أفكَار

هل تلد الحرب الروسية أخرى في الخليج؟ السيناريوهات الممكنة

هل تواجه إيران حربا أمريكية شبيهة بالحرب الروسية ضد أوكرانيا؟  (الأناضول)
هل تواجه إيران حربا أمريكية شبيهة بالحرب الروسية ضد أوكرانيا؟ (الأناضول)

ينتاب العالم هذه الأيام قلق عميق بسبب الحرب الروسية ـ الأوكرانية. ويكاد إعلان بوتين لحالة التأهب النووي يعيده إلى أكثر من ستين سنة خلت لما وضعت أزمة الخليج العالم على شفا حرب نووية. وتسري عدوى هذا التوتر لتطال مفاوضات الملف النووي الإيراني. فتوشك أوراقه أن تخلط من جديد. ويأخذ البعض يتحدث عن بوادر حرب عالمية ثالثة فيما يخشى بعض آخر تورث حرب البلقان أخرى لتكون الحرب الخليجية الثالثة.
  
1 ـ الملف النووي الإيراني "المسألة شائكة والعمر قصير"

الملف النووي الإيراني شائك حقا. والأطراف المتدخلة فيه كثيرة. فالطرف الغربي الضاغط بشدة في مفاوضات فيينا تجمعه الرغبة في منع إيران من حيازة السلاح النووي وتفرقه الحاجة إلى مخزونها النفطي ونزوات بعض رؤسائه. والصين وروسيا تراقبان سير المفاوضات من بعيد وتزنانها بميزان الربح والخسارة. أما إيران فتحاول الصمود رغم تخبطها بين الضغوط الخارجية والهزّات الدّاخلية. وتمثل الحرب الروسية على أوكرانيا عنصرا جديدا يضاعف من تعقيد هذا الملف. وتفاعلا مع الراهن يتطلع سؤالنا "هل تلد الحرب الروسيةُ أخرى في الخليج؟" إلى البحث في تأثيرات هذه الحرب على الملف وإلى الخوض في الممكن والمحتمل من مستقبله.

ولا تتدعي هذه الورقة انخراطها في صميم المستقبليات. فهذا العلم يبني تصوراته لما سيكون عليه مستقبل ظاهرة بعينها انطلاقا من جماع معطيات مادية ملموسة على مستوى الاقتصاد والاجتماع والسياسية وتسهم فيه أطراف كثيرة كلاّ وفق خبراته في مجاله واختصاصه. وحتى تكون تنبؤاته أدق يضبط أكثر من سيناريو ممكن للحالة نفسها. ولذلك تقنع مادتنا بعرض متغيرات هذا الملف وبتنزيلها في سياقها الإقليمي والدولي ومقاربتها بموضوعية، بعيدا عن أي انحياز أيديولوجي. فتحدّث بياناتها وتعرض هامش المناورة المتاح لكل طرف متدخّل في الملفّ.

2 ـ إيران وحلم الردع النووي

يتضخم وعي إيران بكونها القوة الصاعدة في محيطها وقد أمكن لها تخطي العراق وتحويله إلى حديقة خلفية وجيش احتياط حارس لأمنها. ولا شكّ أنها تفتح عينيها الآن على الدرس الروسي وتعيد تقليب صفحاته أكثر من مرّة خدمة لطموحاتها. فالسلاح النووي ما جعل بوتين يتحدى دول الناتو ويمعن في إذلالها. وهو ما دفع أوكرانا إلى هوة البئر العميقة بعد أن زيّن لها فرحها بفك الارتباط بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي التخليً عن ترسانتها منه لفائدة روسيا. وهو ما غيّر سلوك الغرب ليتحول من تحالف عدواني إلى حلف رصين يرفض المغامرة. فيلغي مناوراته في المنطقة تجنبا لأي عمل من شانه أن يستفز روسيا ويرفض فرض منطقة للحظر الجوي فوق أوكرانيا ويرفض أن تضع بولونيا، أحد أعضائه، ثلاثين طائرة ميغ 29 تحت التصرف الأوكراني للدفاع عن نفسها. وإجمالا يرفض الانخراط العسكري المباشر أو غير المباشر في هذه الحرب تاركا أوكرانيا تواجه قدرها بنفسها رغم أنه من حرّضها على التمرّد على الدب الروسي. والسلاح النووي وحده في النهاية ما سيكفي الإيرانيين شر أعدائهم ويكسر شوكتهم ليمارسوا شغبهم في المنطقة بالحرية التي أتيحت لبوتين في أوكرانيا. 

