قرداحي والنص "الإباحي"..!!

لقد خرج جورج قرداحي عن النص، بالنظر إلى التوافقات الإقليمية، وحسابات المصالح. فما صرح به يعدّ تجاوزا كبيرا للتابوهات اللبنانية المعروفة.. إنه خروج عن كلاسيكية التعاطي اللبناني مع دول الخليج العربي؛ فقد كان النص - محل الغضب - "إباحياً"، من حيث وقوعه في دائرة الأهواء الشخصية، وتمرده على الواجب، ومخالفته للسائد، حيث لا علاقة له بالأداء السياسي المهني، فأن تفهم في السياسة شيء، وأن تتحدث فيها شيء آخر؛ فالدبلوماسية - وهي بنت السياسة - قادرة على قول الكثير بدون أن تجرح أحدا أو تستفز أحدا أو تترك ندبة على "غترة وعقال" أي أحد..!!

ويبدو أن السعودية قد اتخذت قرارها بالتوبة عن جبل التوباد العربي.. وتركته للحالمين والواهمين؛ فلم تعد راغبة في أن تظل المحفظة المنتفخة التي تتخطفها الطير كلما خمَصت بطونها، ولم يعد يغريها أن يشار لها بصفتها الدولة القوية المنقذة لاقتصادات بعض دول الإقليم؛ ذلك أنها بدأت تحس بأن ثمار ما تقدم للدول العربية تعود عليها زقوماً، لا تفاحا ولا مانجا. فها هو لبنان يعض اليد التي مدت إليه، على رأي السعوديين. وقد سبق للإعلام المصري في السنوات المنصرمة أن هاجم السعودية بشراسة، رغم عشرات المليارات التي دخلت الخزينة المصرية على شكل هبات ثمنا لانقلاب العسكر على الشرعية.

يبدو أن السعودية قد اتخذت قرارها بالتوبة عن جبل التوباد العربي.. وتركته للحالمين والواهمين؛ فلم تعد راغبة في أن تظل المحفظة المنتفخة التي تتخطفها الطير كلما خمَصت بطونها، ولم يعد يغريها أن يشار لها بصفتها الدولة القوية المنقذة لاقتصادات بعض دول الإقليم

والأحدث في المشهد القائم أن تعود رئيسة الحكومة التونسية من الرياض خاوية الوفاض، خائبة المسعى، وهو ما يؤكد بأن السعودية بخاصة وبقية دول الخليج بعامة لم تعد راغبة في مساعدة أحد. وما الاصطفاف السريع للكويت والإمارات إلى جانب السعودية إلا من باب قطع الطريق على لبنان وغيره بعدم اللجوء إليهما بعد غضب السعودية.

لقد قدمت السعودية منذ 1990 حتى 2015، حسب تقرير دولي، أكثر من 70 مليار دولار للبنان، ولم تحس الأولى بتقدير لقاء ذلك، وظل التحالف بين حزب الله والتيار الوطني الحر قائما، وهو التيار المحسوب على الرئيس ميشال عون، ويرأسه صهره جبران باسيل. وفي السياق، فقد كان باسيل نشر عدة تغريدات من مستوى "خبط عشواء" مسَّ بعضها السعودية، سنة 2019، مما أثار عاصفة من اللغط في ذلك الوقت، لكن الأمر مر دون أزمة دبلوماسية.. أما الآن فالسعودية تبحث عن ذرائع لقطع علاقتها مع لبنان، ولأنها كانت قد اتخذت القرار مسبقا، وتنتظر أي سبب؛ فقد وجدت في تصريحات قرداحي فرصة سانحة، للتعبير عن غضبها المتراكم والمكتوم، فلم تتوانَ عن تلبيس الدولة اللبنانية دور إبليس في تصدير المخدرات إلى السعودية، لتعمق الفجوة بينهما أكثر فأكثر.

وقد تبنت السعودية رسميا التسجيلات الصوتية المنسوبة لوزير خارجية لبنان عبد الله أبو حبيب، وبثت القناة السعودية الرسمية تسريبات أبو حبيب التي يتحدث فيها عن تعرض لبنان لإملاءات سعودية، وهو الأمر المرفوض - حسب قوله - كما تناول الإعلام السعودي مسألة تهريب المخدرات التي أشار إليها أبو حبيب، إذ اتهمه الإعلام السعودي بتبرير تهريب المخدرات للمملكة، وهو ما لم يقله، فقد قال بوجود مسؤولية مشتركة بين البلدين إزاء ذلك.

