هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم يكن أشد المتشائمين يتصور أن القرن الواحد والعشرين سيشهد حربا تقليدية داخل القارة الأوروبية تقوم فيها دولة دائمة العضوية داخل مجلس الأمن باجتياح أراضي دولة ذات سيادة ومحاصرة عاصمتها السياسية وسط ذهول المجتمع الدولي والقوى الكبرى في العالم التي اكتفت بشن حرب اقتصادية مشكوك في فعاليتها الردعية بالموازاة مع حرب إعلامية فيها الكثير من أدوات الدعاية والتضليل والتلاعب بالرأي العام.
فكيف أمكن لروسيا الاتحادية أن تتخذ قرار التدخل العسكري في أوكرانيا وتغامر بسمعتها الدولية وتدخل في مواجهة سياسية ودبلوماسية واقتصادية ضد التحالف الغربي فضلا عن العمليات العسكرية التي تجري على الأرض؟
هل يمكن التسليم بالاعتبارات السياسية والاستراتيجية التي يقدمها بوتين لتفسير قرار التدخل العسكري في أوكرانيا أم أن هذه الحرب تقف وراءها اعتبارات ثقافية وقيمية تحكمها اعتبارات فلسفية وفكرية وتاريخية ورمزية أيضا؟
الفرضية الأساسية التي يستند عليها هذا الجهد أن الحرب التي تدور رحاها فوق الأراضي الأوكرانية هي بشكل أو بآخر حربا حضارية بالمعنى الذي تنبأ به المفكر المغربي المهدي المنجرة قبل عقدين من الزمان، والتي اعتبر فيها بأن حروب هذا القرن ستكون حروبا حضارية تقف وراءها عناصر القيم والثقافة والدين والتاريخ واللغة إلى جانب المصالح الحيوية والاستراتيجية للدول.
صحيح أن هذه الحرب تقف وراءها بالفعل اعتبارات عسكرية وأمنية مرتبطة بالمصالح الاستراتيجية لروسيا، لكنها لم تكن لتقع لولا الحضور القوي لمجموعة من المعتقدات الفكرية والإيديولوجية في ذهن صانع القرار داخل قصر الكرملين، بالإضافة إلى ثقل التاريخ والحلم بإعادة المجد الحضاري لروسيا الامبراطورية ما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي بل ما قبل الاتحاد السوفييتي نفسه..
اعتبارات استراتيجية واضحة..
من الواضح أن أهداف التدخل العسكري الروسي تحكمه مجموعة من القواعد الضمنية التي ترسخت بعد نتائج الحرب العالمية الثانية، وأفرزت التوازنات الموجودة اليوم على صعيد النظام الدولي، ولم تتأثر بانهيار الاتحاد السوفييتي، لكنها ستتأثر حتما بالتحولات الجديدة التي تسعى المجموعة الغربية لفرضها إلا في حالة نجاح روسيا في الحفاظ على مكانتها الدولية الموروثة عن ترتيبات الحرب العالمية الثانية والتي جرى بصددها اتفاق ضمني بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي يقضي بعدم السماح للناتو بالتمدد على حساب الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفياتي..
وحسب صانع القرار الروسي، من المؤكد أن أوكرانيا لازالت تملك التقنيات النووية السوفيتية وباستطاعتها استرجاع وسائل صناعتها، وقد سبق للرئيس بوتين أن صرح "بأن صواريخ توماهوك يمكنها وصول موسكو خلال 35 دقيقة، كما أن الصواريخ الباليستية المنطلقة من خاركيف ستكون قادرة على الوصول في غضون 7أو8 دقائق" وهو تصريح ينم عن شعور جدي بالتهديدات التي تمس الأمن القومي الروسي خصوصا مع إصرار أوكرانيا على الانخراط في حلف الناتو وهو ما يمس بشكل مباشر بترتيبات ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والتعهدات الغربية باحترامها.
الفرضية الأساسية التي يستند عليها هذا الجهد أن الحرب التي تدور رحاها فوق الأراضي الأوكرانية هي بشكل أو بآخر حربا حضارية بالمعنى الذي تنبأ به المفكر المغربي المهدي المنجرة قبل عقدين من الزمان، والتي اعتبر فيها بأن حروب هذا القرن ستكون حروبا حضارية تقف وراءها عناصر القيم والثقافة والدين والتاريخ واللغة إلى جانب المصالح الحيوية والاستراتيجية للدول.
