هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "البحث عن ديمقراطية عربية: الخطاب والخطاب المقابل"
المؤلف: الدكتور العربي صديقي
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2009
(504 صفحات من القطع الكبير)
رغم تزايد الضغط المحلي والدولي، المسلط على الأنظمة العربية، من أجل التنفيس السياسي وإفساح مجال أكبر أمام القوى السياسية والاجتماعية للنشاط العلني والحرِّ، فإنَّ السلطات العربية تؤكد، يوماً بعد يوم، أنَّها ليس لها من الاستعداد لتحقيق مطالب المعارضة الديمقراطية وتطلعات الهيئات غير الحكومية.
فعلى عكس الخطاب الرسمي العربي الخشبي، الذي يعد دوماً بإصلاحات ديمقراطية "ترفع العالم العربي إلى مصاف الدول المتقدمة"، وخلافا ً لانتظارات المراقبين والمهتمين بالشأن السياسي، والذين راهنوا على الإصلاح المدعوم أمريكياً، فإنَّ السلطات العربية، هدمت تلك الأحلام وأسقطت تلك الحسابات في الماء، ووضعت الناشطين والفاعلين في الحقل السياسي أمام واقع متأزم، وفي موقف معقد، وأحرجت العديد الذي ما يزال ينتظر إقدام الحكومات العربية على الإصلاح الديمقراطي وتحسين وضع الحريات.
وصارت الشعوب العربية بعد أن أعيتها كل دعايات الحكومات العربية والأمريكية حول الديمقراطية والمجتمع المدني والحداثة، قانعةً بما تيَّسر من أمنٍ اقتصادي محدودٍ جِدًّا فاختصرت الحرِّية السياسية وحرِّية التعبير، وحرِّية إنشاء الأحزاب السياسية المعبرة عن تطلعاتها وطموحاتها، حتى باتت الحرِّية بالنسبة إليها مجرد إتقاء لشرِّ التسلط والتعسف. والحال هذه، ناصبت السلطات العداء لكل دعوة إلى احترام حقوق الإنسان، ونصبَّتْ نفسها ممثلة للحقيقة المطلقة بصفة احتكارية تعلو على السيادة الشعبية.
فالديمقراطية هي سياسة الاعتراف بالآخر كما قال شارل تايلور، بينما استغلتها السلطات العربية لخدمة الدولة الأمنية التعسفية والقمعية التي قضت على المجال السياسي، وعلى انبعاث القناعات الديمقراطية لدى فئات الشعب. الديمقراطية مسألة مستجدة على المجتمعات العربية، بل هي وافدة برّانية. فقد اعتقدت النخب الفكرية والسياسية العربية أن الديمقراطية انتصرت بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الأنظمة الشمولية. وفضلاً عن ذلك، فإنَّ الديمقراطية هي المظهر السياسي الذي تتجلى من خلاله حداثة قائمة على اقتصاد السوق من حيث شكلها الاقتصادي، وعلى العلمانية من حيث تعبيرها الثقافي.
في كتابه القيّم، الذي يحمل العنوان التالي: "البحث عن ديمقراطية عربية: الخطاب والخطاب المقابل" الذي ترجمه مركز دراسات الوحدة العربية من الإنجليزية إلى العربية، يقدم الباحث التونسي والأستاذ في العلوم السياسية بجامعة إكستر في بريطانيا (وحاليا بجامعة الدوحة في قطر) الدكتور العربي صديقي، رؤية نقدية متميزة للديمقراطية، إذ توخى فيها خارطة ترسم الخطاب والخطاب المقابل على ثلاثة محاور متفاعلة ومتشابكة: خطاب غربي ـ غربي، خطاب غربي ـ عربي، وخطاب عربي ـ عربي.
يضم هذا الكتاب ثمانية فصول. ينشد الفصل التمهيدي والفصل الذي يليه إلى الإحاطة بقابلية التناظر حول الديمقراطية عن طريق الكشف عن العديد من تفاسيرها وتفحص كيفية نزع السمة الأسيّة عنها. ولنزع السمة الأسية ما يشبهه في الإسلام المجسم. يستعرض هذا الموضوع في الفصل الثاني. وبالنسبة للفصلين الثالث والرابع ففيهما ينتقل التحليل إلى التشكيلات النظرية للديمقراطية في الغرب والشرق. فالأبحاث حول الديمقراطية في هذين الفصلين اللذين يتناولان الطروحات الاستغرابية والاستشراقية على التوالي مناقشات مهمة لا تنطوي على مسألة الديمقراطية فحسب وإنما تشمل أيضاً موضوع الحداثة والمواجهة بين الغرب والشرق.
يعنى الفصل الثالث بفرضية أن الاستغرب مكمل للاستشراق ويرمي إلى استكشاف الصلة بين عملتي الاستشراق والاستغراب. ويستعرض الفصل الرابع المواقف الاستشراقية من العرب والإسلام في ما يتعلق بالديمقراطية.
