تتطابق معطيات
كازاخستان مع معطيات دول المنطقة العربية، لدرجة قد يظن معها المهتم أن ثمّة خطأ جغرافياً وضع هذه الدولة خارج حيز الخريطة العربية، التي تتميّز بإنتاج نمط من السلطات كفّت غالبية بقية مناطق العالم عن إنتاجه منذ ما قبل الإعلان عن عصر العولمة، باستثناءات قليلة هنا وهناك، دون أن يعني ذلك أن العالم كله بات واحة ديمقراطية، لكن لم يبق فيه تلك الأنماط السلطوية المتطرفة كالتي ما زالت تعمل في الديار العربية.
في البطاقة التعريفية لكازاخستان سنجد أنها من أكبر الدول المنتجة للنفط والغاز، ولديها احتياطات هائلة تضعها في قائمة الدول الرئيسية في إنتاج الطاقة، فضلاً عن أن لديها ثاني أكبر احتياطي من اليورانيوم والكروم والرصاص والزنك، ولديها ثالث أكبر احتياطي من المنغنيز، وخامس أكبر احتياطي نحاس، وتصنّف ضمن المراكز العشرة الأولى في تصدير الفحم، والحديد، والذهب. وتبلغ مساحتها أكثر من 2.7 مليون كيلومتر مربع، من ضمنها أكثر من 800 ألف كيلومتر مربع أراض زراعية وصالحة للرعي، ولا يتجاوز عدد سكانها 18 مليون نسمة.
الخللُ الكبير في توزيع الثروة التي بقيت محصورة ضمن أطر ضيقة، يشرف النظام السياسي على توزيعها، بحيث تذهب الأنصبة الكبرى من الثروة إلى أفراد وجهات قريبة من النظام السياسي، بيولوجياً وأيديولوجياً، في إطار ما بات يسمى في الأدبيات الاقتصادية بـ"رأسمالية المحاسيب"، وهي الظاهرة المنتشرة بكثافة في العالم العربي
رغم كل ذلك، فإن متوسط دخل المواطنين الكازاخستانيين منخفض، مع العلم أنه بالإضافة إلى حجم الثروات الكبيرة، استقبلت كازاخستان أكثر من 300 مليار دولار كاستثمارات خارجية. وتفسير ذلك أن هذه المؤشرات الاقتصادية لم تنعكس على حياة المواطنين الاقتصادية، التي ظلت تسلك مسارات هابطة ومنفصلة بشكل كامل، كما أن الديناميكيات الاقتصادية لم ينتج عنها تحولات مجتمعية موازية. والسبب في ذلك الخللُ الكبير في توزيع الثروة التي بقيت محصورة ضمن أطر ضيقة، يشرف النظام السياسي على توزيعها، بحيث تذهب الأنصبة الكبرى من الثروة إلى أفراد وجهات قريبة من النظام السياسي، بيولوجياً وأيديولوجياً، في إطار ما بات يسمى في الأدبيات الاقتصادية بـ"رأسمالية المحاسيب"، وهي الظاهرة المنتشرة بكثافة في العالم العربي، حيث تملك الفئات المحيطة بالأنظمة السياسية حقاً حصرياً بالحصول على التراخيص والوكالات الأجنبية والقروض المرتفعة.
ينتمي نظام الحكم في كازاخستان إلى فئة
الأنظمة الديكتاتورية، رغم أن دستور البلاد يصفها بالديمقراطية العلمانية ويعتبر الحرية حقا مقدسا، وبذلك يتطابق مع دساتير مصر وسوريا مثلاً، إلا أن الديمقراطية لم تتجاوز الشكليات التطبيقية، حيث لا يوجد فصل بين السلطات، التي تتركز في الغالب بيد رئيس الدولة، قاسم توكاييف، الذي ورث السلطة عن نزار باييف، الذي تحوّل بعد ثلاث عقود من الحكم إلى ما يشبه "المرشد" والقائد من الخلف والمسيّر لكل شؤون كازاخستان عبر توليه رئاسة "مجلس الأمن القومي"، وهو أعلى سلطة أمنية في البلاد.
ينتمي نظام الحكم في كازاخستان إلى فئة الأنظمة الديكتاتورية، رغم أن دستور البلاد يصفها بالديمقراطية العلمانية ويعتبر الحرية حقا مقدسا، وبذلك يتطابق مع دساتير مصر وسوريا مثلاً، إلا أن الديمقراطية لم تتجاوز الشكليات التطبيقية، حيث لا يوجد فصل بين السلطات، التي تتركز في الغالب بيد رئيس الدولة
ورغم أن الرئيس توكاييف تراجع عن رفع أسعار الطاقة، الذي تسبّب بإطلاق شرارة
الانتفاضة في أوزبكستان، إلا أن المتظاهرين لم يتراجعوا واستمروا في احتجاجهم ضد السلطة، ما يعني أن أوان
الثورة قد حان في تلك البلاد التي كانت تنتظر الصاعق الذي سيفجر الغضب الشعبي؛ الذي تراكم لعقود طويلة من جراء سياسات النخب الحاكمة والنظام
الاستبدادي الذي حكم بالحديد والنار، تحت مظلة حماية رئيس روسيا فلاديمير بوتين، حيث ترتبط المافيا الروسية المحيطة ببوتين بعلاقة مصلحية مع الطغمة الحاكمة في كازاخستان، عبر مشاركتها في نهب ثروات البلاد وإفقار سكانها.
وكان من الطبيعي أن تسارع الطغمة الحاكمة في موسكو بإرسال قطعان عصاباتها لنجدة نظيرتها الكازخية، وأن تضع الانتفاضة الشعبية في خانة المؤامرة التي يحيكها الغرب ضد روسيا عبر إشعال الثورات الملونة في محيطها لتشتيت تركيزها وتأخير صعودها المتسارع كقوّة دولية في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، وتتهم المتظاهرين بأنهم من الإرهابيين الذين شاركوا في حروب الشرقين الأوسط والأقصى، وكأن
حلفاء روسيا، من الحكام الفاسدين، هم من جنس الملائكة وأن الثورة لا تجوز عليهم، أو أن فسادهم وعمالتهم ليست أسباباً كافية للثورة عليهم!
الاستبداد ذاته الذي دمّر الحاضر والمستقبل العربيين، هي النخب ذاتها التي احتكرت الثروات والخيرات وتركت الملايين ينهشها الجوع، وهي السياسات ذاتها التي دمّرت الطبقات الوسطى
الطغاة يجلبون الغزاة، وهذه المرّة ستكون كازاخستان هي الضحية، حيث لا يكفي شعب تلك البلاد ما عاناه من اضطهاد وحرمان، بل سيتم تحميله مسؤولية ضياع استقلال بلاده، وقد يترتب عليه خوض حرب طويلة من أجل تحريرها من المستعمر وأذنابه، أو الرحيل عنها إلى ديار الله الواسعة.
هو الاستبداد ذاته الذي دمّر الحاضر والمستقبل العربيين، هي النخب ذاتها التي احتكرت الثروات والخيرات وتركت الملايين ينهشها الجوع، وهي السياسات ذاتها التي دمّرت الطبقات الوسطى وهمّشت الجامعيين وهجّرت المثقفين ونكّلت بالمعارضين، وجعلت المواطن في بلده غريباً.
twitter.com/ghazidahman1