بين الجهل والمكر تتطاير منذ سنوات عبارةٌ تقال للفلسطيني في بعض الدول العربية: "أنتم بعتم أرضكم لليهود"، وباتت هذه العبارة لازمةً تتردد في كثير من أحاديث العامة وأنصاف المثقفين وبعض المغرضين، بما يشكل ضربة قاسية في ظهر القضية
الفلسطينية وتضحيات أبنائها، ونفثة سم موجعة في دم الشهداء وليل الأسرى الحالك وعذابات الثكالى..
لم يأت هذا الاتهام من فراغ، ولم يصنع نفسه بنفسه، بل ثمة من خطّط ودبّر، وتعمد إشاعة مثل هذه المقولات، وهي من أشد ما يمقت الفلسطيني الحر الذي ضحى بكل ما يستطيع في سبيل قضيته، وفقد من أهله وأقاربه والأعزاء عليه، ومن أرضه وبيته وحقله ما لا يحتمله بشر غير الفلسطيني الذي ظل صامدا قويا متحديا رغم كل العواصف؛ فلم يهن ولم يجبن ولم يتخلَّ عن ثوابته وقيمه النضالية، ليجد من يستسهل اتهامه ببيع أرضه بكل بساطة ومجانية..!!
إنني أتهم بعض أجهزة المخابرات العربية بالترويج لهذه الأخبار الزائفة، بقصد النيل من عزيمة الشعب الفلسطيني والتنكيل بسمعته وإضعاف روحه المعنوية، تساوقا مع الآلة المخابراتية
الصهيونية، وانسجاما مع أعداء القضية الفلسطينية حيث وُجدوا، وحيث انضوى بعضهم في منظمات سرية خطيرة تعمل على تقويض فضيلة الصمود، وتعلي من شأن الخيانة، وتهوّن من وصمات العار بوسائل خبيثة كالاتهام الذي يقول ببيعنا أرض فلسطين لليهود..!!
لكن التاريخ الذي لا يرحم، هو نفسه الذي لا تضيع فيه الحقيقة مهما حاول الموتورون تشويهها وإخفاء ما فيها من سطور ناصعة، فالشمس لا يحجبها غربال؛ فقد كشفت وثائق ويكيلكيس - وغيرها كثيراً من الوثائق التاريخية الثابتة والدقيقة - عن حقيقة بيع
الأراضي لليهود، وأسماء الأشخاص والعائلات غير الفلسطينية التي باعت أرضا كانت تمتلكها في فلسطين، والتي سنعرض لها في سياق المقالة..
حتى وإن خان بعض الفلسطينيين أو المحسوبين على فلسطين؛ فباعوا لليهود أرضهم أو منازلهم؛ فهؤلاء ينقسمون إلى قسمين:
الأول: أشخاص من عائلات هامشية صغيرة غير منتمية وليس لها جذور في فلسطين؛ فهي من أصول غير فلسطينية ولا تمثل الفلسطينيين، وربما لجأ بعضها إلى فلسطين في ظروف خاصة، كالهروب من الثأر أو الفقر أو النبذ الاجتماعي أو الهروب من أحكام قضائية في بلدانها الأصلية، وتلك حقيقة يعلمها الفلسطينيون جيدا..
الثاني: أبناء بعض العائلات الفلسطينية، وهم نفر قليل، باعوا أرضهم للصهاينة في ظروف غامضة، فبعضهم باعها قبل أن يستفحل خطر الهجرة اليهودية، وقبل أن يشعر بخطر ما أقدم عليه، وبعضهم تم تهديده وإرغامه على البيع، وبعضهم الآخر كان جاهلا، وربما لا يلام في ظل ضعف التواصل وسوء الفهم وقلة الوعي، مع وجود قلة قليلة باعت طمعا بالمال نوعا من الخيانة، لكن من باع من الفلسطينيين قلة واستثناء، وليسوا أكثرية ولا كثرة..!!
ومن المعلوم من المروءة بالضرورة أن الفلسطيني أصيل - كما لا يفرط في عرضه - لا يفرط في أرضه؛ فالعرض والأرض في عرف الفلسطيني وجهان لعملة واحدة. فقد آمن الفلسطينيون بأن وطنهم شجرة زيتون لا تنمو إلا في تربة خصبة بالتضحيات، ولا تسقى إلا بعرق الفلاحين ودم الشهداء.. وما كان من تفريط بالنزر اليسير من الفلسطينيين بأرضهم لا يمكن تعميمه على الغالبية العظمى من الفلسطينيين، فذلك قمة الإسفاف ومغالبة الحقيقة بكثير من الحقد والكراهية للشعب الفلسطيني وقضيته.
وهنا أود أن أذكّر - على سبيل المثال لا الحصر - بالمتعاونين مع الاستعمار الفرنسي من الجزائريين الذين هرب كثير منهم إلى فرنسا، مع خروج الأخيرة من الجزائر مندحرة، إلا أننا لا نعطي القيمة للثورة الجزائرية بناء على وجود خونة تآمروا على وطنهم، ولم يعيّـر أحد منا الجزائريين بهؤلاء الخونة؛ بل لم تحصد الجزائر من أفواهنا وأقلامنا غير التمجيد والفخر وكل المعاني النبيلة؛ فهي ثورة الفرسان، لا ثورة الخونة والمرتهنين..
