كتب

معالم الحرب الروسية-الأمريكية في القوقاز.. معطيات ودلالات

لا تستطيع أمريكا الاستمرار في الحفاظ على هذا النظام العالمي الجديد الليبرالي أحادي القطبية إلا بشروط- (الأناضول)
لا تستطيع أمريكا الاستمرار في الحفاظ على هذا النظام العالمي الجديد الليبرالي أحادي القطبية إلا بشروط- (الأناضول)

الكتاب: "ما بعد الإمبراطورية: دراسة في تفكك النظام الأمريكي"
الكاتب: إيمانويل تود
الناشر: دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى 2003

(223 صفحة من القطع الكبير)

إن الولايات المتحدة في سبيلها إلى الفشل في محاولتها إنهاء روسيا أو عزلها، بالرغم من أنَّها تستمر في ذلك وكأن خصمها الاستراتيجي القديم لم يعد يحسب حسابه، إما بإهانته، أو بالتظاهر بالعطف الواجب تجاهه وكأنه مشرف على الموت، وإما بفعل الاثنين معا. في نهاية أيار/ مايو 2002، جاب الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن أوروبا متحدثا عن التعاون مع أوروبا في اللحظة نفسها التي كان فيها الجنود الأمريكيون يتمركزون في إحدى الجمهوريات السوفياتية السابقة: جورجيا. 

وفي معظم الأحوال، لا تخفي واشنطن سرورها في إثباتها للعالم أن الحلف الأطلسي يمكن توسيعه، أو أن الدروع الفضائية الصاروخية الأميركية يمكن البدء بتنفيذها من دون موافقة روسيا. إن القول بأن روسيا لم تعد موجودة، معناه إنكار الحقيقة، لأنه من دون مساعدتها النشطة لم يكن في مقدور الجيش الأميركي أن يدخل أفغانستان.

يقول الكاتب إيمانويل تود: "تتخذ الاستراتيجية الأمريكية لنفسها، في مواجهة الموضوع الروسي، هدفین، أولهما هو تفكيك روسيا الذي يمكن تسريعه عن طريق تحريض النزعات استقلالية في القوقاز، والحضور العسكري الأميركي في آسيا الوسطى.

إن عملیات عرض القوة هذه، من شأنها، في الحساب الأمريكي، أن تشجع الميول الانفصالية داخل القسم ذي الإثنية الروسية في الاتحاد الروسي مما يهدد التماسك القومي الروسي.

والهدف الثاني هو الاحتفاط بقدر من التوتر في علاقات الولايات المتحدة مع روسيا، من أجل منع التقارب بين أوروبا وروسيا ـ توحيد القسم الغربي من أوراسيا ـ عن طريق الاحتفاظ إلى أطول وقت ممكن بالتناقض الموروث عن الحرب الباردة. غير أن الشك والفوضى اللذين ولدتهما السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط أثمرا، على العكس، الظروف المثلى لعودة روسيا إلى الانغماس في اللعبة الدولية، الأمر الذي سارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الاستفادة منه "(ص168).

على الرغم من أن معظم الجمهوريات السوفييتية السابقة، ولا سيما في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز انخرطت في التحالف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة الأمريكية عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، من أجل خوض الحرب على الإرهاب، ومنحت للقوة العظمى المفرطة في قوتها والمهيمنة على النظام العالمي الجديد لقواعد العسكرية على أراضيها، فإن هذه الجمهوريات عينها ما انفكت تدفع ضريبة الحسابات السوفييتية، وبصورة أدق الحسابات الستالينية.

