هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شكل الرقص الشرقي منذ حملة نابليون وما تلا ذلك الهوس والولع الذي أصاب الكٌتاب والرحالة بالراقصات إطارًا معرفيًّا للتفاعل الثقافي بين الشرق والغرب على مستوى الأدب والفن التشكيلي والفوتوغرافيا وفنون الأداء.
هذا الموضوع الشائك تطرقت له الكاتبة والباحثة المتميزة شذى يحيى، في كتابها "الإمبريالية والهِشَّك بشَّك: تاريخ الرقص الشرقي"، الصادر عن دار ابن رشد، القاهرة، 2021.
يقع الكتاب في 254 صفحة من القطع المتوسط، ويتألف من مقدمة وثمانية فصول وخاتمة.
الكتاب هو "محاولة أولية للبحث في موضوع شائك ومهم وهو علاقة الرقص القادم من الشرق، وهو هنا بمعنى مفهوم إدوارد سعيد للشرق، في كتابه الشهير الاستشراق".
هشِّك بِشِّك
الرقص الشرقي الذي تتحدث عنه الباحثة، هو، نوع من الرقص اشتهرت به مصر وشمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط عموماً "قائم على حركات تعبيرية بالخاصرة والأذرع والسيقان، وله زي خاص مميز به (...) وهو عادة يُمارس في المناسبات الاجتماعية والاحتفالات، ويرجع بعض باحثي الأنثروبولوجيا جذوره لرقصات طقسية، التي كانت تقام في معابد الآلهات الإناث، وعلى الأخص حتحور وعشتار إنانا" (ص 9).
تشير الباحثة إلى أن المصريين أطلقوا على الراقصة عموماً "هشِّك بِشِّك"، وهو مصطلح مصري شعبي خالص. له أصول لغوية "هِشِّك وهِشّتِك، بمعنى هز (...) والبشك يعني سوء العمل". وبحسب الباحثة فـ "هِشِّك وبِشِّك، فربما أكثر ما يصدق على المعنى أنها ليست مجرد راقصة، بل هي المرأة اللعوب الخليعة الماجنة، المرادف الشعبي المصري للمصطلح الفرنسي Femme Fattele / المرأة المدمرة، التي تستخدم جسدها وسطوة أنوثتها في تحقيق رغباتها ومكاسب تفيدها، فهو ليس مجرد نعت بالابتذال وسوء الخلق، بل هو مرادف للشر والفجور".
منذ بدء العلاقة بين الشرق والغرب في العصر الحديث، وربما من زمن أقدم من ذلك في عصور الحروب الصليبية، والقرون الوسطى إعتمد الغرب في معرفته بالشرق على مصدرين أساسيين هما "الكتاب المقدس"، وترجمات "ألف ليلة وليلة.
وهي الصورة التي روجها المستعمر الأبيض للمرأة الشرقية كونها ساحرة ومسكونة بالغواية والإغراء. وحملت مضامين سلبية عن نساء الشرق. فالشرق "منطقة مليئة بالوحشية، والقذارة". ومن وجهة نظر إدوارد سعيد فإن مصطلح شرقي في العصر الاستعماري كان يُستعمل كنوع من الإزدراء، وكدلالة على نوع أقل في الإنسانية، وأكثر انحطاطا. وعليه ترى شذى يحيى، أن "مصطلح (رقص شرقي) هو الآخر يُعبّر عن شكل من التنميط السياسي الاستعماري للرقص البلدي أو الخاص بالمنطقة العربية والحط من منزلته" (ص 23).
فـ"الراقصة الشرقية بالنسبة للمستشرق هي كما وصفها الروائي الفرنسي الشهير هيوسمان Huysmans في روايته (ضد الطبيعة Des Esseintes) مخلوق خارق وغريب يحلم بثدييها المرتعشين وخصرها المرفوع وفخذيها المتراقصين تبدو أمامه الآن كرمز لكل مفاسد العالم القديم" (ص 31). وبذلك "اعتبر الرقص تعبير عن شهوانية الشرقيين وطبيعتهم المنحلة واللاأخلاقية" (ص 32 ـ 33).
الغوازي والعوالم
تفرق الباحثة بين فئتين، الغوازي والعوالم، وهما الفئتان اللتان كانتا تشكلان طبقة الراقصات في مصر مطلع القرن التاسع عشر.
فـ"الغوازي" كما عرفها إدوارد لين في كتابه "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم": "هن النسوة المنتميات لقبيلة تحمل نفس الإسم، فالرجل منهم بالغازي، والمرأة بالغازية" (...) وهن يطلقن على أنفسهن لقب البرامكة (...) ويتميزن بأنهن لا يتزوجن من الطبقات الأخرى الريفية أو المدنية (...) ويعتمدن أحياناً بعض الكلمات الخاصة بهن حتى لا يفهم الغرباء حديثهن" (ص 52 ـ 54).