إن مشكلتنا مع الساقطين في حبائل الشيطان ممن خانوا مواقعهم القيادية أو الذين خانوا أقلامهم وفكرهم يمكن حلها بالرد عليهم وإفحامهم على ملأ المثقفين والواعين من أبناء أمتنا، لكن مشكلتنا مع الجهلة الذين ينشرون الأخبار الزائفة بين الناس بلا وعي، فهي المشكلة الحقيقية التي نعاني منها؛ لأن عقولهم القاصرة تصدّق كل شيء، وتتفنن في إضافة الماكياج على الأكاذيب على الطريقة السردية الشعبية؛ لتبدو قابلة للتصديق، وإذا جادلتهم لتبين لهم الحقيقة واجهوك بالاستهزاء والاتهام والتشويه والادعاء؛ ليصدُق فيهم ما ينسب للشافعي رضي الله عنه قوله: "ما جادلني عالم إلا غلبته، وما جادلني جاهل إلا غلبني"..
ويستمتع هؤلاء الجهلة بإشاعة مثل هذه الأخبار، لا سيّما حين يقنعهم الساقطون بأن الفلسطيني خائن، ويجب أن نتخلى عنه، وألا نمدّ له يد العون، فهو لا يستحق تضامننا وتأييدنا لقضيته؛ وما ذلك إلا ليتنصل هؤلاء أمام شعوبهم من وطنيتهم، وليبرروا الخيانة والغدر والتطبيع المذل..
لقد استطاع الصهاينة قبل 1948 الاستحواذ على مئات آلاف الدونمات بالشراء أو بالتحايل بوضع اليد على الأراضي المشاع بالتآمر مع الانتداب البريطاني، وما زال الاحتلال حتى اليوم يقوم جهارا نهارا بالاستيلاء على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية التي قطّع أوصالها، وأقام فيها المستوطنات حيث يحلو له؛ فلم يبق للفلسطينيين من الأراضي التي احتلت عام 1967 سوى 58 في المائة تقريبا.. وفي المحصلة فقد استولى الصهاينة - حتى اللحظة - على 85 في المائة من مساحة فلسطين التاريخية التي تبلغ نحو 27 ألف كيلو متر مربع..!!
ولكي نتعرف إلى مساحة الأراضي التي باعها العرب الذين كانوا يعيشون في فلسطين قبل النكبة نستعرض هذه الأرقام:
الأراضي التي باعها لبنانيون لليهود:
- عائلة سرسك: 400,000 دونم.
- عائلة علي سلوم 41,500 دونم.
-عائلة الطيان: 21,500 دونم.
- عائلة المارديني: في لبنان وسوريا: 9,000 دونم.
- عائلة زعرب: 5,000 دونم.
- قرويون من شبعا: 4,500 دونم.
- عائلة الرزة: 4,000 دونم.
- عائلة فرنسيس: 3,000 دونم.
- ورثة سليم رمضان: 3,000 دونم.
- ورثة جمال وملكي: 2,500 دونم.
- عائلة العويني: 2,500 دونم.
- عائلة فرحات والبزة: 2,500 دونم.
- عائلة الأمير شهاب: 2,400 دونم.
- أحمد الأسعد: 2,000 دونم.
- الأب شكر الله: 1,600 دونم.
- عائلة الدبكي وشمس: 1,600 دونم.
- عائلة غليمة وجبارة: 1,500 دونم.
- عائلة فرحة: 1,400 دونم.
- قرويون من ديشوم: 1,200 دونم.
- قرويون من قطيط: 1,100 دونم.
ونلاحظ هنا أن عائلة سرسك اللبنانية المنتمية للروم الأرثوذكس، كانت صاحبة النصيب الأكبر من الأراضي التي بيعت لليهود، وهو ما يؤكد علاقاتهم الوطيدة مع الكيان الصهيوني، والتي لم تزل تطل برأسها بين الحين والآخر حتى الوقت الراهن..!!
الأراضي التي باعها سوريون:
- عائلة القباني: 10,550 دونما.
- ورثة الأمير الجزائري: 5,400 دونم.
- عائلة المكاوي: 6,600 دونم.
- زعل سلوم: 6,500 دونم.
- عائلة الفضل: 6,200 دونم.
- عائلة بوسو: 4,000 دونم.
- الأميران فاعو وشامان: 800 دونم.
إضافة إلى:
- الكومت شديد/ مصري: 8,000 دونم.
- بهاني فارسي/ إيراني: 8,000 دونم.
تلك حقائق تاريخية غير قابلة للنقض، ولم يستطع أحد نكرانها أو الاعتراض عليها، وهو ما يجب أن يعرفه المخلصون لأمتهم ووطنهم العربي. وحري بنا ونحن نلمس ملفا خطيرا من ملفات التاريخ الفلسطيني الحديث أن نؤكد بأن فلسطين ليست للفلسطينيين وحدهم، ولا للعرب دون سواهم، ولا للمسلمين بنبذ غيرهم، وأن محاولات الغدر بالفلسطينيين من قبل بعض الساسة العرب لا تصيب الفلسطينيين وحدهم، بل تصيب معهم كل من يهمه أمر القدس وفلسطين؛ مسلمين ومسيحيين في الوقت نفسه..
إن التآمر على القضية الفلسطينية وتحميل الفلسطينيين اتهامات باطلة أو التخلي عنها وتركها وشعبها وحيدَين؛ جريمة لا يمحوها أسف، ولا يسعها اعتذار، ولا يحملها استغفار.. والتاريخ لا يرحم..