منذ القدم، عرفت هذه المنطقة صراعات جيوبوليتيكية عديدة، من الإسكندر المقدوني إلى السلاطين العثمانيين، الذين حاولوا اجتياح روسيا كفاتحين عبر القوقاز. وعندما سيطرت روسيا القيصرية على القوقاز كله في أواخر القرن الثامن عشر، بعد حرب دامت ستين عاما، عمدت إلى تذكية الصراعات بين الأثنيات الموجودة، أي الصراعات القوقازية ـ القوقازية من أجل، إخماد ثورات الشعوب، ومحاولاتها الابتعاد والانشقاق عن قيصر روسيا. فالقوقاز عقب أخيل لروسيا، تخاف عليه، وتحميه مثلما تحمي الكرملين، الحرب التي جرت في أوسيتيا هي قنبلة موقوتة متروكة منذ عهد ستالين، عندما قسم الزعيم السوفييتي الراحل هذه المنطقة إلى قسمين، جمهورية أوسيتيا الشمالية الملحقة بالفيدرالية الروسية، وعاصمتها فلاديكفكاز، وجمهورية أوسيتيا الجنوبية التي كانت جزءا من جورجيا، وتحظى بنوع من الحكم الذاتي منذ العام 1922، زمن الاتحاد السوفييتي السابق. وبعد انهياره حصلت جورجيا على استقلالها، و أصبحت أوسيتيا الجنوبية جزءا لا يتجزأ من جمهورية جورجيا المستقلة. ولكن هناك خلافات قومية ترقي إلى قرون ماضية بين شعبي جورجيا وأوسيتيا الجنوبية.

ومنذ أن أعلنت جورجيا استقلالها، واجه الجورجيون ثلاث حركات انفصالية. الجمهورية الأدجارية الانفصالية، الواقعة على ضفاف البحر السود، والتي عادت إلى حاضنة جورحيا من دون إطلاق أية طلقة نار، بعد وصول الرئيس المقرب من الغرب إلى السلطة في تبليسي، ميخائيل ساكاشفيلي. وبالمقابل، فإن جمهورية أبخازيا الانفصالية، والواقعة أيضا على ساحل البحر السود، (والتي غالبية سكانها مسلمين)، وخاضت صراعات دموية مع الجورجيين ذهبت ضحيته ما يقارب 13000 شخصا ما بين 1992 و1993، أصبحت تقريبا شبه مستقلة، بعد أن طردت ما يقابرب 250000 جورجي. وهي غير معترف بها من قبل أي دولة، لكنها تحظى بدعم موسكو، إذ تنفق عليها رؤوس الأموال والقوات العسكرية الروسية.. والأمر عينه بالنسبة لمنطقة الحكم الذاتي في أوسيتيا الجنوبية، حيث أن إرادتها بالانضمام إلى روسيا قد فجرت الحرب في عام 1991، على خلفية تراكم توترات قومية وعرقية.

روسيا بوتين.. والحرب الباردة الجديدة

روسيا اليوم ليست روسيا المفككة التي أعلن رئيس وزرائها فيكتور تشؤرنومردين إفلاسها في عقد التسعينيات من القرن الماضي على إثر المحاولة الصاخبة والمتوحشة لتحويل الاقتصاد الروسي إلى الليبرالية في الأعوام 1990 ـ 1997والتي نفذت بمساعدة مستشارين أمريكيين، قادت البلاد إلى الكارثة الاقتصادية. ويمكننا هنا، أن نقبل تشخیص روبرت جلبان الذي ـ يعتبر أن انهيار الدولة كان المسؤول الرئيسي عن الفوضى الاجتماعية والاقتصادية التي سادت زمن الانتقال الروسي من الشيوعية إلى الليبرالية وقد تم تفادي هذا النوع من الكوارث من جانب الزعامة الصينية، باحتفاظها بسلطة فوقية للدولة في قلب عملية تحرير الاقتصاد .

قيصر روسيا اليوم فلاديمير بوتين، غير سلفه بوريس يلتسين الذي قدم التنازلات كلها للولايات المتحدة الأمريكية. إن روسيا فلاديمير بوتين الجديدة تحن إلى زمن القوّة، إذ يحاول بوتين أن يُعيد إلى روسيا موقعها كقوةٍ عظمى" و"أن يُعيد إحياء الكبرياء الوطنية ".

إن الديمقراطية الروسية تمر، على وجه اليقين، بمرحلة تعود فيها الحكومة المركزية إلى استلام زمام السلطة، وهو أمر ضروري بعد الفوضى التي حصلت طوال الأعوام بین 1990 ـ 2000. صحيح أن حكومة بوتين تخوض في الشيشان على أطراف الاتحاد الروسي، عملية حرب قذرة، يمكن بكل مشروعية التشهير بالطرق المتبعة فيها، ولكن يجب أيضا قبول أنه نظرا إلى وجود أعداد لا تحصى من الأقليات الإثنية في نسيج الاتحاد الروسي، فإن منع الدولة الروسية من كبح أي محاولة انشقاق أو أي نزعة استقلالية، معناه تفكك الاتحاد الروسي نهائيا.