3 ـ روسيا والرغبة في استخدام الملف الإيراني للالتفاف على العقوبات الغربية

لروسيا أيضا درس تحاول أن تتعلمه من إيران ومن تاريخها الطويل في مواجهة العقوبات الأمريكية. وآخرها ما فرض في 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2018 ووصف بالعقوبات "الأقسى في التاريخ". فقد أعلن ترامب حينها متباهيا بعد انسحابه من اتفاق فيينا تموز (يوليو) 2015 "العقوبات على إيران هي الأشد على الإطلاق، لن يكونوا بخير، يمكنني أن أخبركم بذلك". ولكن إيران أثبتت قدرتها على التعايش معها والالتفاف عليها. وطورت آليات خاصة حمت الشركات المتعاملة معها من تطبيق القانون الأمريكي. فلم يتحقّق شيء كثير مما بشر به ترامب. 

 

إقصاء روسيا من نظام سويفت (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك) سيدعّم نظام سيبس الصيني البديل (نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود) أو سيسهم في تشكيل نظام عالمي أكبر لتبادل الرسائل المالية والمقاصة بين بيكين وموسكو وطهران.

 



أكثر من ذلك فقد باتت تجربتها ثروة لا مادية يمكن أن تقايض بها لتحقيق مصالحها. وها أنّ سفيرها في سوريا يصرّح بأن بلاده باتت تمتلك خبرة في التعامل مع أنواع الحظر والضغوط، وأنها "على استعداد لنقل خبرتها الطويلة في مجال مواجهة الحظر إلى سوريا". ولا شيء يمنعها من نقلها إلى روسيا أيضا خاصّة أن الاقتصاديات الصاعدة كالصين والهند لن تتردد في الحصول على تنازلات تجارية من الاتحاد الروسي بعد أن تذوقت طعم التنازلات الإيرانية وأنها محصنة من عقوبات مجلس الأمن بفعل حقي النقض اللذين تحوزهما كل من روسيا والصين. ولن يكون الدرس الإيراني بلا ثمن. ولكن هل يكلّفها المساعدة الحاسمة في ملفها النووي؟

4 ـ الولايات المتحدة ودرس الحرب الروسية القاسي
 
لقد دأبت أمريكا على جني الأرباح من كل حرب تشارك فيها. فمنذ الحرب العالمية الثانية أدركت أنّها وسيلتها المثلى لجعل البلدان منهكة ولدفعها إلى استنزاف مخزونها من الأسلحة التي تقتنيها منها غالبا، ولفتح أسواق جديدة لأسلحتها التي لم تسوّق بعد. ولكنها لن تنظر أبدا بعين الرضا للمغامرة الروسية في أوكرانيا هذه المرّة. والأمر أخطر من أن يحصر في ما كلفها الغزو من جرح نرجسي وقد أظهرها عاجزة عن نصرة حليف رمى ببلاده في المحرقة لإرضائها. فقد بات الأمر يهدد مصالحها الحيوية بجدية. فمن شأن هذا التّمرد أن يكسر فكرة العالم أحادي القطب الذي ضحت لفرضه امرا واقعا وأن ينتزع منها صفة شرطيه الشرس ويكوّن جيوب مقاومة لها تتحلق حول الاتحاد الرّوسي الذي يعمل على تدارك الزمن الضائع ويدفعه الحنين إلى صفة القوة العظمى التي منحها إياه الاتحاد السوفييتي. ولهذه الجيوب أن تأتلف معا للالتفاف على النظام المالي العالمي الذي تقوده بإنشاء منظومات صغير بديلة ولكنها ناجعة. 

