كتاب عربي 21

عبد الفتاح السيسي والثقوب السوداء

أحمد عمر
1300x600
1300x600
احتفل الإعلام الروسي بالجدّة الروسية البطلة الأبية التي ألجمت الجندي الأوكراني، وأبت أن تبيع علم الاتحاد السوفييتي ببعض الطعام، ولو كانت سيدة مصرية لأطلقوا عليها لقب امرأة الراية، أو امرأة العلم، فلقب الأم المثالية محجوز للراقصات.

المصريون بارعون في اتخاذ الأسماء وإطلاق الصفات من غير نصب أو تعب، وآخر سيدة مصرية نالت لقباً في قاموس الألقاب المصري هي سيدة المترو، أطلق اللقب على سيدة أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر في عهد السيسي بالشبب، وهي ناجية لحد الآن من القصاص، فالأمر بالمعروف جريمة في عهد السيسي. وللسيدة مثيلات كثر، مثل امرأة الكرتونة، وامرأة العربة، وفتاة المول، وهي ألقاب لنساء مجاهيل، اشتهرن بأفعال معينة ووقائع تشيب من هولها البرصان، فغلب عليهن اللقب.

الجدّة الروسية من قرية قريبة من ماريوبول، واسم المدينة عربي الأصل، فماريو تذكير لاسم مريم عليها السلام، وبول من بلد أو بلس. صنع الروس للجدّة تماثيل كثيرة، واحتفوا بها أيّما احتفاء، وصفق لها البرلمان الروسي بعد أن أبلسوا من ظهور بطل. وهي من قرية مختلطة الأعراق، صورتها الكاميرا خارجة من بيتها بالعلم الشيوعي الأحمر  من دماء الشعوب الإسلامية والمسيحية معا، وقد ظنّت أن الفاتحين الروس انتصروا، فإذا بالجنود الأوكران يوزعون طعام الإغاثة، فأعطاها الجندي الأوكراني حصتها، ثم انتزع منها علمها الأحمر وداس عليه، فأعادت إليه طعامه، واستنقذت علمها الأحمر قائلة: إنه العلم الذي دافع عنه آباؤها وأجدادها، فأمست رمزاً في طول روسيا الاتحادية وعرضها.

وللجدّة التي انتشرت صورها على الجدران في موسكو والمدن الروسية، وعقدت حولها الندوات، عظاتٌ وعبرٌ، وأول عظات القصة وعبرها هي أنَّ الخصمين الروسي والأوكراني ما يزالان يحتكمان إلى قوانين الحرب، وأن الأوكران أرسلوا الجدة طليقة، ولو أن الأمر وقع في سوريا، لأكل الذئب الجدّة والعلم معاً.

ومن عظاتها أنّ صانع الإعلام الروسي حائر، ويطمح إلى التذكير بالأمجاد القديمة الغابرة، ولن يشفع كل هذا الاحتفال الروسي بالعود إلى عهد الشيوعية، العهد الذي كانت المعدة شبعى والقلوب جوعى، وأن للاحتفال وجهين:

الأول هو كرامة المرأة الروسية وإباؤها، والثاني: هو سوء تصرف الجندي الأوكراني. لنذكر أنه عندما سقط الاتحاد السوفييتي، لم يخرج سوى عشرات من الناس متحسرين على نهاية عصر "المعاقبة والمراقبة" الفضيل.

وسبب هذا الاحتفال أن الروس بحاجة إلى قصة بطولية، والبطولات ليست حكراً على الأقوياء والمسلحين والملاكمين وأولي الطول، فالناس تقدر الكهول، فالكهول قريبون من الموت الجليل، ولجمعهم الحكمة، أو لضعفهم وعجزهم، والناس تشفق على المعوقين وأهل الحاجة، وبعض الشعوب تقدسهم كما في الهند.

ذُكر أن أحد أسباب التعظيم الذي ناله هوكينغ، عالم الثقوب السوداء المعروف، هو إعاقته، فالناس تدرك أنّ الله يعوّض المعاقين بأجسادهم خيراً في عقولهم. وقد انتبه الروائي الروسي مكسيم غوركي إلى عظمة الأم وأثرها في الإرشاد والهداية والتبشير، فاستلهم قصة إحدى قريباته وكتب روايته الأم، وهي رواية شيوعية عن خنساء روسية حبس ابنها الذي كان يوزع مناشير البلاشفة، فنابت عنه، فأصبحت روايتها أم الأدب الاشتراكي.