إن نشاط وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) في القوقاز خلال السنوات العشر الأخيرة، وتمرکز مستشارين عسكريين أميركيين في جورجيا، أعطيا الصراع في الشيشان بعدة دولية. إنها مواجهة بين روسيا وأمريكا هناك، وعلى الدولتين أن تتقاسما، بإنصاف، المسؤولية الأخلاقية عن الخسائر البشرية.

لقد جاءت حرب القوقاز الجديدة على طبق من ذهب لكي يحقق أهدافه الجيوبوليتيكية والنفطية في آن معا.

أولا ـ السيطرة الكاملة على أوسيتيا الجنوبية، وإخراجها من معادلة الحرب الروسية ـ الجورجية، والاستمرار في الهجوم من أجل السيطرة على تبليسي، وإسقاط نظام الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي، المتهم في موسكو بأنه موالي للولايات المتحدة الأمريكية. وإذا لم تحقق موسكو هذا الهدف بالكامل، فإن تغيير موازين القوى عبر توغل قواتها في العمق الجورجي يسمح لروسيا بتأكيد هيمنتها الإقليمية في منطقة القوقاز، للتفاوض من موقع القوة مع جورجيا مستقبلا، تمكنها من فرض شروطها على الطرف المهزوم، ألا وهو الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي، الذي بات على يقين أن تحالفه مع أمريكا غير مفيد في تحديه جاره الشمالي ، الذي لا يزال يريد استعادة هيبته كقوة إقليمية و دولية يحسب لها ألف حساب في معادلات الصراع الإقليمي والدولي المحتدم في منطقة آسيا الوسطى و القوقازالتي كانت في السابق فضاءا سوفياتيا مغلقا لموسكو.

 

إن نشاط وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) في القوقاز خلال السنوات العشر الأخيرة، وتمرکز مستشارين عسكريين أميركيين في جورجيا، أعطيا الصراع في الشيشان بعدة دولية. إنها مواجهة بين روسيا وأمريكا هناك، وعلى الدولتين أن تتقاسما، بإنصاف، المسؤولية الأخلاقية عن الخسائر البشرية.

 


ثانيا ـ الرد على الضغوطات الأمريكية التي تمارس على الدول المعترضة على سياستها في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما إيران، للتوقف عن تخصيب اليورانيوم، ذلك أن روسيا التي لا تزال تعارض فرض العقوبات الدولية على طهران، أو اللجوء إلى العمل العسكري ضد طهران، تجد في الملف الايراني مدخلاً لها لبسط دورها وفرضه بقوة، داخل مجلس الأمن وفي اطار حديث المساومات الكبرى والصفقات الثنائية، فهذا يعطيها وزناً مميزاً في مسعاها للتمترس في دور دولي يستعيد لها بعض العظمة. فروسيا تمتلك حق النقض ـ الفيتو ـ كما أن موافقتها ضرورية في حال تصعيد الصراع الأمريكي مع طهران بشأن برنامجها النووي.

ثالثا ـ إرسال رسالة واضحة إلى الولايات المتحدة الأمريكية أن روسيا التي استفاقت من سباتها العميق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مستعدة من الآن فصاعدا مواجهة استراتيجية التطويق والحصار الأمريكية  بخوض الحروب الإقليمية على "الخارج القريب" الذي كان يوماً حدود الإمبراطورية السوفييتية، ولاسيما تجاه جورجيا وأوكرانيا اللتين تحديتا الهيبة الروسية من خلال الاستقواء بالغرب، وهما الساعيتان إلى عضوية "حلف شمال الأطلسي" (الناتو) بتأييد أمريكي قوي. 

رابعا ـ تسعى روسيا الى منع تسرب الطاقة من وسط آسيا واذربيجان غربا. فمخزونات النفط والغاز في منطقة وسط آسيا والقوفاز توجد في مناطق دون مخرج الى البحر. جورجيا، التي تقع على شاطىء البحر الأسود، تشكل المخرج لهذه الدول. ومن خلال ضعضعة النظام في جورجيا، يمكن لموسكو أن تمنع بناء مشاريع اضافية لتصدير الغاز من المنطقة وضعضعة استقرار المشاريع القائمة، مثل انبوب النفط من باكو إلى شواطىء البحر المتوسط والذي يمر عبر تبليسي. وهكذا تضمن موسكو استمرار تعلق الأوروبيين بها في مجال توريد الغاز والمرابح الاقتصادية والسياسية المترافقة مع ذلك.

