هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أعادت تصريحات مفاجئة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، علاقات بلاده مع الجزائر إلى نقطة البداية، بعد أن كان قد أبدى في السنوات الماضية رغبة في معالجة ملف الذاكرة الاستعمارية الأليم.
ووردت تصريحات ماكرون في خضم لقاء جمعه مع أحفاد المهاجرين الذين ينتمون لفئات مختلفة سواء من الجزائريين الذين حاربوا الاستعمار الفرنسي أو ممن يعرفون بالحركي أي الذين اختاروا القتال مع فرنسا ضد أبناء جلدتهم أو الأقدام السوداء وهم الأوربيون الذين استوطنوا الجزائر بعد الاحتلال الفرنسي للبلاد سنة 1830.
وقوبلت هذه التصريحات التي نقلتها جريدة لوموند، باستهجان واسع في الجزائر، كون ماكرون لم يخرج فقط عن الأعراف الدبلوماسية بإطلاق أحكام حادة على النظام الجزائري الذي وصفه بـ"العسكري المتهالك"، بل تعدّى به الأمر إلى الإساءة إلى التاريخ الجزائري، عبر التشكيك في وجود الأمة الجزائرية قبل الاحتلال الفرنسي.
ووصل صدى هذه التصريحات حتى إلى تركيا التي عبّر فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم عن استيائه من هذه التصريحات التي أقحم فيها ماكرون الوجود العثماني في الجزائر ووصفه بالاحتلال أيضا، زاعما أن تركيا تلاعبت بالتاريخ وأقنعت الجزائريين بأن العثمانيين ليسوا استعمارا للبلاد، على حد وصفه.
وعلى الرغم من أن الرئيس الفرنسي، حاول التدارك عبر التعبير عن نيته في مواصلة التعاون مع الجزائر والرئيس عبد المجيد تبون، إلا أن الموقف في الجزائر بدا صارما ورافضا لأي تهدئة حتى الآن.
واتخذت السلطات الجزائرية، كما هو معلوم، فور الاطلاع على هذه التصريحات قرارا بسحب سفيرها من باريس للتشاور، ثم أتبعته بآخر أكثر رمزية يتعلق بحظر تحليق الطائرات العسكرية الفرنسية المتجهة نحو الساحل على أجوائها.
وكتبت الرئاسة الجزائرية في بيان رد غاضب، أن "جرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر لا تعد ولا تحصى"، و"تستجيب لتعريفات الإبادة الجماعية" ضد الإنسانية، وسجلت بأن "هذا التدخل المؤسف الذي يصطدم أساسًا بالمبادئ التي من شأنها أن تقود تعاونا محتملا، بين الجزائر وفرنسا، بشأن الذاكرة، قد أدى إلى الترويج لنسخة تبريرية للاستعمار".
اقرأ أيضا: ماكرون يشكك بوجود "أمة جزائرية" قبل الاستعمار الفرنسي
أزمة قد تطول
وتدخل العلاقات بين البلدين اليوم، بفعل هذه التصريحات التي وصفتها صحيفة لوموند بأنها غير مسبوقة من رئيس فرنسي، في وضع شديد التأزم، ولا تتوقف يوميا عن توليد ردود فعل قوية، كان آخرها تصريح وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة الذي وصف إفريقيا بأنها مهد الإنسانية ومقبرة الاستعمار والعنصرية، في رد ضمني على إساءة ماكرون للتاريخ الجزائري.
ورأى الصحفي والباحث في الشؤون العسكرية، أكرم خريف، أن الأزمة الحالية بين البلدين قد تطول وقد يصل مداها إلى غاية الانتخابات الرئاسية الفرنسية لسنة 2022 أو ربما أكثر.
وقال خريف في تصريح لـ"عربي21"، إن الجزائر لن تتوقف عن التفاعل مع هذه التصريحات، إلا إذا اعتذر ماكرون الذي وضع نفسه في موقف حرج، إذ لا يستطيع الاعتذار لأنه سيفقد ما جناه من أصوات اليمين واليمين المتطرف، كما أنه لا يقدر في الوقت ذاته على إبقاء علاقاته مع الجزائر في هذا الوضع.
وذكر خريف أن ما قام به الرئيس الفرنسي يعدّ مخاطرة، لأنه يعتقد أنه سيكون الحل الوحيد للجزائر في الانتخابات الرئاسية المقبلة في بلاده، في حين أن الجزائر لا أظنها –كما قال- ستتسامح معه، ليبقى الحسم في موضوع العلاقات مؤجلا إلى غاية الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة واكتشاف هوية الرئيس.
