هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: بورقيبة والقضية الفلسطينية وامتداداتها العربية (1938-1978)واقعيّة رياديّة أم تنكر للقضية؟
الكاتب: الدكتور عبد اللطيف الحناشي
الناشر: الدار التونسية للكتاب، الطبعة الأولى 2021
(292 صفحة من القطع الكبير)
إلى أين تقودنا مشاريع التسوية الاستسلامية المطروحة؟ وهل من الممكن أن تكون هناك تسوية مع العدو الصهيوني؟ وهل يوجد حل وسط في الصراع والحرب بين الأسطورة الصهيونية المطلقة ومنطق التاريخ، وبالتحديد تاريخ تحرر الأمة العربية؟
الواقع أن سياسة التسوية حقيقة تاريخية معاصرة حاضرة في كل حروب العرب ضد الكيان الصهيوني.. وتدعمت أسسها أيضاً بكسب العدوالصهيوني كل حروبه ضد العرب منذ عام 1948 وحتى الآن. وهي موجودة لتبقى مادامت موازين القوى في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية بين العرب والعدوالإمبريالي ـ الصهيوني مختلة لمصلحة هذا الأخير.. وما تنتجه هذه الموازين من حرية في العمل والحركة والمناورة وفرض الشروط الاستسلامية المذلة على الطرف العربي والفلسطيني الضعيف والعاجز والمهزوم تسير في الاتجاه المتناقض جذرياً مع موازين القوى الطبيعية في العالم العربي في محاولة عبثية للوقوف ضد حركة تقدم التاريخ تيارالتحرروالوحدة وكما ستظل لمرحلة طويلة.
إذا كانت كل حرب حقيقية هي فن حوار القوى أو بالأحرى فن حوارالإرادات السياسية التي تستخدم القوة العسكرية باعتبارها سلاح الإقناع أو الإرغام أو الإبادة للعدوفي ميدان القتال، إذ يترجم هذا الأخير موازين القوة عسكرياً، فإن التسوية تستخدم نفس القوة كسلاح الإقناع أو الإرغام أو الإخضاع أو التصفية التي يفرض بها العدو شروطه على الطرف المهزوم أو المغلوب أو الضعيف على مائدة المفاوضات باعتبار هذه الأخيرة تترجم موازين القوة العسكرية والسياسية دبلوماسياً.
إن الحرب والتسوية لا تستطيعان أن تعكسا إلا حقائق القوة خارج ميدان القتال ومائدة المفاوضات، وكلتاهما وجه من وجوه صراعات هذه القوة بين طرفين متعاديين ومتناقضين جذرياً في مصالحهما ومتصادمين في استراتيجيتهما ومتصادمين أيضاً في ضرورات أمنهما. وهكذا بحسب المنطق والتاريخ والحركة السياسية الواعية والمقاومة الراديكالية تمثل التسوية التصفية والسحق والإبادة واستخدام أقصى أشكال العنف همجية وبربرية من جانب القوة السائدة والمنتصرة والمعادية للثورة الفلسطينية المعاصرة. وهومايتجلى بصورة واضحة الآن في فلسطين المحتلة من جانب القوات الصهيونية بقيادة آرييل شارون، ومن بعده أولمرت.
وعلينا أن نرى بوضوح أن خطورة الاتجاه نحو التسوية تتمثل أساساً في المسألتين الآتيتين:
ـ الأولى: تغييب وانتفاء المعالم الأساسية والبرامج السياسية للتحريرالكامل وتمييع الأهداف الأساسية والاستراتيجية للمقاومة الفلسطينية، ليحل محلها الركض وراء سراب مشاريع التسوية التي اتخذت تعبيرات متعددة وأشكالاً مختلفة لتقود في النهاية إلى تصفية القضية الفلسطينية كما يجري الآن.
ـ الثانية: تحويل طبيعة الصراع العربي ـ الصهيوني من كونه صراعاً عدائياً تناحرياً مع الإمبريالية الأميركية والكيان الصهيوني إلى مجرد "نزاع" يجري حله سلمياً، وفق شروط التسوية الأمريكية ـ الصهيونية.