فإقصاء روسيا من نظام سويفت (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك) سيدعّم نظام سيبس الصيني البديل (نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود) أو سيسهم في تشكيل نظام عالمي أكبر لتبادل الرسائل المالية والمقاصة بين بيكين وموسكو وطهران. لذلك فهي في أشد الحاجة إلى تمرين قاس تستعيد من خلاله هيبتها الضائعة وتثبّت به صورتها التي بذلت الكثير من أجل ترسيخها وأي ساحة تناسبه؟ فلن تكون كوريا الشمالية ميدانا له على كلّ حال. فقد تجاوزت بعد خط النجاة. ولن تكون الصين، ذلك البلد المحصن نوويا وتلك القوة الاقتصادية الصاعدة والرصينة التي لا تثير شغبا. 

وبالمقابل لا بد أنّ أمريكا استوعبت الدرس من وضع بوتين للسلاح النووي في حالة تأهب تماما. ولا شك أنها ستعتبره ملحقا يتفاعل مع درسها من تراخيها مع كوريا الشمالية. وكلاهما ينص على ضرورة منع إيران من أن تصبح إيران قوة نووية مارقة بدورها ودون أن يُمرّغ أنفها في التراب مرة أخرى. ولن يكون ضبط النفس الذي تتظاهر به تجاه الغزو الروسي ويجعلها حمامة سلام حينها سوى ذكرى مزعجة. 

5 ـ إيران تدرك جيدا حساب الحقل وحساب البيدر

لهذه العناصر أن تؤثر في الوضعية الحالية للملف النووي الإيراني وأن تدفع به إلى آفاق جديدة. ولكن إيران خبيرة بسياسات مختلف الأطراف ولن تجعلها ملأى السنابل في الحقل تخطئ حساب البيدر. فهي تدرك أنّ موقف الصين لا يعوّل عليه، وأنّ المارد الأصفر مشغول بخطاه الحثيثة ليكون القوة الاقتصادية الأولى. وتخطيطه المعتمدُ في السباق محددٌ منذ أمد طويل. فهو يطبق تكتيك السباق ضد الساعة ويصارع الزمن ليتقدم في المضمار دون أن يضيع الوقت في مناكفة منافسيه أو في مجاملتهم. وإيران النووية ستمثل له عقبة كبيرة. لأنهما يتحركان في المجال الحيوي نفسه. وهي تدرك أيضا أنّ روسيا تحاول أن تفيد من ملفّها النووي فتحاول عرقلة تقدّمه لابتزاز الغرب على حسابها في ظل تباين المصالح في مرحلة ما بعد غزو أوكرانيا. 

 

تعيش إيران انقساما داخليا حول كيفية استغلال الوضع القائم ما بعد الغزو الروسي. فجعل الشق المحافظ يضغط لتعزيز قوة الردع الإيرانية الصاروخية تفاعلا مع عقيدتها العسكرية التي تقول بتحييد أي خطر يهدد الأمن القومي قبل وصوله إلى حدود إيران وأخذ يدعو إلى الاعتبار من السياسة الأوكرانية التي تدفع ثمن تفريطها في قوتها تلك.

 



والآن فقط يعنّ لها أن تطالب بتعهّد مكتوب من الولايات المتحدة يضمن بألاّ تعرقل العقوبات على إيران بأي شكل من الأشكال تجارتها معها واستثمارها فيها وتعاونها العسكري والتقني معها. لذلك سارع المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية خطيب زاده إلى التحذير من تأثر المفاوضات النووية مع الاتحاد الأوروبي والولايات الأمريكية بتبعات الحرب على أوكرانيا ومن الإشارة إلى أن المطالب الروسية الجديدة "غير بناءة " تهدف إلى ضمان مصالح موسكو في مجالات أخرى. 