إعادة موقع المركز إلى روسيا من خلال أوكرانيا

ان المسألة التي تحتل الأولوية بنظر روسيا ليست مسألة صورتها في الخارج، بل استرجاع فضاء خارجي خاص بها، لا داخلي ولا خارجی بالمعنی الأدق. لقد كان للاتحاد السوفييتي القديم بنية خاصة تماما موروثة جزئيا من العهد القيصري، ولذلك لا يمكن استبعاد أن تكون لهذا الجزء درجة ثبات أعلى من الشيوعية. ويمكن تمييز حلقتين حول روسيا: الأولى "قلب سلافي" أو روسي بالمعنى الواسع، وهو ما يتطابق مع التعبير التقليدي "جميع الروسيات" الذي يضيف إلى البلد المركزي روسيا البيضاء وأوكرانيا. وتتمثل الحلقة الثانية بمجموعة الجمهوريات المستقلة في القوقاز وآسيا الوسطى. إن عودة الانطلاق إلى الاقتصاد الروسي، يمكن أن تعيد الحياة إلى هذه المجموعة وإعادة تشكيل منطقة النفوذ الروسي من دون أن يمكن الحديث عن سيطرة بالمعنى الشائع لهذه الكلمة.

وإذا بدأت هذه الدينامية بالفعل، فسيكون ذلك ناتجا عن عدم قدرة الاقتصاديات الغربية التي أضعفها الهبوط الرأسمالي، على إشغال الفضاء الشاغر منذ عقد من السنين، بقدر ما هو ناتج أيضا كثمرة الازدهار الاقتصادي في القلب الروسي للنظام. وتبقى جمهوريات البلطيق الثلاث، وحدها، مرتبطة بالفضاء الأوروبي، أو بكلمة أدق بالفضاء الاسكندنافي. إن عودة المنطقة السوفييتية إلى الظهور ليست مؤكدة أكثر من عودة الانطلاق النهائي لروسيا، ولكن يمكن أن نرى منذ الآن أن عودة الانطلاق هذه لا يفترض أن تكون ضخمة حتى تعود إلى روسيا مرکزیتها، إذ أن بين جميع الأمم التي ولدها انهيار الاتحاد السوفييتي صلات تقارب أنثروبولوجي تعود إلى عهد سابق للشيوعية.

 

نستطيع الجزم بأن الإمبراطورية الأمريكية التي اعتقدت بعد انهيار الإمبراطورية السوفييتية، ثم انهيارروسيا، أنَّ بوسعها أن تبسط هيمنتها المطلقة على كل العالم، تعاني الآن في ظل أزمة النظام العالمي الجديد اللييرالي، تصدعًا داخليًا و دوليًا خطيرًا ينذر بأفولها وزوالها.

 



يقول الكاتب إيمانويا تود: "بين عامي 1990 و1998، أدى تحلل روسيا الذي قطع شوطا كبيرا، إلى فقدان سيطرتها على سكان ذوي إثنية روسية. ففي حالة بلاد البلطيق والقوقاز وآسيا الوسطى، وهي مناطق أكثرية سكانها من غير الروس، يمكن اعتبار الانحسار الروسي کتراجع امبريالي أو إنهاء الحالة الاستعمارية. وفي حالة روسيا البيضاء وأوكرانيا والنصف الشمالي الكازاخستان، فقدت روسيا جزء من منطقة سيطرتها التقليدية. ولم يكن لروسيا البيضاء قط کیان الدولة المستقلة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى شمال كازاخستان. وفي هاتين الحالتين، يمكن اعتبار فقدان السيطرة الروسية كنتيجة غريبة لفوضى تحترم حدودا صنعها العهد السوفياتي.