إن الوعي النقدي الجديد الذي يريد تمحيص التسوية التي طرحها الزعيم بورقيبة، بعيون جديدة، وعقل جديد، وفكر جديد، والمنطلق من عقلانية التاريخ، مهم، لكي يحدد مكامن الضعف والتفسخ والخلل في البنيان الداخلي لفكر التسوية البورقيبي، في سبيل تأسيس وعي مطابق جديد، الذي لا يمكن أن يكون إلا على أرضية الحقيقة الواقعية باعتباره شرطاً للانتقال إلى الثورية العقلانية، والبحث عن نقطة بداية لنهضة جديدة تعيد بناء الحركة الوطنية الفلسطينية في ارتباطها الصميمي أساساً بتغيير الوضع العربي، من خلال التخطي الجدلي للإشكالية القديمة السائدة في الفكر السياسي العربي بتلاوينه المختلفة، القومي، والماركسي، والإسلامي لمصلحة بلورة المشروع القومي الديمقراطي النهضوي.
فالوعي الراديكالي الحق لا يمكن أن يكون إلا نقدياً، وهو وحده القادرعلى التغلغل إلى جذورأزمة المقاومة الفلسطينية والعربية، بما أنه يتناقض كلياً مع الوعي السياسوي التقليدي اليومي الذي يظل عالقاً على السطح السياسي.
إن الحرب والتسوية لا تستطيعان أن تعكسا إلا حقائق القوة خارج ميدان القتال ومائدة المفاوضات، وكلتاهما وجه من وجوه صراعات هذه القوة بين طرفين متعاديين ومتناقضين جذرياً في مصالحهما ومتصادمين في استراتيجيتهما ومتصادمين أيضاً في ضرورات أمنهما.
إن تأخر الوعي الإيديولوجي السياسي للزعيم بورقيبة، ولباقي الأنظمة العربية، كان عاملاً حاسماً في استمرارالوعي المحافظ الامتثالي والتقليدي الذي يخنق كل تساؤل، ويرفض تجسيد القطيعة المنهجية والمعرفية مع كل نزعة ماضوية وتقليدية في تطورمستقبل المسألة الوطنية الفلسطينية عقب هزيمة المشروع القومي العربي بشقية الناصري و البعثي، وهزيمة المقاومة الفلسطينية، أمام المشروع الإمبريالي الأمريكي و المشروع الصهيوني.
ذلك أن كل عملية ثورية حديثة تقتضي بلورة إيديولوجية حديثة. فالتأكيد على الحداثة الإيديولوجية، هي تأكيدعلى جذرية البرنامج السياسي، وبالتالي راديكالية العملية الثورية ذاتها في ظل عالم عربي متأخر يعيش في ظروف الهيمنة الإمبريالية الأمريكية، والاحتلال الاستيطاني الصهيوني، والاستبداد المحدث العربي.
وإذا كانت كلمة اليمين مثل كلمة اليسار، وكلمة الرجعية مثل كلمة التقدمية، متساوية لغوياً في دلالتها المعرفية والفكرية، فإن التناقضات والتعارضات فيما بينها، وفي داخلها هي تناقضات وتعارضات للواقع، لأن كلمة اليمين ليست يميناً ولا كلمة اليسار يساراً. لذا كان يجب التمييز بين حكم القيمة الإيديولوجية وحكم الواقع، الذي يقود بالضرورة إلى التمييز بين الفكر والإيديولوجيا.
