قضايا وآراء

"الأمن الوطني" في مصر.. كبرياء أم سوء تقدير؟

حسام الغمري
1300x600
1300x600
لو قدر لك أن تلتقي بأحد ضباط الأمن الوطني خارج إطار عمله، ستكتشف على الفور أنك تتعامل مع إنسان مهذب، عَفِ اللسّان، حاد الذكاء، ولعلك تمتدح في نفسك من قاموا بتنشئته، ولكن الأمر يختلف بالطيع وفق الحكايات المتواترة، إذا قدر لك أن تلتقي بالشخص نفسه وقد أصبحتَ إحدى المَهمات الموكلة إليه!

سواء اتفقت أو اختلفت مع جهاز الأمن الوطني، يجب أن تعلم أنه المدير التنفيذي الوحيد لمصر، فهو الذي يتحكم في كل شيء، ومهمته الأساسية تمكين الحاكم من أعناقِ الرجال، وضمان استمراره على رأس السلطة حتى يزوره ملك الموت ويعقد معه مباحثات أخيرة، بالطبع لن يكون الرئيس هو الطرف الغالب فيها!

قال لي أحد رموز جهاز مباحث أمن الدولة السابقين؛ إنهم يحاربون من أجل مصر، وقد تأملت نبرة صوته وملامح وجهه وأحسبه صادقا فيما قاله، حينها تأكدت أن سقطة الجهاز التراجيدية ومن ثم مأساة مصر في نوعية التلقين.

والمقصود بالتلقين هو نوع وأهداف المهمة التي يكلف بها ضباط الجهاز، الذين يتم إعدادهم لتنفيذ المهام الموكله إليهم بطاعة منقطعة النظير، أي وفق مبدأ السمع والطاعة، وحماس لا مثيل له، ودوافع متجددة، مقابل سلطات وصلاحيات لم يتمتع بها أمراء بني أمية في عصر دولتهم الذهبي من الأندلس إلى الصين!!

رغم فترة سيولة الأخبار التي أعقبت ثورة يناير، لم يسمع الشعب المصري عن حسابات سرية لضابط من ضباط الأمن الوطني في سويسرا أو لوكسمبرج بها ملايين الدولارات، ولم نسمع عن شركات أسسها الجهاز في جزر الكاريبي لعقد صفقات مشبوهة مع إسرائيل، الحق أقول؛ إننا لم نسمع عن شبهة فساد مالي لحقت بأحد قيادات الجهاز، لكن يؤخذ عليهم تعذيب الشعب وإهانته لصالح الحاكم الفرد، وقد برعوا في ذلك بدأب منقطع النظير!!

جهاز الأمن الوطني هو المسؤول عن جميع التعيينات في مصر من الغفير حتى الوزير، وإذا ما صدمك تصريح لمسؤول مصري وأدركت أن به من السذاجة والغباء القدر الوفير، فتذكر أنه هذا الشخص مجرد اختيار خالص للجهاز، الذي يمتد نفوذه ليشمل الإعلاميين والمثقفين والكتاب والفنانين. باختصار، ملامح وجه مصر يرسمها هذا الجهاز، وحتى إذا نجح المجتمع في إفراز كاتب أو فنان أو مثقف حقيقي من غير المرضي عنهم وفق معايير الأمن الوطني، عندها تتجلى مهاراتهم في قطع جميع السبل من حوله فيصبح نسيا منسيا. ولنا في قصة المطربة آمال ماهر ذات الصوت الذهبي العبرة والعظة!

نجح جهاز الأمن الوطني في منع صدور أي تسريبات تخصه، على عكس أسماء ورموز تنتمي لأجهزة أخرى سُرب لها حتى النخاع، باستثناء تسريب واحد جمع أحد الضباط يُعتقد أنه ينتمي للأمن الوطني مع رئيس حزب الوفد الأسبق سيد البدوي، وبشره فيه وبشر الشعب معه بأنه سيندم على أيام مبارك، وقد صدق الباشا وكذبت الأحلام الثورية حتى الآن!!

يعتقد ضباط الأمن الوطني أن ثورة يناير هزيمة مؤلمة للجهاز، وذكرياتها تجرح كبرياءه، والسر يكمن في التلقين الذي جعل أهم مهمة له منع قيام ثورة ضد الحاكم العسكري. وللأمر قصة قديمة مع المحتل البريطاني وجهاز البوليس السياسي، ومهما أخطأ هذا الحاكم، ومهما اتخذ من قرارات فاشلة، ومهما جنح بمصر يمينا أو يسارا، شرقا أو غربا، فإن مهمة ضباط هذا الجهاز هي منع الاعتراض على هذا الفشل، وتمريره وربما تبريره، ولا يسمح لهم بالخطأ، في حين أن الأصل في حكم مصر هو القرارات الخاطئة، فيا له من جهاز استثنائي!!

