شاهدت تقريراً على البي بي سي البريطانية يمدح أبا فلة الكويتي، ويزعم أنه
استطاع تحقيق ما عجزت عنه الجيوش الخضارم.. أعزل من أي محتوى أو تحليل كوميدي أو تراثي، بصوته وصياحه ودموعه وابتساماته، فلمن ادّخرتَ الصارم المصقولا يا صاحب الكرامات الباهرات يا أبا فلة صانع الملحمات؟
لكن ادّعاء الفضائية البريطانية يعوزه البرهان، فالفيديو مشبع بالمضمون، أبو فلة يصوّر كبطل على النهج الأمريكي، وحوله جوقة ينثرون عليه الورود والرز وزينة الفائزين في مسابقات الرالي ومسابقات ملوك الجمال والدلال. وهو في بثه المباشر الذي استمر أحد عشر يوماً ذرف كثيرا من الدموع، وهتف الهتاف، واصطنع الدهشة، والميلودراما الهندية. والفتى يستعطف قلوب المشاهدين بأحزان ومآسي السوريين تحت النُصب، والنُصب هو أعلى برج في العالم،..وكان قد حبس نفسه في صندوق زجاجي نذراً لله، فذكّرنا بنذر الزير السالم أن لا يمسّ طيباً، ولا يقرب امرأة حتى يأخذ بدم كليب، وتوقعت من هذا البطل الهمام والفتى الضرغام أن يركب طائرة ويعيش في خيمة مع النازحين، تتبعه الكاميرات، أو تنفرد سالفته فوجدته قد أناخ أمام برج خليفة في إرم ذات العماد!
أبو فلة من مشاهير العصر، وله متابعون كثر، و"كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً"، وقد ينبري من يدفع عن بطل العرب وحامي حمى النازحين: الفتى ليس أميراً حتى تطلب منه أن يبني جسراً جوياً ينقل النازحين السوريين من تحت العواصف إلى بلاد خليجية دافئة، كما فعل الرئيس الأمريكي العطوف مع الأفغان الهاربين من حكم طالبان إلى حكم الأمريكان الشفوقين، وليس رئيساً حتى يرفع شعار "فليكن السوريون هم المهاجرون ونحن الأنصار، فهو شعار ديني يذكّر بالسيرة النبوية، ويستقبل مئة ألف منهم في الكويت أو الإمارات، وهي بلاد واسعة، والسوريون عمال مهرة وطلاب علم، وهم أولى من "الإخوة" الهندوس.
وقد اجتهد أبو فلة بدموعه الهندية وتقشفه الشديد في العبارات الدينية، فجمع ما جمع من مال، فأحد مقاصد صناع هذا البطل هو ملء الفراغ العاطفي لدى الشعوب العربية التي تشبه الغنم المطيرة في الليلة الشاتية. أبو فلة لا خطر منه على الحكومات العربية، سيعود إلى ألعابه ويدع ما لقيصر لقيصر.
رفع المناضل أبو فلة شعار الأخوة القومية، فالنازحون هم إخواننا العرب، خوفاً من العواطف الدينية وحمائل الصدقة واليوم الآخر، وما دامت قد ذكرت الأفلام الهندية، فسأتذكّر للقارئ الكريم "فيلم التوأمان". ويضرب المثل بالفيلم الهندي في إهاجة العواطف وإثارة اللواعج في القلوب والخوالج، وفيه تقتل أم البطل في حادث سببه الملكة، فتعطف الملكة على ابن الضحية، وتتطوع لتقوم مقام الأم للشاب الستيني دهارام، تعويضاً له عن أمه الهالكة، والملكة هي أمه التي أنجبته وأضاعته. فتمنينا أن يرقى عطف هذا الفتى الذي تخلو فيديوهاته سوى من ألعاب البوبجي، فيكون أخاً للسوريين في المخيمات على طريقة فلم التوأمان، وأن يلجأ إلى خيمة سورية بدلاً من غرفة زجاجية تحت قدمي البرج الشاهق، لكن بعدت عليه الشقة فليس عرضا قريبا وسفرا قاصدا.
وكانت الجماهير تتسابق لإيقاظ الأميرة النائمة قديماً، فإذا بها تتسابق لجعل أميرنا الساهر على آلام النازحين، أن ينام قرير العين.
