هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
إن المقتضيات الدستورية التي تضبط العلاقة بين الدين ومؤسسات الدولة هي الترجمة العملية لممكنات هذه العلاقة حسب طبيعة الدين نفسه، فالديانة المسيحية في نسخها الكنسية هي منظومة من التصورات الوجودية والشعائر الدينية والتعاليم الأخلاقية، ولكنها مجردة من الجوانب التشريعية، على خلاف الدين الإسلامي الذي يتضمن بالإضافة إلى التصورات المتعلقة بخلق الإنسان ومصيره جملة من التوجيهات الأخلاقية والتشريعات القانونية الملزمة للمجتمع الإسلامي، ولذلك من المعقول جدا أن تكتسي مكانة الإسلام في دساتير الدول العربية والإسلامية مكانة أكثر وأن تكون لها فاعلية أكبر على مستوى الحضور القانوني والتشريعي.
عبد العلي حامي الدين.. أستاذ القانون بالجامعة المغربية
في هذه المقالة نحاول ملامسة خلفيات حضور الدين في بعض الدساتير الغربية والعربية، واختلاف السياقات الفكرية والسياسة المنتجة لفعاليات إيجابية في بعض التجارب وفعاليالت سلبية في تجارب أخرى.
التجربة الفرنسية.. علمانية متطرفة نابعة من سياق سياسي متوتر..
بعيدا عن الهواجس الانتخابية التي تجعل الإسلام كموضوع للنقاش العمومي حاضرا بقوة في فرنسا كلما اقتربت اللحظة الانتخابية، فإن هناك مشكلة مزمنة في الفكر السياسي الفرنسي اتجاه الدين وعلاقته بالحياة العامة لم تنجح فرنسا العلمانية في تجاوزها من الناحية الفكرية والدستورية منذ الثورة العنيفة لـ 1789.
لقد جرى التنصيص في المادة الأولى من دستور الجمهورية الخامسة على أن "الجمهورية الفرنسية جمهورية علمانية، ديمقراطية تكفل المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون دون تمييز في الأصل أو العرق أو الدين وتحترم جميع المعتقدات.."، وهو النص الذي يعتبر امتدادا لقانون 1905 الشهير لفصل الكنيسة عن الدولة والذي جرى تدقيقه سنة 2004 باعتماد "قانون حظر ارتداء الرموز أو الملابس التي تظهر الانتماء الديني في المدارس الابتدائية والثانوية العامة"، وهو القانون الذي تأثر به المسلمون أكثر من غيرهم من الديانات الأخرى، ويتأكد هذا الاستهداف مع توالي مشاريع القوانين التي تستهدف حرية ممارسة المسلمين لمعتقداتهم ليس آخرها مشروع القانون الذي اقترحه حزب "الجمهورية إلى الأمام" يمنع الفتيات المحجبات من ممارسة الرياضة، ويتوقع أن يناقش مجلس الشيوخ للمرة الثانية هذا القانون قبل أن يطرح للمصادقة على الجمعية الوطنية في 24 من هذا الشهر.
وتبقى التجربة الفرنسية تجربة استثنائية في التأسيس الدستوري لعلاقة متوترة بين الدين والدولة، في الوقت الذي نصت دساتير العديد من الدول الغربية على مكانة معتبرة للدين في هندستها الدستورية رغم أنها دول علمانية "نظريا" وتعمل بمقولة "الفصل بين الدين والدولة"، ومع ذلك نصت في دساتيرها على أن "المسيحية هى دين الدولة"، وأخرى نصت على "المذهب المسيحي للدولة"، وعلى أن "من مهام الدولة حفظ هذا الكتاب المقدس من التحريف".
ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما نص عليه دستور الدنمارك من اعتبار "الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة المعترف بها من قبل دولة الدنمارك، وعليه ستتولى الدولة دعمها"، وفى المادة الثانية من دستور النرويج نقرأ على أن "الإنجيلية اللوثرية ستظل الدين الرسمي للدولة ويلتزم السكان المعتنقون لها بتنشئة أولادهم بموجبها"، وفى أيسلندا، نصت المادة 26 من الدستور على "أن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي كنيسة الدولة، بموجب هذه ستظل هذه الكنيسة مدعومة ومحمية من قبل الدولة"، وفي التجربة البريطانية أقر البرلمان بأن " كنيسة انجلترا هي الكنيسة المعترف بها، وإن العاهل الإنجليزى بحكم منصبه ـ هو الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا"..."وكجزء من مراسم التتويج يٌطالَب العاهل بأن يؤدي القسَم "بالحفاظ على التسوية المبرمة مع كنيسة إنجلترا، وأن يحفظها بدون خروقات، كما يحفظ العقيدة والشعائر والنظام وطرق إدارتها وحكمها، وذلك بموجب القانون الذى تم إقراره في إنجلترا"، وذلك قبل التتويج بواسطة الأسقف الأعلى للكنيسة رئيس أساقفة كانتربري.
وفى الأرجنتين ـ الكاثوليكية ـ ينص الدستور ـ في القسم الثاني على "أن الحكومة الاتحادية تدعم الديانة الرومانية الكاثوليكية الرسولية"، وفى إسبانيا ينص الدستور في المادة 16 أن "على السلطات العامة أن تأخذ في الاعتبار المعتقدات الدينية للمجتمع الإسباني، والحفاظ على علاقات التعاون المناسبة مع الكنيسة"..