ولذلك تبدو روسيا واضحة في مطالبها بضرورة التزام أوكرانيا موقع عدم الانحياز والتخلي عن طموحاتها بالانضمام إلى حلف الناتو والتعهد بعدم استضافة قواعد عسكرية أو أسلحة أجنبية على أساس وضع شبيه بالنمسا أو السويد، مع ضرورة نزع سلاحها بالشكل الذي لا يسمح بتهديد أمن روسيا في المستقبل.
كما تصر روسيا على ضرورة اعتراف كييف بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم التي استولت عليها في عام 2014 والاعتراف باستقلال الدويلتين الانفصاليتين في دونيتسك ولوهانسك (الدونباس)، ولذلك ليس غريبا أن يستهل بوتين قرار الحرب بالاعتراف باستقلال جمهورية دونيتسك وجمهورية لوغانسك وهي الأقاليم التي ترتبط بعلاقات قوية مع روسيا وتوجد فيها حركات سياسية قوية تطالب بالانفصال عن أوكرانيا وترغب في الالتحاق ب"الوطن الأم".
بالموازاة مع هذه المطالب السياسية والاستراتيجية تضع روسيا لائحة من المطالب ذات الطبيعة الثقافية واللغوية وهو ما يؤكد الطبيعة الحضارية لهذه الحرب.
فمن المطالب الملحة لموسكو ضرورة الاعتراف باللغة الروسية كلغة رسمية ثانية في أوكرانيا، وضرورة حماية المتحدثين بها، في إشارة إلى المضايقات التي يشنها النازيون الجدد ضد الرموز اللغوية والثقافية الروسية، وهو ما تعبر عنه موسكو بضرورة القضاء على النازية ومنع الأحزاب والمنظمات القومية المتطرفة في أوكرانيا.
اعتبارات تاريخية وثقافية أساسية للفهم..
من المؤكد أن الوعود التي قطعها بوتين على نفسه منذ وصوله إلى الكرملين سنة 1999 بعد مرحلة يلتسين، والتزامه بإعادة بناء روسيا على قواعد جديدة لم تكن مجرد وعود انتخابية عابرة، وإنما كانت عبارة عن التزامات سياسية تستند إلى أطروحات نظرية جديدة بدأت تتضح بشكل متدرج من خلال الممارسة التي أبانت عن مناهضته الواضحة لفكرة الديموقراطية الليبرالية بالموازاة مع الإيمان الراسخ بأن روسيا ينبغي أن تكون لها مكانة مؤثرة في السياسة العالمية.
ولذلك فإن انتقاد الحداثة الغربية والدفاع عن التقاليد الروسية واعتماد سياسة التوفيق بين التيارات المحافظة والقومية والعودة بالدولة إلى عمقها التاريخي الأورثودوكسي، كل ذلك سمح بنحت مفهوم الأوراسية الذي دافع عنه بشكل خاص المفكر ألكسندر دوغين (الذي يلقب بعقل بوتين) والذي سبق له أن أسس حركة أوراسيا في عام 2001، والتي انضمت إليها شخصيات روسية أرثوذكسية ومسلمة ويهودية، وقد أبدع دوغين ما سماه بالنظرية السياسية الرابعة التي نشرها عام 2012 وهي تسلط الضوء على قراءته للعالم وللتوجهات المؤثرة فيه، ويعتبر بأن النظريات الثلاث التي سبقته هي الشيوعية والفاشية والليبرالية، ويعتبر بأن الشيوعية والفاشية فشلتا بينما لا تزال الليبرالية منتصرة لكنها لا تمثل "نهاية التاريخ" ولا نهاية الأيديولوجيات، ثم يقترح تصوره الخاص، الذي ينطلق من الأوراسية.
هذا المفهوم الذي يلخص المشروع الفكري الذي ينهل منه الرئيس بوتين، والذي جعل منه نظرية متماسكة في الاقتصاد والأمن والجيوسياسية.
إن الذين يناهضون هذه الحرب بحماسة الدفاع عن الديمقراطية وقيم الليبرالية والحرية مدعوون لإعادة تمثل قيمة الديمقراطية نفسها وفق قراءة نقدية على ضوء آليات الضبط المعتمدة من قبل الغرب والمؤسسات الدولية التابعة له والتي تضع القوى المناضلة من أجل الديمقراطية في موضع مثير للشفقة،
وحسب هذه النظرية فإن الفضاء الاقتصادي المشترك مع روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا هو المقدمة الأولى نحو تكامل قوي داخل الاتحاد الاقتصادي الأوروبي، وهي محاولة واضحة لاستعادة روسيا كقوة إقليمية تتغذى على الأيديولوجيات القومية المختلفة تحت اسم الأوراسية، وهي تعني باختصار "رفض أوروبا" والاعتداد بالتفرد الشرقي للتجربة الروسية وتكوينها العرقي المعقد، وبذلك أصبح التأكيد على وطنية الدولة بمثابة إيديولوجية بديلة لمرحلة ما بعد نهاية الاتحاد السوفياتي مع رفض الليبرالية الغربية المتطرفة مع الاقتراب من الكنيسة الأرثوذكسية.
