كتاب عربي 21

عقوق الإنسان وخنق المجتمع.. المواطنة من جديد (85)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
كيف يتصور المستبد المجتمع وتعامله معه؟ وكيف يمكنه أن ينظر إلى مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية؟ المستبد في واقع الأمر لا ينظر إلى مسألة الحقوق إلا من منظور الاستخفاف والإهانة، الاستهانة والمهانة.. في ظل هذا التصور لا يمكننا إلا أن نرى المستبد لا ينظر إلا لعموم الناس بكونهم تحت ملكيته الخاصة يتصرف بهم كما شاء وكيف شاء، وفي سياساته العامة لا يراهم إلا قطيعا يجب أن يتبعه لا يعقب عليه، فضلا عن أن يحاسب أو يراقب سياساته أو ظلمه وطغيانه.

ومن ثم فهو يؤمم كل فاعليات المجتمع لمصلحته، ويعيد تشكيل هذا المجتمع على مقاسه، ويحاول أن يبني علاقاته على تلك القاعدة التي تستغل كل هذه الأمور التي تتعلق بقابليات الاستبداد والخضوع. أما هؤلاء الذين يظلون في مواقع المقاومة فهم محل استهدافه من قبل أجهزته البوليسية والأمنية، يطلق عليهم كافة أسلحته البوليسية لينال من إرادتهم ويحاول أن يدخلهم الحظيرة وفق تصوره لإدارة القطيع.

هذه الصورة إنما تشكل في حقيقة الأمر أخطر ما يكون في بناء مجتمع الاستبداد من خلال طقوس الإهانة المستمرة للمجتمع وقواه؛ مستهزئا بقدرته، مسخرا كل إمكاناته لمساحات طغيانه وسياسات استبداده، ويرى في فاعليته خصما من سلطانه، ومن ثم يحاول من كل طريق إخصاء مؤسسات المجتمع المدني، مؤكدا أن عموم الناس لا حقوق لهم، وأن الحقوق الوحيدة التي تعتبر ضمن تصوره هي حقوق المستبد التي تقوم على صناعة الخوف، وتمكين مؤسسات الظلم، وتشييد مزيد من مؤسسات القمع والعقاب من سجون جديدة، ومن أجهزة أمنية عتيدة؛ يحاول من خلالها أن يملي على الجميع معالم طغيانه، لا يتحدث إلا بلغة القهر والعنف والحصار والمطاردة والاعتقال، ويصل به الأمر في النهاية إلى حد التهديد بالقتل، أو إغراء بعض زبانيته بالاعتداء والبلطجة على كل من تسول له نفسه أن يستخدم حقه في حماية الحقوق والتأكيد عليها، أو ممارساته في الدفاع عن المظلومين أو مكافحة كل مسارات الاستبداد وأشكاله وتجلياته.
هذه الصورة إنما تشكل في حقيقة الأمر أخطر ما يكون في بناء مجتمع الاستبداد من خلال طقوس الإهانة المستمرة للمجتمع وقواه؛ مستهزئا بقدرته، مسخرا كل إمكاناته لمساحات طغيانه وسياسات استبداده، ويرى في فاعليته خصما من سلطانه، ومن ثم يحاول من كل طريق إخصاء مؤسسات المجتمع المدني، مؤكدا أن عموم الناس لا حقوق لهم

نرى ذلك واضحاً بعد قرار الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان وقف نشاطها يوم 10 كانون الثاني/ يناير 2022م، بعد ما يقرب من 18 عاما من العمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وخاصة حرية الصحافة والإعلام. وتعبر مقولة مدير الشبكة "لم نعد قادرين على الاستمرار كمؤسسة، نعتذر لكل الضحايا، ونكمل كمحامين ومدافعين أفراد عن سجناء الرأي"؛ عن مدى الخسارة التي وقعت على مجتمع الحقوق والحريات في مصر.

فللشبكة دور ريادي في مجتمع الحقوق وحماية كرامة الإنسان وحرياته الأساسية، ونشاط فعال لا ينكره أحد، بما في ذلك النظام الذي عاقبها ومديرها على نشاطهما وفعاليتهما. فقد كانت الشبكة تحاول من كل طريق أن تصدع بكلمة الحق والحقوق في وجه ذلك النظام الطغياني، حريصة على أن تسجل عليه انتهاكاته وتسكينها ضمن أدوات منظومته الاستبدادية التي تمكنت من مفاصل البلاد والعباد ومقدراتهم.

إن تأمل نشاطات وإنجازات الشبكة على مدى تلك السنوات يؤكد على عمق وفداحة الخسارة جراء هذا القرار، فقد مثلت هذه الأعوام الثمانية عشر تاريخا لا يمكن محوه من الدفاع عن حرية التعبير ومئات الصحفيين وأصحاب الرأي في مصر والعالم العربي، وحفظ جزء هام من تاريخ الحركة الحقوقية المصرية والعربية المتاح على موقع الشبكة، وإعداد مبادرات عديدة لإصلاح جهاز الشرطة وأجهزة الإعلام، ودعم المدونين والصحفيين عبر إصدار مدونات "كاتب" وجريدة "وصلة"، وكذلك موقع "كاتب" الذي تم حجبه.
تعبر مقولة مدير الشبكة "لم نعد قادرين على الاستمرار كمؤسسة، نعتذر لكل الضحايا، ونكمل كمحامين ومدافعين أفراد عن سجناء الرأي"؛ عن مدى الخسارة التي وقعت على مجتمع الحقوق والحريات في مصر

كما أسهمت الشبكة بما يقرب من 350 تقريراً في مجال حقوق الإنسان، معظمها تقارير فريدة وتأسيسية في مجالها، بدءا من كشف كيف بات الإنترنت ساحة ومساحة للقمع في الوطن العربي، مرورا بتقارير حرية الرأي والتعبير، وقضايا قتل المعتقلين ومحاصرة المواطنين، والمسار الديمقراطي ومجالاته وقضاياه في مصر، والصحفيين وحقوقهم وحرياتهم، والتغريبة الثالثة: عن هجرة ورحيل المصريين غير الطوعية للخارج، وصولاً إلى الحريات الأكاديمية تحتضر: عن التعسف والتنكيل وملاحقة الأكاديميين في مصر، ناهيك عن النشرات والتقارير التي تهتم بقضية من القضايا أو فئة من الفئات بشكل دوري ومستمر.