عندما نتكلم عن فكر التسوية للزعيم بورقيبة، لا نطلق عليه موقفاً إيديولوجياً دوغمائياً ضمن التصنيفات الإيديولوجية التي سادت الساحة العربية والعالمية، وعندما نحلل ماهية بنية أفكاره، والوظيفة التي تؤديها، أو الدور الذي تقوم به ضمن منظومته الإيديولوجية المعنية. ولهذا فإنَّ فلسفة السياسية للفكر البورقيبي تقوم على القبول بالتسوية السياسية للقضية الفلسطينية، ومحاولة التوافق مع القوى العربية التقليدية، لأنَّ الأنظمة العربية معنية بالحفاظ على التركيبة الكولونيالية، ومن ضمنها الكيان الصهيوني، كجزء من حفاظهاعلى وجودها، ولذلك ظلت ركيزة من ركائز الوجود الإمبريالي في المنطقة العربية. ولم تكن سياسة بورقيبة ترى في الصراع مع الكيان الصهيوني صراع وجود، يعني إنهاء الوجود الصهيوني في فلسطين، بل كان همه موقعه في المعادلة السياسية العربية، حتى وإن نادى بالمقاومة المسلحة، فلم يكن الهدف الحقيقي تحرير فلسطين بل توظيفها للحصول على سلطة ما، سواء في الضفة الغربية أوقطاع غزة.
إنَّ هدف الفكر السياسي البورقيبي كان استقطاب القيادات الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات على أرضية سياسة التسوية، حيث كان الفلسطينيون مندمجين في الأحزاب القومية والحركات التحررية وشكلوا قوة فيها طيلة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وجاء برنامج حركة "فتح" الفلسطينية، التي كان يقودها الثالوث: ياسر عرفات، وخليل الوزير (أبو جهاد)، وأبو إياد، ليطرح عليهم الالتفاف حول القضية الفلسطينية التي من واجبهم النضال من أجلها بعد خيبة أملهم ومراهنتهم الخاسرة على الأنظمة العربية لتحرير فلسطين، وأساسها النظام الناصري. وهذا هو أساس المنهج الإيديولوجي والسياسي لقيادة حركة "فتح" المتأثرة كثيرًا بالمرجعية السياسية لفكربورقيبة، إذْ أكَّدت على فلسطينية الثورة لعزلها عن إطارها العربي، علماً أنه في داخل تنظيم حركة فتح تتعايش اتجاهات إيديولوجية عدة من القومية والماركسية والليبرالية إلى الإسلامية.
إنَّ فلسفة السياسية للفكر البورقيبي تقوم على القبول بالتسوية السياسية للقضية الفلسطينية، ومحاولة التوافق مع القوى العربية التقليدية، لأنَّ الأنظمة العربية معنية بالحفاظ على التركيبة الكولونيالية، ومن ضمنها الكيان الصهيوني، كجزء من حفاظهاعلى وجودها، ولذلك ظلت ركيزة من ركائز الوجود الإمبريالي في المنطقة العربية.
إذا كان خالد الحسن أحد القادة الأساسيين لحركة "فتح" قد طرح مرة لمجلة الطليعة التي تصدر في باريس أن الهدف من تشكيل حركة "فتح" كان كسر شوكة الحركة القومية العربية، التي مثلت قوة طيلة الخمسينيات وبداية الستينيات لنشر الخط الإسلامي ـ لأن المد القومي الناصري والبعثي كان عائقاً ًأمام انتشار الإسلام ـ بالاستفادة من عدالة القضية الفلسطينية والغطاء الوطني، فإن باقي القيادة اليمينية أرادت أن تحول الجماهير الفلسطينية المستقطبة إلى قوة ضغط بيدها تساوم بها للحصول على "سلطة" في معادلات التسوية.
والتصوران الإيديولوجيان يتقاطعان ويقودان للنتيجة عينها، تفتيت الحركة القومية لتكريس منطق الكيان الفلسطيني القطري، وإبقاء المعادلة القائمة بالتوافق مع الإمبريالية الأميركية والكيان الصهيوني، معادلة التأخر التاريخي، والتجزئة، والتخلف، والدولة التسلطية العربية.
القصور الاستراتيجي للتسوية التي طرحها بورقيبة
لقد انطلق الفكر السياسي البورقيبي تجاه القضية الفلسطينية ضمن وضع عربي اتسم في البداية باحتدام التناقضين الأساسيين اللذين كانا يحكمان المشروع القومي العربي ، وهما: التناقض مع الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني أولاً، والتناقض مع واقع التخلف العربي، ثانياً.