قبل أيام شاهدت فيديو لمذيع الشارع أحمد رأفت يسأل فيه مصرياً عن اسم لباس الرأس، فيقول له: عمامة، فيبشره أن له جائزة، وهي أجرة موظف مصري عن شهر كامل، فيسأل الشيخ المصري (في الصحافة اسمه المسن) غير مصدق: ده حلال يا ابن عمي؟
ويكرر سؤاله متحرزاً من أن تكون خدعة أو كسباً حراماً، فاللقمة في الشارع المصري تنتزع من فم الذئب، فهل يمكن للمرء أن يكسب أجرة موظف عن شهر بجواب يعرفه كل الناس؟ ففطر قلوبنا ببراءته وصدقه وتحريه عن الحلال والحرام. لكن المذيع كسب كسبين؛ كسب المال الذي أنفقه، وكسب معها شهرة، فقد شاع تصويره كثيراً، وجرت مشاركته من قبل الآلاف، و"ما نقص مال من صدقة". فإن كانت نيته الخير، فهو موكول إليها، وإن كان يريد الشهرة، فلن يعدم الخير أيضاً، والأعمال بالنيات، "واتقِ النار ولو بشق تمرة".
نعود إلى أبي فلة الحمداني أسيراً لدى الروم في القفص الزجاجي: فقد آزره فرسان نجوم كوميديا مثل محمد هنيدي وفارسات نجوم الطرب مثل المطربة أحلام، بل زعموا أنَّ ترامب البخيل شارك في الحملة، فجمع الفتى أحد عشر مليوناً من الدولارات للنازحين السوريين في إدلب والأفارقة أيضاً، فهم كثر، كل يوم بمليون دولار، وأجرى أحدهم حسبة، فوجد أن كل عائلة من المعلن عن مؤازرتهم ستنال خمسين دولارا إن خلصت
نية مفوضية اللاجئين، ووقعت الأموال بأيد أمينة، ولم توزع على جنود الأسد.
وقيل في بعض التحليلات إن محمد بن راشد الذي لم تفارق صورته أبا فلة، وليست صورة عجوز سورية غارقة في الطين، أو طفل مقرور من البرد في الثلج، فكأن محمد بن راشد هو النازح، وهو الغارق في الطين والزمهرير. وقيل إنه يريد تبييض صورة الإمارات التي ساءت كثيراً بعد تطبيعها مع إسرائيل. وأذكّر القارئ بأن مؤخر صداق زوجة ابن راشد الهاربة من عطفه وحنانه وبرّه ورحمته بلغ نصف مليار دولار، قضاءً في محكمة بريطانية.
أشارت تقارير صحافية أجنبية وعربية إلى دولة غنية خليجية، بات بعض من أبناء شعبها يتسولون، فحرّمت التسول، وسنّت عقوبات عليه، كانت دعت إلى الصدقات، واستحوذت عليها وأنفقتها على حدائق الحيوان في أوروبا. نرجو أن تصل الأموال إلى مستحقيها، فإن لم تصل كلها، فليصل نصفها، وقيل إن الأموال أكثر بكثير من التي أعلن عن جمعها.
أقرُّ أنّ فتى البوبجي أفضل من رامز، "واكل" الجو والبحر والبر، وسعدتُ بالجماهير العربية التي أشفقت عليه واستطاعت تحريره أخيراً من الأسر، وجعلته ينام.
لم أكن أظنُّ أن
إغاثة المنكوبين تحتاج إلى كل هذا الاستعراض والهياط والمياط وكأننا في سيرك، وكنت أحسب أن الإغاثة عمل وقور، وظنت أن أبا فلة سيتصل بأسر سورية، وينقل صورا من معاناتهم، فيجنب نفسه الدموع، لعل جباة الصدقات يعملون بالمثل الإنكليزي القائل: لا تدع المصيبة تمر من غير أن تستفيد منها، ومصائب قوم عند قوم فوائد، فجمعوا هذا المبلغ وهو "فكّة" على أصحاب "ناطحة السماء"، والثورات العربية. متسولو أوروبا يتسولون على أبواب السوبر ماركت، والمسلمون على أبواب المساجد، وهي المرة الأولى التي يقع فيها التسول تحت برج خليفة الواقع تحت خط الفقر الأخلاقي!
الشعوب تحت خط الفقر كثيرة؛ الشعب اليمني، السوداني، اللبناني، وسبب الفقر هو الأبراج الباسقة، ونحن نحتاج إلى جيش من أمثال الفاضل أبي فلة، كل شهر، وليس كل موسم عاطفي، ولو عاش أبو فلة، النسخة الثانية من غيث الإماراتي، مع النازحين يوما أو بعض يوم، يقظا أو نائما، لأمسى رجلاً مباركاً يستسقى الغمام بوجهه، ثمال اليتامى عصمة الأرامل.
twitter.com/OmarImaromar