وحالة أوكرانيا بالفئات الثلاث لسكانها ـ أونيات في الغرب، أرثوذوكس في المركز، وروس في الشرق ـ أكثر تعقيدا. ويبدو أن انفصالا نهائيا عن روسيا أكثر واقعية. ولكن هانتنغتون، على وجه الاحتمال، أكثر قربا من الحقيقة من بريجنسكي عندما يؤكد أن أوكرانيا سوف تعود مستقبلا إلى الفلك الروسي . ومع ذلك، لا يمكن أن نقبل معه تفسيره الديني المبسط للظاهرة، لأن تبعية أوكرانيا لروسيا هي نتاج ثوابت تاريخية كثيفة"(ص 182).

من وجهة نظر أوكرانيا، يأتي التجديد دائما من روسيا، ونحن هنا أمام ثابت تاریخي، فالثورة البلشفية ولدت في روسيا، وتحديدا في قسمها المسيطر تاريخيا ـ فضاء واسع يحيط بمحور موسکو ـ بطرسبورغ. هنالك ولدت الدولة الروسية، ومن هناك انطلقت الموجات التحديثية من القرن السابع عشر حتى القرن العشرين، وهناك أيضا تم الاختراق الليبرالي في التسعينيات. وبدأ في موسكو تقويض الشيوعية والموجة الإصلاحية المستمرة حتى يومنا هذا، وانتشرا بواسطة اللغة الروسية، بينما لا تستطيع أوكرانيا المفصولة عن روسيا أن تمضي إلا ببطء في طريق الإصلاح مهما كان الهيجان الأيديولوجي واللفظي لصندوق النقد الدولي.

يقول الكاتب إيمانويل تود: "ليست أوكرانيا، تاريخيا واجتماعيا، سوى منطقة ذات بنية غير سوية، وغير واضحة المعالم، ولم تكن مطلقا مصدرا لأي ظاهرة تحديث هامة. إنَّها جوهريا من أطراف روسيا وخاضعة لتحريض المركز، ومتميزة في جميع العهود بطبعها المحافظ: ضد البلشفية، وضد السامية عامي 1917 ـ 1918، ثم أكثر تعلقا بالستالينية من روسيا منذ عام 1990.. ولم يفهم الغربيون المخدوعون بقربها الجغرافي من الغرب وبوجود أقلية دينية كبيرة من الأونيات قريبة من الكاثوليكية، أن أوكرانيا بإعلانها الاستقلال عن روسيا كانت بذلك تفصل نفسها عن الثورة الديموقراطية في موسكو وبطرسبورغ، ولو أنها اتخذت وضعا تستهدف من ورائه الحصول على قروض من الغرب. ومع ذلك، علينا ألا نبالغ في وصف الطابع المحافظ لأوكرانيا ، فالصعوبات التي تعاني منها للخروج من نظام الرئاسة السلطوية لا تقارن بتلك التي تعاني منها كازاخستان أو أوزبكستان.

ومع ذلك، فإن السيناريو الذي يقترحه بريجنسكي ليس غبيا. فهناك ما يلزم من تباينات ثقافية مع روسيا من أجل أن تأخذ أوكرانيا لنفسها وضعا خاصا. ولكن، بما أنها ليس لها ديناميتها الخاصة بها، فلا تستطيع أن تنجو من روسيا إلا إذا انتقلت إلى فلك قوة أخرى. وبما أن أمريكا بعيدة جدا ومفهوم مجرد غير ذي مضمون مادي ملموس، فلا يمكن أن تصلح لأن تكون قوة موازية.

لروسيا وأوروبا قوة اقتصادية حقيقية قلبها ألمانيا، وهي لا تمثل قطبا عسكريا ولا سياسيا، ولكن لو شاءت أوروبا أن تصبح كذلك، فإنه لا مصلحة لها في أن تجعل من أوكرانيا تابعة لها، لأنها بحاجة إلى قطب يوازن روسيا لتحرر نفسها من الوصاية الأمريكية.