وانطلق الفكر السياسي البورقيبي ضمن ظروف عربية مواتية له تمثلت على النحوالآتي: اجتيازعدد من الأنظمة العربية أزمة الخمسينيات والستينيات، حين كان الصراع محتدماً بين الحركة الشعبية من جهة والإمبريالية والقوى التقليدية من جهة أخرى.
وفي الوقت الذي عملت فيه هذه الأنظمة على توطيد أركانها، كان الصراع ضد الناصرية متأججاً، مثلما كان الصراع داخل الحركة القومية متفاقماً، ولذا أيدت الأطراف المعادية لعبد الناصر مثل الزعيم بورقيبة وعدد من الملوك العرب الأثرياء، قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، فوجدت هذه الأخيرة المال والمنطلق، واستتبع ذلك رؤيتها وموقفها من الأنظمة التقليدية، حيث أكدت منطلقاتها على "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية" حتى وإن كانت تقوم بسحق الحركة الشعبية، وتطويرعلاقاتها مع الإمبريالية الأميركية، وتنسيق خطواتها مع المخطط الأميركي، والتقاء برنامجها مع البرنامج الأميركي على صعيد تسوية القضية الفلسطينية، وتصفية النضال لتحرير فلسطين، وممارسة سياسة تقوم على التحالف معها، ومعها جميعا ظاهرياً، ومع أكثرها تخلفاً فعلياً.
ولا شك أن هذه الرؤية الإيديولوجية والسياسية للفكر البورقيبي التي كان منطلقها الأساس النظر للثورة على أنها ثورة فلسطينية أولاً، وضعت الثورة في نصابها الحقيقي، لأنها اختصرت الصراع مع الكيان، باعتباره صراعاً فلسطينياً صهيونياً.
لقد انطلق الفكر السياسي البورقيبي تجاه القضية الفلسطينية ضمن وضع عربي اتسم في البداية باحتدام التناقضين الأساسيين اللذين كانا يحكمان المشروع القومي العربي ، وهما: التناقض مع الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني أولاً، والتناقض مع واقع التخلف العربي، ثانياً.
غير أنَّ هذا المنطق لفكر التسوية البورقيبي يتجاهل قضايا أساسية عدة ، لعل أهمها:
ـ أولاً: إن الحركة الصهيونية العالمية المرتبطة عضوياً بالحركة الإمبريالية العالمية، حولت مشروعها الخاص بإقامة دولة يهودية إلى أمرواقعة التأخر العربي التي جعلتها تتجاهل الشعب العربي في فلسطين. وكان الكيان الصهيوني يعمل ولا يزال تحت المظلة الإمبريالية الغربية وكجزء من الهيمنة الإمبريالية الأميركية على العالم غيرالأوروبي. ذلك أن الحركة الصهيونية العالمية كان مركزها أوروبا حين كانت الإمبرياليتان الفرنسية والبريطانية القوتين الأساستين اللتين تقودان العالم الرأسمالي.
وحين انتقل مركزالرأسمالية العالمية إلى الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية انتقل مركز الصهيونية العالمية إلى واشنطن، وأصبح الكيان الصهيوني منذ ذلك الوقت جزءاً من مخطط استعماري استهدف المنطقة العربية كلها بما فيها فلسطين، وكان الوجود الصهيوني في فلسطين جزءاً منه. وظل الكيان الصهيوني جزءاً من المخطط الإمبريالي الأمريكي، إذ أصبحت الولايات المتحدة القوة الأساسية القائدة في المعسكرالإمبريالي الغربي، ولذا فهوأداة قوة عظمى، ولا يمكن النظر إليه من منظار آخر.
فالوجود الصهيوني في فلسطين هووجود استعماري استيطاني: احتلال وتوسع وبناء مستوطنات جديدة من جهة، وهومن جهة أخرى مرتبط عضوياً بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، ويدافع عنها خارج حدوده، وهومن جهة ثالثة يسعى لتنمية أسواق ومصالح له عبر اختراق العالم العربي بطريقة الاستعمار الجديد، وإخضاعه كلياً، وسحق الجماهيرالعربية كلها، ليمثل إمبريالية صغيرة تقوم على العقل والخبرة التكنولوجية والاقتصادية الصهيونية، وبالتالي "الطبقة الصهيونية" المسيطرة، وعلى الخيرات والأيدي العاملة العربية، والسوق العربية الواسعة، ما دامت أوجه التقارب بين البرجوازية العربية الحاكمة وبين المشروع الصهيوني في التركيبة والإيديولوجيا والمصالح الاقتصادية، والوظيفة السياسية في تقارب مستمر.