كما اعتنت المنظمة بموضوع السجون بصورة شاملة؛ بدءا من الاعتقال، وأصدرت في ذلك تقرير "سجنك ومطرحك.. دليل القبض والتحقيق والسجون"، كما اعتنت بالقوانين التي أصدرها النظام المصري وتوسع على إثرها في القبض على المواطنين واعتقالهم وتغييبهم في السجون؛ تحت دعاوى الحبس الاحتياطي أو الاعتقال أو الاخفاء القسري والتلفيق، وتقرير "خمسة حقوق مسجونة ومهدرة في قانون السجون.. عن قانون تنظيم السجون رقم 106 لسنة 2015"، وكذلك الانتهاكات الشائعة داخل السجون، والسجون ذاتها بتقريرها "في انتظارك: 78 سجنا، بينهم 35 بعد ثورة يناير.. عن الأوضاع الصعبة للسجناء والسجون في مصر".

لا يعني تعداد إنجازات الشبكة لومها على قرارها، فقد بات الانسحاب من المشهد والتوقف عن العمل هو مصير كل مؤسسة وجمعية في ظل هذا الحصار الممنهج، بل مصير كل إنسان حر في مصر في الوقت الراهن. وقد كان إسهام المنظمة بالإضافة لما سبقت الإشارة إليه هو فتحها الباب أمام العديد من الهيئات والمراكز البحثية للاهتمام بمثل هذه الموضوعات، وأسهمت في نشر الوعي بحقوق الإنسان وأمن المعلومات، وحرية الرأي والتعبير.
توقف مثل هذه الجمعيات والشبكات التي تقوم بأدوارها في حماية الحقوق الأساسية الإنسانية الواحدة تلو الأخرى؛ ليس إلا نتيجة لتلك السياسات الطغيانية والاستبدادية التي احترفت التضييق والحصار على تلك المؤسسات في ما تقوم به من أدوار، وتحاول ضمن تأميم العمل الحقوقي أن تقيم مؤسسات زائفة تتسمى بحقوق الإنسان، وهي تنتهك جملة تلك الحقوق

إن توقف مثل هذه الجمعيات والشبكات التي تقوم بأدوارها في حماية الحقوق الأساسية الإنسانية الواحدة تلو الأخرى؛ ليس إلا نتيجة لتلك السياسات الطغيانية والاستبدادية التي احترفت التضييق والحصار على تلك المؤسسات في ما تقوم به من أدوار، وتحاول ضمن تأميم العمل الحقوقي أن تقيم مؤسسات زائفة تتسمى بحقوق الإنسان، وهي تنتهك جملة تلك الحقوق أو على أقل تقدير تبرر وتسوغ تلك الانتهاكات اليومية وتزيف حال الحقوق الإنسانية؛ مدعية أنها تقوم بأدوار لحماية تلك الحقوق وهي تسهم من كل طريق بتبديدها، فتكون بوقا للمستبد في كل سياسات طغيانية وتمرر لمؤسساته الظالمة كل أفعالها المشبوهة، بل إن بعض هؤلاء يقومون بأدوار إعلانية ودعائية لمصلحة النظام لترويج ما أسماه "استراتيجية حقوق الإنسان"، والتي هي في حقيقة الأمر ليست إلا فائض كلام يزيف تلك الحقوق ويفرغها من مضمونها، ويقومون بجولات عالمية لتبييض وجه النظام رغم تلك الانتهاكات المفضوحة التي لا تخفى عن منظمات حقوقية عالمية أو حتى أنظمة سياسية غربية.

بل يتأكد لنا كيف يرى هذا النظام الإنسان وحقوقه عندما يساوم البعض عند إخلاء سبيلهم للتنازل عن جنسيتهم المصرية، وكأن المصري لا يمكنه أن يجمع بين الجنسية والحرية، وربما يعود ذلك حتى على أصل حقه التأسيسي في الحياة حينما عبرت عن ذلك بلاغة أم مكلومة على قتل ابنها الإيطالي "ريجيني" بقولها: "قتلوه كما لو كان مصريا". الأمر هنا أنهم يخيرون كل مواطن مصري بين حياته أو حريته، وإلا كان الموت عليه حقا، والنفي له مصيرا.

إنهم في واقع الأمر بما يقومون به من سياسات يمثلون عقوقا للحقوق، ونفوقاً للإنسان، وخنقاً للمجتمع بأسره ضمن صناعة جمهورية الخوف تحت عناوين زائفة يطلقون عليها "الجمهورية الجديدة"، مع ما تشهده هذه الجمهورية من إغلاق للمؤسسات والجمعيات الحقوقية وتشييد السجون الجديدة، فاستحقت مصر اسم "مصر المحبوسة" بعد أن كانت "مصر المحروسة".

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)