئية تجاه القضية الفلسطينية، لكنها في المقابل، تخلق تناقضا كبيرا في وعي مناضليها حول الموقف من السياسة الخارجية، وهل هم ملزمون بواجب إسنادها لأنها سياسة الدولة أو سياسة الملك، أم هم ملتزمون بالمرجعيات المعلنة إزاء القضية الفلسطينية وعلاقتها بقضية الصحراء، أم أنهم أصبحوا ينظرون للسياسات الخارجية المغربية على أساس أنها سياسات جهات مؤثرة داخل الدولة، وليست سياسة الدولة؟
الحساسيات من الإشكال والحاجة لنظر فكري سياسي
داخل العدالة والتنمية، ثمة حساسيتان في النظر إلى هذا الموضوع، الأولى، يهمها ما هو مبدئي، وبالتالي هي غير معنية مطلقا بمقولة الاستراتيجي في تدبير سياسة الدولة الخارجية، لا سيما في القضية الفلسطينية، والثانية، يهمها ما هو سياسي، أي ترميم الشعبية عبر تصحيح الموقف، للمصالحة مع قواعدها النافرة، وتصحيح الصورة إزاء قضية مناهضة التطبيع، وإحداث القطيعة مع مرحلة سابقة بكل مواقفها وتراجعاتها وتعثراتها.
واضح أن ما يوحد الحساسيتين هو إعادة العافية إلى الذات وتصحيح الصورة في الخارج، وإن كان الثمن قد يكون الدخول في احتكاك مع الدولة أو مع بعض الجهات المؤثرة فيها، لكن، في الجوهر، هل هذا الهدف، أي تصحيح الموقف وإعادة العافية إلى الذات، ينهي المشكلة؟
بالتأكيد لا، بسبب أن الحزب يفتقد لقواعد تفكير تؤطر موقفه من السياسة الخارجية، إذ لا وجود لأي ضمانة لأن يعود الحزب لسياسة التأرجح بين منطق الإسناد ومنطق التفهم منطق الاعتراض.
الحساسية الثالثة، التي يفترض أن يتم التفكير بجدية في شروط تبلورها هو أن يتم طرح سؤال السياسة الخارجية المغربية للنظر الفكري والسياسي، والتفكير الجماعي في قواعد النظر إليها، إذ يفترض أن تتم الإجابة أولا عن سؤال موقع السياسات الخارجية في تمثلات المناضل الحزبي، لأن فك التناقض، بعدم الوقوع في ثنائية: نحن نساند سياسة الدولة، وننتقد سياسة بوريطة، هو الشرط الأساسي للتعاطي الموضوعي مع هذه القضية، ووضع معادلة دقيقة، تحدد موقع السياسة الخارجية في تمثلات الحزب، وكيف ينظر إليها، وهل هي سياسة دولة، أم سياسة وزارة خارجية تعكس ديناميات الفاعلين المؤثرين على القرار، وما هي الأشياء التي يتم نقدها، وما الأشياء التي ينبغي التوقف فيها، وما يقتضي الاعتراض، وما يقتضي التأييد المطلق، وما يقتضي التفهم فقط.