البرجوازية العربية، والمشروع الصهيوني ينتميان إلى تركيبة اقتصادية ـ اجتماعية متماثلة، وإن اختلفت في الدرجة، وتتقاطعان كبلدان هامشية تابعة على محيط العالم الرأسمالي، ولا يشكل الصراع على السوق لكليهما ميزة رئيسية، بقدر ما يتميزان بارتباطهما بالإمبريالية الأمريكية كوسيط تجاري أو كوسيط اقتصادي اجتماعي ـ سياسي لتوالد الرأسمال أوالإنتاج الرأسمالي البضاعي نفسه، ويخضعان كليهما لذات الإيديولوجيا المعادية للتحريروالوحدة العربية، والديمقراطية، وبناء المجتمع المدني الحديث، ويؤديان موضوعياً، بقدرمتقارب دور الدفاع "عن النظام الدولي الجديد"، بزعامة الولايات المتحدة.
لم يدرك بورقيبة معنى كون الكيان الصهيوني جزءاً من الاستعمار الجديد، أي من الإمبراطورية الأمريكية التي سعت خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها إلى أن تصبح المسؤول الأول والأخير، والقوة الوحيدة المعتمدة من الغرب الرأسمالي كله لحماية مصالحه، فيما يسمى "الشرق الأوسط" وصيانة أمنه،
كما أن الكيان الصهيوني باعتباره جزءاً من القوى الإمبريالية، وأداة من أدواتها، قوي بقوتها، وضعيف بضعفها، تتحدد مهماته في إطارالاستراتيجية الإمبريالية الأمريكية، وضمن مخططه الخاص لا في المحافظة على هذا الكيان ضمن حدود فلسطين فقط، وإنما في استهداف العالم العربي كله، وسحق وتصفية أية قوة وطنية أوقومية راديكالية تؤثرفي وضع الكيان ومصيره، وتسييس الأقليات في العالم العربي، لإثارة الصراعات الطائفية والمذهبية ـ الإثنية، والتفتيت الطائفي لكي تحول دون تحقيق أي شكل من أشكال الوحدة العربية.
ومن أسباب قوة وغطرسة الكيان الصهيوني ارتباطه بالإمبريالية الأمريكية مع صعود نجمها بعد الحرب العالمية الثانية، ومع ازدياد حاجة الولايات المتحدة الأمريكية إلى السيطرة الكاملة على النفط العربي، وعجز حركة التحررالوطني العربية عن إنجاز مهمات الثورة القومية الديمقراطية، واستمرارالولايات المتحدة في دعم الكيان الصهيوني سياسياً، واقتصادياً، ومدّه بأحدث الأسلحة والتكنولوجيا، وتزويده بالأموال اللازمة، لضمان تفوقه العسكري النوعي بكل الأساليب، ومنها إبقاء الأقطار العربية إما تابعة أوضعيفة عسكرياً، وإشغالها بمعارك وإشكالات من الصراعات الأهلية تستنزفها وتضعفها داخلياً.
والواقع أن الوعي الإيديولوجي السياسي لبورقيبة المتصالح مع بنية المجتمع التقليدي كان يسوده إزورارعن الحقيقة الواقعية، في فهم الأبعاد الاستراتيجية لتحريرفلسطين. فبعد إخفاق شعارالوحدة العربية كطريق لتحرير فلسطين، وإسدال الستارعلى المنحى الوحدوي والديمقراطي للنضال العربي، سقط الفكر السياسي البورقيبي ومعه الفكرالسياسي التقليدي للأنظمة العربية وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في قصوراستراتيجي قاتل من خلال فصل المعركة مع الكيان الصهيوني عن المعركة مع الإمبريالية الأمريكية، ومع التخلف العربي. فالاستراتيجية الشاملة التي تحكمت في التسوية السياسية التي طرحها بورقيبة، انتزعت قضية فلسطين من سياقها التاريخي كجزء وحصيلة منطقية وضرورية للثورة القومية الديمقراطية العربية.