إن المشروع الأوراسي الكبير حسب هذه النظرية يطمح إلى اتحاد اقتصادي كبير، هو قبل كل شيء سوق مشتركة تمثل أكثر من 80٪ من الإمكانات الاقتصادية للفضاء السوفيتي السابق، لكن هذا الاتحاد سيشكل أيضًا ـ وهذا هو الأهم في نظري ـ عالمًا ثقافيًا أوروآسيويًا واسعًا بشكل مناسب: السلافية ، الفلندية الأوغرية، التورانية ، الأرمينية.
إنه "هدف جيوسياسي وسياسي أعلى"، يطمح إلى خلق "وحدة فوق وطنية قائمة على عضوية حضارية مشتركة ".
وبالرجوع إلى التاريخ فإن وجود أوكرانيا كدولة مستقلة حسب بوتين، كان خطأً تاريخياً، فهو ينطلق من اعتبار أن أوكرانيا تأسست بالكامل من قبل روسيا، حتى من قبل روسيا البلشفية الشيوعية، بل ويتهم فلاديمير لينين وأصدقاؤه بأنهم مسؤولون عن فصل جزء من الأراضي التاريخية لروسيا ضدا على المصالح الحقيقية لروسيا، كما يتهم خروتشوف باقتطاع شبه جزيرة القرم من روسيا سنة 1954 ووهبها لأوكرانيا لاعتبارات غير مفهومة..
ولذلك فإن مهمة بوتين كما يتصورها وفق هذه الرؤية، لا تطمح فقط إلى تحقيق أهداف استراتيجية تتعلق بالمصالح الأمنية والاقتصادية الحيوية لروسيا، ولكنه معني أيضا بتصحيح أخطاء التاريخ التي أفسدت الجغرافيا الروسية وحطمت المحددات التاريخية الرئيسية التي جعلت منها واحدة من أكبر الامبراطوريات في التاريخ الحديث قبل تشكل الاتحاد السوفياتي نفسه..
وهو ما يعني أن حلم بوتين يتجاوز بكثير بعض المصالح الظرفية، ولكنه يؤسس لملامح نظام دولي جديد تحتل فيه روسيا مكانتها في العالم كقوة حقيقية..
معالم نظام عالمي جديد.. حلم روسيا الجديدة
لا يبدو بأن الضغوط الغربية على روسيا ستؤثر في صانع القرار داخل الكرملين الذي يبدو مصمما على تحقيق الجزء الأكبر من أهدافه المعلنة معتمدا على تفوقه العسكري الواضح وسيطرته على السماء الأوكرانية، ومعتمدا أيضا على قدرته الاقتصادية على إغلاق خط أنابيب الغاز إلى أوروبا، وهو القرار الذي يمكن أن يؤدي إلى انهيار اقتصادي لدول الاتحاد الأوروبي.
إلى جانب هذه المعطيات، لابد من تسجيل الموقف الصيني المؤيد عمليا للخطوات الروسية التي لا تختلف كثيرا عن طموحات الصين في استرجاع التايوان على غرار ما حصل مع هونغ كونغ.
وهو ما يعني أننا أمام ملامح نظام عالمي تعددي متحرر من المركزية الغربية المهيمنة يرفض الوصاية الأمريكية على العالم ويدحض مقولة نهاية التاريخ وانتصار النموذج الليبرالي الحر وينتصر لخيارات الشعوب في تعزيز قيم الثقافة والتقاليد الوطنية..
وأخيرا..
إن الذين يناهضون هذه الحرب بحماسة الدفاع عن الديمقراطية وقيم الليبرالية والحرية مدعوون لإعادة تمثل قيمة الديمقراطية نفسها وفق قراءة نقدية على ضوء آليات الضبط المعتمدة من قبل الغرب والمؤسسات الدولية التابعة له والتي تضع القوى المناضلة من أجل الديمقراطية في موضع مثير للشفقة، ليس من أجل إعادة النظر في قيمة الديموقراطية ولكن من أجل التأمل في فرضية أن التجارب الديموقراطية في العالم لا يسمح لها بالنجاح إلا إذا كانت موالية للغرب ومحققة لمصالحه الاستغلالية والإلحاقية..