ونستطيع أن نقيس الغياب الاقتصادي الفعلي للولايات المتحدة في قلب أوراسيا: إن قوة اللهجة لا تعوض الغياب المادي المحسوس للإنتاج الأمريکی، وبخاصة من أجل دولة نامية مثل أوكرانيا. وإذا تركنا جانبا صادراتها العسكرية وعددا من الحاسبات، فليس عند أمريكا شيء هام تقدمه. إنها لا تصدر السلع الإنتاجية والاستهلاكية التي تحتاج إليها أوكرانيا. أما بالنسبة إلى الرساميل، فإنها لا تقدمها بل تمتصها حارمة بذلك العالم الثاني من الموارد التي تنتجها اليابان وأوروبا. إن كل ما تستطيع أمريكا فعله هو إعطاء الوهم بأنها قوة مالية من خلال سيطرتها السياسية والأيديولوجية على صندوق النقد والبنك الدوليين، وهما مؤسستان تستطيع روسيا من الآن فصاعدا التخلي عنهما بفضل فائض میزانها التجاري.
تستطيع أمريكا طبعا أن تستهلك السلع الأوكرانية وتسدد ثمن تلك السلع بالأموال التي تمتصها من أوروبا واليابان وغيرهما، غير أن المبادلات التجارية تكشف تبعية أوكرانيا لروسيا وأوروبا. 

 

لروسيا وأوروبا قوة اقتصادية حقيقية قلبها ألمانيا، وهي لا تمثل قطبا عسكريا ولا سياسيا، ولكن لو شاءت أوروبا أن تصبح كذلك، فإنه لا مصلحة لها في أن تجعل من أوكرانيا تابعة لها، لأنها بحاجة إلى قطب يوازن روسيا لتحرر نفسها من الوصاية الأمريكية.

 



يقول الكاتب إيمانويا تود: "إن الشيء الوحيد المؤكد، أن أوكرانيا لن تنتقل من مكانها وتقاربها مع روسيا محتمل، ومن غير الممكن أن تعود موسكو لتبسط سلطانها عليها. وإذا عاد الازدهار إلى الاقتصاد الروسي، فإن روسيا ستصبح مجددا مركز الثقل في فضاء أوسع منها. ويمكن أن تصبح مجموعة الدول المستقلة تشكيلا سياسيا حقيقيا جديدا يجمع الزعامة الروسية إلى استقلال عدة حلقات متتابعة. ستضم روسيا البيضاء ضما فعليا، وستبقى أوكرانيا مستقلة استقلالا حقيقيا، ولكنها سوف تصبح "روسيا ثانية" صغيرة أو جديدة. و"مفهوم كل الروسيات" يبرز من جديد في وعي اللاعبين المحليين والدوليين. وأرمینیا، خارج القوقاز، سوف تحتفظ بوضعها كحليف ملتصق بروسيا خوفا من تركيا الحليف الاستراتيجي لبضع سنوات للولايات المتحدة. أما جورجيا فسوف تعود إلى الصف. وتعود جمهوريات آسيا الوسطى علنا تحت النفوذ الروسي، مع كازاخستان في منزلة خاصة في المجموعة نظرًا إلى أنَّ نصف سكانها من الروس"(ص186).

في ختام هذا الكتاب المهم، نستطيع الجزم بأن الإمبراطورية الأمريكية التي اعتقدت بعد انهيار الإمبراطورية السوفييتية، ثم انهيارروسيا، أنَّ بوسعها أن تبسط هيمنتها المطلقة على كل العالم، تعاني الآن في ظل أزمة النظام العالمي الجديد اللييرالي، تصدعًا داخليًا و دوليًا خطيرًا ينذر بأفولها وزوالها.

لا تستطيع الإمبراطورية الأمريكية الاستمرار في الحفاظ على هذا النظام العالمي الجديد الليبرالي أحادي القطبية، إلا بتوافر ثلاثة شروط :

الأول ـ الاحتفاظ بسيطرة كاملة على المحميتين الأوروبية و اليابانية، اللتين تحتلان  قطبي  القوة الاقتصادية الحقيقية.

الثاني ـ مواجهة القوة الاقتصادية الصينية الصاعدة ، والتي باتت تحتل المرتبة الأولى عالميًا. 

الثالث ـ القضاء نهائيًا على القوة الاستراتيجية الروسية، وذلك بتفكيك كامل للمنطقة السوفياتية سابقًا، واختفاء نهائي لتوازن الرعب النووي بترك الولايات المتحدة كقوة وحيدة قادرة على القيام بضربة أحادية من دون التعرض لخطر الانتقام من أي بلد في العالم.

 

إقرأ أيضا: هل انتصر النظام العالمي الليبرالي أحادي القطبية؟ رأي فوكوياما

 

إقرأ أيضا: من انهيار الشيوعية إلى انهيار روسيا.. قصة الهيمنة الأمريكية




التعليقات (0)