إن ضباط الأمن الوطني ليسوا مستوردين من روسيا أو أوكرانيا، وإن كانت مناهجهم وممارساتهم اعتمدت على تجارب ألمانيا الشرقية في أثناء الحقبة السوفييتية، ولكنهم قبل كل شيء وبعده مصريون مثلنا، بالطبع يثير مخاوفهم سد النهضة، ويؤلمهم التفريط في تيران وصنافير، ويراقبون ويكتبون في تقاريرهم عن حالة البؤس التي أمسى عليها معظم أهاليهم أبناء شعب مصر الطيب، فهم منا ونحن منهم، لولا التلقين!!

أن تشعر وكأنك نصف إله ترفع هذا وتحطم هذا دون أن يراك أحد، بالطبع هو شعور بالسطوة قد يروق للبعض لا سيما في مرحلة المراهقة الفكرية، ولكن ما المتعة أن أصبح نصف إله في بلاد على أعتاب الجحيم؟!!

ويبقى الحلم الرومانسي أن يقرر هذا الجهاز وهو الأعلم بحقيقة فشل المسار الحالي؛ تبني ودعم التغيير في مصر، ودخول التاريخ من باب مختلف، والالتفاف حول قيادات مؤهلة، لا يهم من أين أتت، بقدر ما يهم مصر كثيرا أن تكون قيادة منزهة عن الفساد، وبعيدة عن شبهة العمالة للخارج، وقادرة على جعل حياة الناس أفضل. والحق أقول؛ إنه ليس حلما رومانسيا بقدر ما هو قرار يلزم العقلاء قبل الانفجار الكبير.

قال لي لواء سابق في الجهاز؛ إن مبارك كان يرسل لهم أسماء للتحري عنها قبل أي تعديل وزاري، وبعد التجربة مرات ومرات، كان الضباط يراهنون بعضهم البعض أن الأكثر فسادا هو من سيحلف اليمين أمام الرئيس، فأي شبه دولة تديرونها يا باشوات؟!!
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الإثنين، 21-03-2022 02:02 م
*** كيف غاب عن كاتبنا الكريم، وهو الناقد الفني المتميز، أن يشير إلى فيلم "زوجة رجل مهم"، ففي هذا الفيلم تعبير ممتاز بتناول درامي وبإجادة مذهلة لكل ما أراد ذكره في مقالته، والحقيقة أن الفيلم في تحليله النفسي لتلك الشخصيات المريضة، كان أكثر صدقاُ وأفضل تعبيراُ عن ما أورده الكاتب، وننتظر منه أن يحلله ويعرض لنا الآراء المختلفة للنقاد فيه في مقاله القادم، ليربطه لنا ويقارنه بما جاء في مقالته، ولبيين لنا كيف استطاع صانعوه الوصول إلى ذلك المستوى المذهل في التعبير الفني، فضلاُ عن ظروف كيفية الحصول على الترخيص بعرضه في ظل الرقابة الصارمة على المصنفات الفنية في عصره، والواقع أن الشخصية المزدوجة ذات القيم المتضاربة التي يعيش بها ضباط أمن الدولة، لا تقتصر عليهم، بل هي سمة ظاهرة وملازمة ومشاهدة في غيرهم من الشخصيات الوصولية "المكيافيلية"، نسبة إلى مكيافيلي مؤلف كتاب الأمير "رسالة بحثية في الفقه السياسي أعدها نيكولو مكيافيلي سنة 1513" الذي ما زال يمثل المرجع الأشهر المنظر لحالة ومبادئ واخلاقيات أمثال تلك الشخصيات المريضة، والتي تؤدي إلى شيزوفرانيا الفصام عن الواقع، وترقى لمستوى الازدواج الكامل للشخصية، وذلك لتحمل المعيشة دون إحساس بتأنيب الضمير، فالممارسات الإجرامية لهم، تبدوا لهم وكأنها صادرة من شخصيات أخرى لا تمت لهم بصلة، وتساعدهم المنظومة الحاكمة على التعايش مع جرائمهم بإعطائهم أسماء مزيفة، فتجدهم يتحدثون عن تلك الشخصية الأخرى باسمها، وكأنها شخصية أخرى لا تمت لهم بصلة، وتخفى عن أقرب الأقربين إليهم، لإقناع أنفسهم بأنهم غير مسئولين عما ارتكبته تلك الشخصية من موبقات يندى لها جبين البشرية، ومن تعرف على بعض تلك الشخصيات بعد تركها لمناصبها وتقاعدها، سيدرك بسهولة مدى الخلل النفسي الفادح الذي يصيبهم، وبالنسبة لمبالغة المقالة في أهمية ودور ضباط ذلك الجهاز، وذكر المقالة بأن كل المسئولين في الدولة هم "مجرد اختيار خالص للجهاز"، الرد عليه في نفس المقالة في فقرتها الختامية: "إن مبارك كان يرسل لهم أسماء للتحري عنها قبل أي تعديل وزاري، ولكن الأكثر فسادا كان هو من سيحلف اليمين أمام الرئيس في النهاية".