أتصور بأن سبب الحساسية السعودية العالية والتوتر الذي أحدثته تصريحات قرداحي هو تزامنها مع الفشل السعودي في إحداث أي اختراق في مواجهة الحوثيين، وتحفزها المسبق لتغيير سياستها في ما يتعلق بالهبات والودائع والقروض

إنني أتصور بأن سبب الحساسية السعودية العالية والتوتر الذي أحدثته تصريحات قرداحي هو تزامنها مع الفشل السعودي في إحداث أي اختراق في مواجهة الحوثيين، وتحفزها المسبق لتغيير سياستها في ما يتعلق بالهبات والودائع والقروض. والدليل على ذلك مطالبتها مؤخرا بتقليم أظافر حزب الله وإضعاف تأثيره في المشهد اللبناني شرطا مركزيا لتقديم المساعدات، وهو مطلب تعرف السعودية أن شبه مستحيل، فهو نوع من التعجيز المقصود، ونوع من رد الفعل النزق على استمرار حزب الله في لعب دور البطولة على مسرح حكواتي الضيعة الذي يعيد ذات القصة كل يوم، دون أن يمتعض منه أهله وجيرانه، وهم الأكثرية، مما يجعل بقية أهل الضيعة يصدقون بأن قصة اليوم غير قصة أمس.

وعلى الرغم من تنصل لبنان من تصريحات قرداحي واعتبارها تصريحات شخصية لا تمثل الحكومة اللبنانية، وعلى الرغم من موقف رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي من رفض الدعوة إلى جلسة للحكومة قبل تقديم وزير الإعلام جورج قرداحي استقالته؛ إلا أن السعودية لم تتراجع عن قراراتها بطرد السفير اللبناني واستدعاء السفير السعودي في لبنان، هذا بالإضافة إلى إيقاف كل الواردات اللبنانية.. وقامت البحرين والإمارات والكويت بإجراءات مشابهة، ولأن السعودية اتخذت قرارها الذي لا أظنها ستتراجع عنه بسهولة، فهي تبحث عن مبررات إضافية، وتستعرض بعض ما يمكن أن يعمق الخلاف بينها وبين لبنان ويقف عن يمينها ثلاث دول خليجية أخرى. وهنا يمكن أن نشوّه قليلا بيت شعر لجرير فنقول:

إذا غضبتْ عليك بنو سعود    حسبتَ الناس كلَّهمُ غِضابا

ويبدو أن السعودية لم تعد ترى كبير فائدة في دعم لبنان الذي تنظر له على أنه واقع تحت هيمنة حزب الله؛ لا تحت سيطرة حكومة ودولة، كما يبدو أن السعودية تحنّ لابنها البار سعد الحريري الذي تربى في أحضانها، ويفهم كيف يكون الرضوخ وأداء فروض الطاعة والولاء، بينما ميقاتي أقل قدرة على لعب هذا الدور، ولا تستطيع السعودية اعتقاله وإجباره على تقديم استقالته إن لزم الأمر..!!

في ظل تعقيدات المشهد الجيوسياسي اللبناني، وانتفاخ الذات السياسية الحزبية والطائفية واستعلاء السلاح، أن يحدث أكثر مما حدث نتيجة تصريحات جورج قرداحي

وفي الأثناء نجد حراكا لبنانيا لا يهدأ؛ فثمة وزراء يلوحون بالاستقالة في حال تعنت قرداحي. والمقصود بتعنته، كما هو واضح، عدم اعتذاره من السعودية وعدم تراجعه عن تصريحاته، ورفضه تقديم استقالته. وواضح في المنظور الحالي أن قرداحي لن يعتذر ولن يستقيل؛ فلو تراجع قرداحي عن تصريحاته؛ فإنه يقدم رأسه للمطرقة الإعلامية اللبنانية والعربية، ناهيك عن الشماتة الخليجية، وفي الوقت نفسه سترفض السعودية الاعتذار أو الاستقالة لأنها حزمت أمرها على الخروج من ربقة الاصطفاف السني الذي لم يجلب لها سوى وجع الرأس، ولم يحقق لها ما خططت له عبر سنوات من تغيرات جيوسياسية، بل زادت مكاسب المكون الشيعي على حساب السني.

من الطبيعي، في ظل تعقيدات المشهد الجيوسياسي اللبناني، وانتفاخ الذات السياسية الحزبية والطائفية واستعلاء السلاح، أن يحدث أكثر مما حدث نتيجة تصريحات جورج قرداحي، والقادم لن يكون أفضل؛ فلبنان يحتاج خَلقا جديدا..!!