لم يدرك بورقيبة معنى كون الكيان الصهيوني جزءاً من الاستعمار الجديد، أي من الإمبراطورية الأمريكية التي سعت خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها إلى أن تصبح المسؤول الأول والأخير، والقوة الوحيدة المعتمدة من الغرب الرأسمالي كله لحماية مصالحه، فيما يسمى "الشرق الأوسط" وصيانة أمنه، وملء فراغ القوة الذي أحدثته انهيارالإمبراطوريات الغربية القديمة بريطانيا وفرنسا، وخوض "معركة القرن"، باعتبارها " فصلاً آخرمن فصول الصراع المتصل والمستمربالسيطرة على الشرق الأوسط والعالم العربي في قلبه "، على حد قول هيكل.
ولذلك تعامل فكر التسوية البورقيبي مع الكيان الصهيوني على أساس أنَّه جزء من الاستعمارالقديم، كما تعاملت ثورة 1936 مع الانتداب البريطاني أوحركات الاستقلال الوطني في أقطارعربية عدة، ولم يدرك أنَّ الوضع في فلسطين مختلف، لأن الاستعمارالصهيوني استعمارٌاستيطانيٌّ يتسعُ ويتنامى، بفضل دعم الحركة الصهيونية له، وبسبب حاجة الإمبريالية الأمريكية إلى دوروظيفي للقوة الصهيونية في العالم العربي. والاستعمارالاستيطاني لايرحل إلا بهزيمة ساحقة، والتفاوض معه لايجدي مادام قوياً، وإنهاكه ليس سهلاً مثل إنهاك الجيوش المحتلة.
إن قصور الأفق الاستراتيجي لفكر التسوية البورقيبي منذ البدء، جعله لم يفهم طبيعة المعركة مع الكيان الصهيوني، ولم يفهم أيضا الاستراتيجية الإمبريالية الأمريكية في العالم العربي، التي كانت تقوم على أساس دعم ركيزتي الوجود الإمبريالي: دعم وتوطيد التخلف، وتقوية الكيان الصهيوني. ولهذا كله لم يكن بورقيبة مهيأً ليدرك أن المعركة مع العدوالصهيوني تقتضي مواجهة الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني، باعتبارها الطريق السليم لتحرير فلسطين كجزء من مهمات الثورة العربية، لا الفلسطينية تحديداً، وأن السير على طريق إنجاز المهمات هووحده الكفيل بتحرير فلسطين.
لقد اعتبر بورقيبة أنَّ المعركة هي مع الكيان الصهيوني فقط، وكان شعاره خوض "حرب عصابات" ضده، وحول طبيعة المعركة هل يأخذ العداء فيها شكلاً تناحرياً جذرياً ؟ كان الجواب: إنها معركة فرض وجود طرف فلسطيني، لكي يدخل معادلة التسوية، على أمل الحصول على حصة ما. وكان الهدف "دولة فلسطينية مستقلة" من خلال قبول قرار التقسيم 181، أما النتيجة الفعلية فهوحكم ذاتي في غزة وأريحا كما جاء به اتفاق أوسلو الموقع في 13سبتمبر 1993،الذي كرس شرعية الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وانتزاع الموافقة الفلسطينية الرسمية على استمرارالسيادة الصهيونية على الأرض، والشعب الفلسطيني. وحول السؤال هل إن الإمبريالية الأميركية طرفُ ُ في الصراع؟
كان الجواب البورقيبي السعي لخطب ودها، والحوارمعها مطلوب للاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني في تسوية القضية الفلسطينية على أساس القرار 242 و338، وبالتالي تسليمها أوراق القضية الفلسطينية، وكان كل ذلك يبرزعجزاً واضحاً، لأن الكيان الصهيوني جزء من الإمبريالية الأمريكية، ولا أحد يتصورأن المعركة معه لا تشمل الولايات المتحدة الأمريكية أساساً.