ويوافقه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن. فيؤكّد الفصل بين العقوبات المفروضة على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا والاتفاق النووي المحتمل مع إيران. ولا يفوت الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي أن يسجل النقاط في مرمى الطرفين في آن. فيعلن في محادثته الهاتفية مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين معارضة إيران للحرب وقلقها من الأضرار التي تلحق بالمدنيين والتي تخلفها بسبب توسع الناتو شرقا.

6 ـ صدام أمريكي-إيراني بنكهة رقصة التانغو

تعيش إيران انقساما داخليا حول كيفية استغلال الوضع القائم ما بعد الغزو الروسي. فجعل الشق المحافظ يضغط لتعزيز قوة الردع الإيرانية الصاروخية تفاعلا مع عقيدتها العسكرية التي تقول بتحييد أي خطر يهدد الأمن القومي قبل وصوله إلى حدود إيران وأخذ يدعو إلى الاعتبار من السياسة الأوكرانية التي تدفع ثمن تفريطها في قوتها تلك. وعاد الجدل بين "الحوار والصواريخ" يطفو من جديد. وفي الإشارة استدعاء لتلك المناكفة جدت بين علي أكبر هاشمي رفسنجاني والمرشد الأعلى للثورة عام 2016. فقد كان الأول يحاول أن يبرز تفاؤله بعلاقات سوية مع الغرب، معتبرا أنّ "الغد هو عالم الحوار، وليس عالم الصواريخ". وكان تقريع علي خامنئي واضحا من خلال قوله إن "اليوم هو عهد الصواريخ والحوار أيضا… إذا قيل هذا الكلام عن دراية فتلك خيانة". 

ولكن كلّ هذا اللغو لا يزيد عن الاستهلاك المحلي والاستثمار في الأزمة لغايات ربحية انتخابية. فالطرفان الإيراني والأمريكي يعرفان تبعات الحرب. فإيران تدرك أنها تقوّض كل البنى التحتية بشكل انتقامي استعراضي. ولا يمْثل النموذج الأوكراني فقط أمامها، فإلقاؤها لنظرة بسيطة على حدودها الغربية تكشف لها الخراب العراقي. وتطلعها لحدودها الشرقية يعرض لها الدمار الأفغاني. وتعلم يقينا أن كلفتها إذا قامت ستكون زوال النظام نفسه. والدرس العراقي لا يزال في البال وقد كانت من مهندسيه وأكثر الأطراف خبرة به. 

أما الولايات المتحدة التي لا تزال تدفع فاتورة حربها في العراق ولا تزال صور انسحابها المخزي من أفغانستان في ماثلة في ذهنها فلن تذهب إلى الحرب بالسهولة التي ذهبت بها سابقا. ولكنها لن تقبل بكوريا شمالية جديدة أيضا. لذلك فلا تعدو التجاذبات بين الطرفين أن تكون جلبة مفتعلة تخفي تواطؤا ضمنيا. وبقاء الوضع على ما هو عليه يخدم الجانبين: يصور نظام الملالي حاميا لإيران المستهدفة من قبل قوى الشر، ويضمن للولايات المتحدة عدوا تحتاجه لتبرير سياساتها الداخلية والخارجية. ولكن لا بأس من بعض المناكفات المحدودة على هذا الركح أو ذاك لمقاومة السأم. فتقصف إيران إقليم إربيل الكردي معلنة أنها تصيب قواعد إسرائيلية وتحاول إسرائيل تخريب البرنامج النووي عبر جواسيسها وعملائها. وفي الكواليس يواصل الطرفان رقصة التانغو بين جذب دقيق ودفع رقيق يحرص على ألاّ أن يترك الشريك يقع. فبوقوعه ستحيق الكارثة بالجميع. وفي الأثناء تبقى القنبلة النووية في حاجة إلى معجزة إيرانية أو إلى خطإ في التكتيك الأمريكي جسيم. 


التعليقات (0)