ذكّرتنا الجدة الروسية بأمهات رؤسائنا الأفاضل، أم السيسي، وأم حافظ الأسد، وأم حسني مبارك، اللاتي أحسنَّ تربيتهم، وأنشأنهم على الفضائل والمكارم ومعالي الأمور إنشاءً. وأم السيسي أشهر أمهات الرؤساء، لاستشهاده بأقوال أمه كثيراً كأنها دستور أو شعر شعبي. من ذلك أنه عندما تخلى عن تيران وصنافير للسعودية، ذكر أنَّ أمه أوصته بأن يرد كل حاجة لسيت له إلى أصحابها، فأحرز فضيلتين عبر فلتره الشهير، لم يحظَ بهما ملوك مصر السابقون، أولاهما أمانته، والثانية برّه بأمه.

ورأينا في الحلقة الثانية من مسلسل الاختيار الذي يروي قصة صراع الفراعنة مع الإخوان؛ أمه تلبس طرحة بيضاء، وتقول له، ووجهها يهلّ بالنور إنها راضية عنه، ثم في حلقة أخرى يلتقي جنوداً مصريين، وليس أحباشاً مدججين مذخّرين بالسلاح، وهو يضع نظارة بزجاجتين سوداوين حتى تقي عينيه من وهج الشمس، ثم يسأل جندياً عما إذا كان يدخن، فيصمت تأدبا، فيضربه على صدره، وهو سؤال مضحك لا يقع إلا في الأفلام الكوميدية، فالتدخين ليس تهمة إخوانية، بل هو نقيض آداب الإخوان، وكان المدرسون يجرونه لنا عندما كنا تلاميذ. ثم إنّ الجندي الطيب يخبره وهو ينظر إلى الأفق البعيد، أنه يعيش مع أمه (لم يذكر إن كان في أوضة واحدة) وأنه يدخن، فيعظه الرئيس بصوت ياسر جلال المفخّم والمغصوص بلقمة عالقة في الزور، قائلاً: أمك تحطها على راسك من فوق.

وهذا يعني أنه يحضّه على التدخين، والنكاية بالإخوان.

وقد انتبه الشيخ عصام تليمة إلى أن رئيس الثقوب السوداء المصري يعاني من عقدة تبكيت لعقوقه أمه، وتأخيره دفنها حتى يتسنّى له الاحتفال بقناة السويس، ويلمّ النقطة في الفرح، فادّخر جثمانها في الثلاجة إلى جانب الماء، فالماء هو الحياة، وقال الشيخ تليمة: إنه يتطهر بالمسلسل ويستشفي.

يقول محبّو حافظ الأسد في رثائه إنه كان باراً بأمه، وظهرت صور لها في بعض المسيرات العفوية وحول رأسها هالة التقديس، وإنه عندما حمي الوطيس بينه وبين أخيه رفعت الأسد على السلطة، قصد القرداحة بالطائرة واشتكى أخاه الصغير لأمه، وأحضرها كي تطفئ نار الحرب، فأنقذت سوريا من حرب مدمرة، وتلك من كرامات القديسة ناعسة.

يقال إن الرئيس الراحل محمد حسني مبارك كان عاقاً، ولم يظهر مع أمه في صورة قط، ولم ينقل عن أحد أنه زارها وأكرمها، والغالب أنّ الطغاة العرب يجلّون أمهاتهم، ويحسنون لذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل، فكل رؤساء فروع المخابرات أبناء سبيل، بحرف الزاي.

والآن يحضرنا سؤال: ماذا لو أن الجدّة الروسية رفعت العلمين الروسي والأوكراني معاً وقالت للجندي: أنتم إخوة، فلماذا تقتلون بعضكم يا أولادي؟!

العبرة هي أنَّ روسيا البوتينية ومصر السيسية وسوريا الأسدية بها نقص مكتسب في القيم والمُثل لا تسده شعارات ولا ترده مواكب فرعونية، أو تعوضه حكمة عجوز، أو تستره بلاغة رئيس مفوّه.

إنّ بلد الرئيس العربي مصر كانت أو سوريا، من أغنى البلاد بالثروات المادية والروحية، من الكتاب والحكمة، وقد ضيعت كلها في ثقوب الانقلاب السوداء، ولم يزد الرئيس أن نطق هذه الجوهرة: "أمك تحطها على رأسك من فوق"، وقصده: ليس في الثلاجة.

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (0)