ـ ثانياً: إنَّ الأفق الاستراتيجي لقيادة بورقيبة ومنظمة التحرير الفسطينية المتأثرة بفلسفة بورقيبة السياسية و النضالية، ككل لم يكن منطلقاً من تناقض جذري مع الإمبريالية الأمريكية والصهيونية، بل من منطلق رؤية إقليمية عزلت الثورة الفلسطينية، ومنعتها من أن تتحول إلى ثورة شاملة قادرة على تنظيم الجماهيرالعربية، وحشد طاقات الأمة العربية لخوض معركة المواجهة ضد الإمبريالية، والصهيونية.
فالتأكيد على فلسطينية الثورة، قاد إلى فصلها عن محيطها العربي، وأكد توافقها مع الأنظمة القائمة لأن تعريب الثورة يعني أن تعانق المقاومة الفلسطينية الواقع العربي تذوبه وتذوب فيه، تصهره قومياً، ووحدويًا، وتنصهر فيه، إن العنصرالفلسطيني أمام خيار واضح: إما أن يصبح عنصرتوحيد ودمج وإما أن يصبح عنصرتكريس للواقع المجزأ وقطرنته نهائياً. وقطرنة الواقع العربي إنما تعني في النتيجة بقاء الكيان الصهيوني.
وإذا كانت "فلسطنة" الثورة الفلسطينية جاءت ردّاً على هزيمة 1967 وعلى الترهل القطري، فإن فلسطين لا تتحرر فلسطينياً، ولا بتغليب القطري على العمل القومي، لأن هذا يقود إلى البحث عن تسوية مُذِ لَة، وهذا ما فعلته القيادة الفلسطينية الرسمية منذ السبعينيات وصولاً إلى اتفاق أوسلو وملحقاته.
ولم يع بورقيبة أنَّ تحرير فلسطين مهمة قومية، أوجزء من مهمات قوى الثورة القومية الديمقراطية العربية لتحرير العالم العربي كله من الإمبريالية الأمريكية، وكل أشكال الاحتلال والسيطرة المباشرة وغير المباشرة. وأنَّ التحرير مسؤولية الشعوب العربية، وكل قوة وطنية ديمقراطية عربية، وكل قوة قومية، وكل قوة إسلامية، وأن هذا يعني دمج القضية الفلسطينية بالقضايا القومية العربية ككل، لكي يوضع التحريرفي موقعه السياسي والتاريخي من المهمات القومية، باعتباره هدفًاً رئيساً، لايجوزأن يعلوعليه أي هدف آخر من حيث الأهمية.
ولأن عملية الدمج هنا لا تعني التذويب والإلغاء بل تعني اعتبارالقضية الفلسطينية القضية المركزية في النضال العربي، للقضاء على التأخرالتاريخي، والتخلف، والتجزئة، والتبعية، وفي سبيل تحقيق الوحدة، والديمقراطية، وبناء المجتمع المدني الحديث. ثم إن نضال الجماهير الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية لتحرير فلسطين، يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من هذا العمل القومي ونضال الجماهير العربية، لا خارجه ولا بموازاته حتى يأخذ بعده القومي السليم من خلال قبوله بمبدأ ووحدة الثورة العربية.
وهكذا عزل فكر التسوية الذي طرحه بورقيبة منذ البدء القضية الفلسطينية عن إطارها الصحيح، إطار النضال ضد الإمبريالية الأمريكية والصهيونية، ومن أجل ثورة قومية ديمقراطية عربية شاملة، تحرر الأرض، وتوحد الأمة وتواجه التأخر التاريخي والتبعية.
لقد كان هذا العزل سبباً جوهرياً من أسباب الأزمة، لأنه كان يتجاهل فهم العلاقة الجدلية السليمة بين العام والخاص، بين القومي والوطني. فالعام هوالأمة العربية، والعالم العربي كله، والشعب العربي برمته. والعام يشمل المعضلات المنفردة للأمة كلها، لذا فهويتصف بصفة الشمول. أما الخاص، فهوالقضية الفلسطينية، وفلسطين باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من العالم العربي، وشعب فلسطين باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الشعب العربي.