وهكذا نلاحظ الحضور القوي للدين في أسمى وثيقة تنظم العلاقة بين الحاكمين والمحكومين وتؤسس للعلاقة المطلوبة بين الدين ومؤسسات الدولة، ومنها من يحث السلطات العامة على مراعاة المعتقدات الدينية للمجتمع واحترام المؤسسة الدينية وتنشئة الأطفال على تعاليمها..
فماذا عن العالم العربي؟
العالم العربي حضور رمزي بدون فاعلية إجرائية..
أغلب الدساتير العربية تضمنت الإشارة إلى أن "الإسلام هو دين الدولة" وهذه الجملة تبقى مشتركة بين كل الدساتير العربية تقريبا بما فيها الدساتير التي أعقبت الدينامية الثورية التي عاشتها بلدان العالم العربي، حيث نص الفصل السادس من الدستور التونسي على أن "الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي"، كما "تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها".
وهناك بعض الدساتير التي أشارت إلى "شرط الإسلام كدين لكل شخص يتولى مسؤولية رئاسة الدولة" كما ورد في الفصل 74 من الدستور التونسي أن "الترشح لمنصب رئيس الجمهورية حق لكل ناخبة أو ناخب تونسي الجنسية منذ الولادة، دينه الإسلام." وأيضا في "الفصل الثالث من الدستور السوري..
وفي الدستور المغربي نقرأ في الفقرة الثالثة من الفصل الأول على أن "الأمة تستند في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي." وفي الفصل الثالث "الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية."، وتتميز التجربة الدستورية المغربية منذ دستور 1962 بالتنصيص على أن "الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية"، وبهذه الصفة "يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى"، الذي يعتبر "الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا، في شأن المسائل المحالة إليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة. و"يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين، والمخولة له حصريا، بمقتضى هذا الفصل، بواسطة ظهائر".
إن إدماج القواعد الدينية في المتن الدستوري ومحاولة استجلاء البعد القانوني لهذه العملية، يستلزم إجراء نوع من المصالحة/ الزواج بين القيم الدينية (القيم السياسية الإسلامية أساسا) وبين الأنظمة الدستورية الحديثة في إطار ما يسمى بالنظرية العامة للقانون الدستوري التي تحكم جميع الدساتير كما تطورت في الأزمنة المعاصرة،
كما تميزت بعض الدساتير في المشرق العربي بالتنصيص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، مثل المادة الثانية من الدستور المصري لسنة 2014 "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع." والمادة الثالثة منه أيضا التي نصت على أن "مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية".
إن الحضور الرمزي للمادة الدستورية المتعلقة بالدين في العالم العربي والإسلامي يتطلب المزيد من التدقيق والنقاش في أفق علاقة منسجمة مع البعد الدنيوي القوي في الإسلام.
إن إدماج القواعد الدينية في المتن الدستوري ومحاولة استجلاء البعد القانوني لهذه العملية، يستلزم إجراء نوع من المصالحة/ الزواج بين القيم الدينية (القيم السياسية الإسلامية أساسا) وبين الأنظمة الدستورية الحديثة في إطار ما يسمى بالنظرية العامة للقانون الدستوري التي تحكم جميع الدساتير كما تطورت في الأزمنة المعاصرة، وذلك باعتبار المكانة التي يمكن أن يحتلها الدين داخل الوثيقة الدستورية وآثار ذلك على باقي المقتضيات الدستورية وعلى باقي القوانين التي تصدر عن المشرع العادي أخذا بعين الاعتبار الخاصية الأساسية التي تميز القاعدة الدستورية وهي خاصية السمو.
نحن أمام موضوع معقد ولا ينبغي التعامل معه بنوع من السهولة المعرفية، فموضوع البعد القانوني للتنصيص على بعض المقتضيات ذات العلاقة بالدين في الدساتير وتحديد الغايات الإجرائية لهذا التنصيص على تنظيم علاقات السلطة وعلى الحياة العامة للناس؛ موضوع على درجة عالية من الخطورة يفرض علينا ضرورة الإجابة على مجموعة من الأسئلة التي تفرض نفسها من زاوية القانون الدستوري وعلى رأسها إثبات المشروعية العقلانية لإدماج الدين في المسألة الدستورية وتأكيد فرضية الإضافة النوعية من الناحية الإجرائية التي يمكن أن يضيفها الدين لتطوير قواعد الاجتماع السياسي نحو الأفضل، وتطوير المنظومة القانونية بالتبع، أخذا بعين الاعتبار طبيعة القاعدة الدستورية وسموها عن القاعدة القانونية العادية، وبالتبع طبيعة العلاقة بين المشرع الدستوري (واضع الدستور...) والمشرع العادي (البرلمان)..
إن ضعف الفعالية الإجرائية للمقتضيات الدستورية ذات الصلة بالدين في العالم العربي، تقف وراءه سياقات تاريخية وسياسية لابد من فهمها لاستشراف علاقة إيجابية وسلسة بين الدين ومقتضيات تنظيم الحياة العامة مستقرة داخل وثيقة دستورية تتمتع بالسمو.
في حلقة قادمة نقف عند جهود النخب العربية وكيف واجهت إشكالية تصميم الدساتير في لحظة انتقالية حاسمة، وهي مرحلة ما بعد الاستقلال، وذلك من خلال تمرين تطبيقي من وحي التجربة المغربية، كنموذج ليس قابلا للتعميم بالضرورة من الناحية المنهجية، ولكنه نموذج معبِّر عن لحظات "الارتباك الدستوري" التي عاشتها البلاد العربية في محطات مفصلية.