أما "(العوالم) ومفردها (عالمة) فهي المرأة التي من المفترض أن تكون عالمة بفنون الرقص والموسيقى والغناء وإنشاد الشعر وإلقائه والفنون المتعلقة بذلك، وهي لا ترتبط بجماعة عرقية أو إثنية معينة كالغوازي" (ص 57).
وترى شذي أن الفروق الأساسية بين الغوازي والعوالم، هي أن "العوالم يغنين ويرقصن في البيوت محجوبات بمعزل عن الرجال. بينما ترقص الغوازي سافرات الوجوه في الشوارع" (ص 59).
إعادة تمثيل الشرق
منذ بدء العلاقة بين الشرق والغرب في العصر الحديث، وربما من زمن أقدم من ذلك في عصور الحروب الصليبية، والقرون الوسطى إعتمد الغرب في معرفته بالشرق على مصدرين أساسيين هما "الكتاب المقدس"، وترجمات "ألف ليلة وليلة.
في كتابه الاستشراق، يرى إدوارد سعيد، أن إعادة تمثيل الشرق دائماً كانت تصب في خدمة هدف واحد هو مصالح الإمبريالية الغربية، وتكوين صورة ذهنية تؤكد التفوق الغربي على الشرق. لذلك "كانت المبالغة في وصف النساء الشرقيات بالدعارة، وعلى الأخص الراقصات المصريات، يخدم الهدف الإمبريالي في إهانة ووصم الشرق الأوسط العثماني ككل وإزدرائه، مما يسهل التفسير الأخلاقي للإستيلاء عليه وغزوه" (ص 84).
وبحسب الباحثة "فالمرجع الوحيد لتاريخ هؤلاء الراقصات هو كتب الرحلات وروايات وإبداعات الفنون الاستشراقية وكتابات ذكور شرقيين من الجبرتي مروراً بأحمد زكي والمويلحي وغيرهم تجمع على الطابع المتهتك والمنحل لهذه المهنة، وأنها عار يصم الشرقيين" (ص 88).
لوحات المستشرقين
فالشرق في لوحات المستشرقين ليس إلا "ماخور كبير يقبع وراء أسوار الحريم ملئ بالملذات الحسية والنساء الشهوانية التي لا تستطيع قمع رغباتها (...) فالثابت أن الكثير من الرسامين لم يذهبوا للشرق ومن ذهب لم يشاهد حريم حقيقي وصنع مشاهد للرقص لا تمت بصلة لما رآه" (ص 120).
قوة الصورة
عززت الفوتوغرافيا من "النظرة للمرأة الشرقية على الأخص كرمز للآخر الأدنى أمام الأنا الأوروبي المتفوق، وكرمز للشرق ككل كأنثى خاضعة شريرة وخاطئة أمام الرجل النبيل الشهم المتفوق" (ص 147) فقد كانت "أغلب بعثات التصوير الأولى للمستعمرات وللشرق ممولة من قبل مؤسسات ثقافية واقتصادية وهيئات سياسية تتبع بشكل من الأشكال النظم الاستعمارية، وكان الهدف الأساسي من هذه البعثات هو صياغة صور تعمل كدليل على صحة الرؤية النمطية العرقية لسكان المستعمرات" (ص 150).
شهرزاد التي ألبست أوروبا
شغلت أزياء الراقصة، بال العديد من المصممين الغربيين، كانت بداية ذلك على يد مصمم الآرت نوفو ورسام الرسوم التوضيحية الشهير ليونباكست، حين كشف في تصميماته منطقة "الجذع وتعريته وترك الجسد بلا دعامات سوى حمالة الصدر وحزام الأرداف. أيضاً، استعماله للألوان الجريئة البراقة واعتماده على التطريز وتطويره لتصميم البنطال المنتفخ والعمامات الملونة للرأس والإكثار من الحلي والقصات فكانت جذوع ممثلات شهرزاد العارية بداية الثورة على عصر المشد الكورسية، هي أيضاً التي حددت المميز الرئيسي لبدلة الرقص الشرقي" (ص 207).
هي الأزياء نفسها التي تم استيحاؤها وتطويرها في ما بعد لأفلام سينمائية غربية ذات مواضيع شرقية مثل "الشيخ" 1921، و"لص بغداد" 1924، وغيرها من العروض التي وضعت أبعاداً جديدة لشكل الشرق الغرائبي الشهواني، وبالطبع شكل الراقصة. فكانت تلك الرقصات مصممة لإشعال حواس المشاهد الغربي وإرضاء خيالاته، ونادراً جداً ما كانت لحركات الرقص الموجودة فيها أيه علاقة بالرقص الشرقي في شمال إفريقيا.
الكتاب غني بالمعلومات، ومليء بالتفاصيل حول علاقة الغرب بالشرق، الكتاب ببساطة، هو، محاولة بسيطة لكشف تاريخ كيف تحول "الهِشِّك بِشِّك" لـ "الرقص الشرقي"، وكيف أثر هذا التحول أثناء حدوثه على المنظومة الثقافية الأكبر في الشرق والغرب.