إن سياسة قومية حديثة وراديكالية هي وحدها التي يمكن أن تنجز عملاً تحريرياً تاريخياً في سياق بناء استراتيجية لتحرير فلسطين، ينقض ويوقف هذه السيرورة التقهقرية الانحدارية التي انساق فيها الفكر البورقيبي، وكذلك الأنظمة العربية، إن لم نقل معظم الشعب العربي،
ولكن هذا الخاص الذي نعني به فلسطين لا يمكن أن يوجد إلا في العلاقة العضوية التي تؤدي إلى العام، أي إلى صراع الأ مة العربية أي النضال القومي. فكل عام هوجوهرياً يتضمن من ناحية أوفى جزءاً خاص، لأن العام جامع وأغلب، ومثلما أنَّ كل خاص يكون على هذا الشكل أوذاك عام. وحين تكون العلاقة عضوية بين العام والخاص، أي كما هوشأن العلاقة العضوية بين الأمة العربية وفلسطين، فإنَّ العام أي النضال القومي يخضع الخاص أي النضال القطري لمصلحة الأول. ولأن العلاقة العضوية بين العام والخاص لا تعني المساواة ولا الندية، بل تعني خضوع الخاص للعام، وبالتالي الأقلية للأكثرية، وغلبة القومي على الوطني أي القطري، من دون أن يعني ذلك عدم الاعتراف أوتجاهل سمات الخاص، وخصائص ظروف النضال الوطني أوالقطري، وحقوق الأقلية.
بما أن قضية فلسطين قضية قومية عربية، لا قضية الشعب الفلسطيني لوحده، والمشروع الصهيوني يستهدف العالم العربي كله، والإمبريالية الأمريكية تخوض الحرب منذ أواسط الخمسينيات ضد الأمة العربية، فإن تحرير فلسطين ليس شأناً فلسطينياً فقط، ولا يتم ببرنامج فلسطيني قطري – على الرغم من ضرورة وواجب الجماهير الفلسطينية وقواها الحية الفاعلة في تصعيد النضال ضد العدوالصهيوني في الداخل ـ بل إن تحرير فلسطين مهمة قومية عربية وإسلامية، أي أنها جزء من مهمات قوى الثورة العربية لتحريرالعالم العربي كله – على الرغم من هزيمة الحركة القومية العربية عامة في ميدان المواجهة مع الإمبريالية والكيان الصهيوني ،على صعيد العمل للتغييرالسياسي والاجتماعي وعلى صعيد انتفاء شعارالتحريرمن برنامجها واستسلامها لخط التسوية.
ولذلك فإن سياسة قومية حديثة وراديكالية هي وحدها التي يمكن أن تنجز عملاً تحريرياً تاريخياً في سياق بناء استراتيجية لتحرير فلسطين، ينقض ويوقف هذه السيرورة التقهقرية الانحدارية التي انساق فيها الفكر البورقيبي، وكذلك الأنظمة العربية، إن لم نقل معظم الشعب العربي، ثم يقلبها في اتجاه بناء قوى التغييرالراديكالية العربية، من إنضاج الشروط التاريخية والسياسية والإيديولوجية اللازمة والضرورية لنقل الشعب العربي من وهدة التأخرالتاريخي، والتكسير المجتمعي، والنمط المجتمعي التقليدي إلى الانعتاق في ممارسة التغيير السياسي في سياق مشروع قومي ديمقراطي نهضوي يتسم بالشمولية التاريخية، ويسيس الشعب العربي، ويبث الوعي الثوري الراديكالي في صفوفه، بهدف تحقيق عبورالأمة العربية من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى، أي من نمط مجتمعي متأخر إلى نمط مجتمعي عصري حديث.
إقرأ أيضا: مقومات موقف الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة من فلسطين
إقرأ أيضا: مبرر بورقيبة.. الاعتراف بالكيان المحتل مدخل لحل قضية الوطن