واللافت أن ماكرون في كل أحاديثه، كان يثني على الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ويصفه بالشجاع، وحتى في تصريحاته الأخيرة اعتبر أن الإشكال ليس في شخصه بل في النظام الجزائري.
اقرأ أيضا: وزير الخارجية الجزائري: تصريحات ماكرون إفلاس للذاكرة
وفي هذا السياق، تقول لويزة آيت حمادوش أستاذة العلوم السياسية بجامعة الجزائر، إن هناك عدة فرضيات يمكن أن تفسر إطلاق هذه التصريحات من الرئيس الفرنسي.
وتعتقد آيت حمادوش، في حديثها لـ"عربي21"، أن المستوى الأول للتحليل خارجي، وهو مرتبط بالعلاقات الثنائية التي بدورها انقسمت إلى علاقات بين نظامين وعلاقات بين شخصين، وتبين عدة مؤشرات، كما تقول، أن هناك تفاوتا بينهما، والتي من بينها (المؤشرات) غياب تقرير جزائري يقابل تقرير بن يامين ستورا.
أما المستوى الثاني للتحليل، وفق المتحدثة فهو داخلي، ويتعلق بالحياة السياسية الفرنسية التي تعرف منذ سنتين ظاهرتين: تصاعد التيارات المتطرفة (يمين ويسار) وانتشار الفكر اليميني. وعلى هذا الأساس، حاول الرئيس الفرنسي، أن يفرض فكرا وسطيا غير مؤدلج لكنه لا يريد بالمقابل أن يهزم، ما جعله يؤقلم خطابه مع الوعاء الانتخابي الذي يبدو مسيطرا.
وتصل آيت حمادوش في تحليلها إلى المستوى الثالث الشخصي، حيث تقول: "ينتمي ماكرون إلى نوع جديد من رجال السياسة. نخبة تكونت بدون نضال سياسي أو احتكاك مع القاعدة ومع المعارك الانتخابية والفكرية وأجهزة الأحزاب. لذلك لا يملك أية عقدة تجاه الجزائر في حديثه".
مصير ملف الذاكرة
وتُطرح اليوم في خضم هذه الأزمة، علامات استفهام حول مصير ملف الذاكرة الذي كان الرئيس الفرنسي حريصا على أن يتقدم فيه بخطوات أكبر من سابقيه.
وقبل وقت قريب، تمكنت الجزائر من استرجاع جماجم المقاومين الجزائريين، كما أطلقت الرئاسة الفرنسية بعض الإشارات مثل الاعتراف بمسؤولية الدولة في قتل المناضلين في الثورة الجزائرية موريس أودان وعلي بومنجل، دون تقديم اعتذار عن جرائم فرنسا بشكل كامل في الجزائر.
وفي حديثه لـ"عربي21"، لا يعتقد رابح لونيسي الباحث في التاريخ وأستاذ العلوم السياسية، أن تصريحات ماكرون الأخيرة تعني دفن مشروع ملف الذاكرة، إذ من الممكن جدا حسبه، أن تحدث تحولات في حالة وصوله إلى الرئاسة لعهدة ثانية.
ويشير المتحدث إلى أن ماكرون ليس من اليمين المتطرف، ويمكن أن يقنع الكثير فيما بعد بأن تصريحاته نابعة من محاولة منه لإضعاف الوعاء الانتخابي لليمين المتطرف والاصطياد فيه كي يصل إلى الرئاسة مرة ثانية، أي بتعبير آخر "موقفه تكتيكي وليس استراتيجيا".
وحول دوافع تصريحاته، يقول لونيسي إن ماكرون عند وصوله للحكم أبدى رغبة كبيرة في طي ملف الذاكرة ووجد في طريقه لوبيات تعرقله، لكنه في نفس الوقت ربط هذا الملف بتحقيق مكاسب اقتصادية واستراتيجية لصالح فرنسا في الجزائر، "وهي المصالح التي يبدو أن الجزائر أضرت بها موخرا، ما يفسر كلامه الأخير وتراجعاته حول الذاكرة".
وفي حال فاز ماكرون بعهدة ثانية، لا يستبعد الباحث في التاريخ، أن يحيي الرئيس الفرنسي من جديد مشروع الذاكرة لكن مع ربطه دائما بالمصالح الاقتصادية، ما يفرض على الجزائر –حسبه- القيام بحسابات دقيقة، لأنه في حال قبولها التنازل اقتصاديا يمكن أن تضر بمصالح الجزائر مستقبلا وتربطها أكثر بفرنسا اقتصاديا واستراتيجيا.