ويطلع الفصل الخامس القارئ على الروايات العربية عن الحكم الصالح، في الماضي والحاضر، ومعظمها لصالح الديموقراطية، وإن تكن لا تخلو من معارض لها. ويبتعد الفصل السادس عن المقولة الاستشراقية المعهودة بأن النساء العربيات مجموعة مضطهدة ومكبوتة الصوت وغير فعّالة، ويثبت عكس ذلك. وهو يحلل وجهات نظر نساء إسلاميات وعلمانيات عن الديمقراطية، مع التشديد على النشاطات الإسلاميات اللواتي أجرى الباحث مع عدد منهن مقابلة لإنجاز هذا العمل.
ويجري الفصل السابع مسحاً لمدخلات الإسلاميين في مسألة الديمقراطية ويطرح مجموعة من الأسئلة المحيرة عن العوامل التي تقيّد الانتقال الديمقراطي. وهو يحلل المدى الذي يمكن أن تبلغه الادعاءات بوجود علاقة سببية نوعاً ما بين روابط الحكومات الغربية الوثيقة بالأنظمة العربية واستمرار الحكم السلطوي.
ويشدد الفصل الثامن والأخير على إمكانية بروز كيان جديد، والتواصل عبر الاختلاف، وحيّز مشترك بين الإسلامات والديمقراطية، بالانتقال من الاختبارات الثابتة والأحادية إلى المنافسات ومن النص إلى السياق.
يقول الباحث في مستهل المقدمة من الكتاب: "أتناول الديمقراطية بين دفتي هذا الكتاب على أنها غير ثابتة وغير أحادية. ومن هذا المنطلق أنسج فهماً غير ذلك الذي عوّدتنا عليه أطروحات سطحية جداً لهذه الإشكالية من خلال البُنى المعرفية والثقافية والدينية والسياسية التي تُولَدُ في حُضْنِهَا الخطابات والخطابات المقابلة للديمقراطية سواءً كان ذلك في المخيّلة والوعي العربيين ونظيريْها الغربيين. التَناظر في هذا الموضوع هو شبيه بالجدل الذي عرفه العرب والمسلمون إزاء الفلسفة وموضوعَها إزاء الإسلام كدين وفكر ونظام وهوية وقيمة" (ص 11 من المقدمة العربية).
نقد الديمقراطية الغربية
ما يميز طرح الباحث الدكتور العربي الصديقي فيما يتعلق بالديمقراطية هو النقد الراديكالي للنمط الغربي للديمقراطية بوصفه أساسا يجب على العالم كله أن يتبناه، حيث يقول: "الديمقراطية بوصفها قيمة تفتح آفاقاً كانت موصدة وراء تعنّت وتعصب النمط الفكري المعروف بـ"الأسسي" (Foundationalist) بزعمه أن الديمقراطية منظومة قابلة للتطبيق خارج منشئها الغربي، وفي هذا تحد للزمان والمكان، وكأن الديمقراطية ظاهرة طبيعية تكون وتكثر عندما تجتمع قوانين ثابتة، فكأنما الديمقراطية مطر يُثْلِجُ مَاءً تحت العوامل الطبيعية نفسها بقطع النظر عن الظرف الزماني.
إذا كانت الديمقراطية شكلت لحظة إبداع في المشروع التنويري الغربي، ودشنت فتحا معرفيا وفكريا مهماً في تاريخ البشرية، فإن الديمقراطية بوصفها قيمة أخلاقية إنسانية متحركة تظل خاضعة لنسبيات شتى كالتاريخ واللغة والدين والزمان والمكان
من هُنا، فإن الجديد في ما أطرحه هو النمط الفكري اللاأسسي (Anti-foundationalist) والذي فيه مراجعة وإعادة قراءة للنهج العقلاني التنويري الأوروبي ونزعته الاستكبارية والنرجسية. هنا ندخل لحظة شكّ وربما أيضاً إن صحّ التعبير، لحظة إلحاد معرفي بالعقلانية الغرّبية في وعي العقل الغربي الذي مات فيه الله ليتبوأ عرشَ الربانية الإنسانُ المتعقلن بلا حدود الذي ما فتئ من خلال ثورات معرفية وثقافية وصناعية يتملك الحقيقة من قناعة أنه مرجعيّة في حدّ ذاته للبشرية جمعاء" (ص 12).
المشروع التنويري الغربي بكل ما يحمله في صيرورته التاريخية من القيم التي رفعها إلى مرتبة ألهة العقلانية والديمقراطية وصل إلى مأزقه المحتوم في ظل أزمة الحداثة الغربية، والحال هذه بات على مثقفي العالم العربي بلورة ما يسميه الباحث بالفكر اللاأسسي للديمقراطية، والقيام بالمراجعة النقدية لفكرة الديمقراطية الغربية، وإسقاط صبغة القداسة عنها.
وإذا كانت الديمقراطية شكلت لحظة إبداع في المشروع التنويري الغربي، ودشنت فتحا معرفيا وفكريا مهماً في تاريخ البشرية، فإن الديمقراطية بوصفها قيمة أخلاقية إنسانية متحركة تظل خاضعة لنسبيات شتى كالتاريخ واللغة والدين والزمان والمكان.. من هنا يأتي رفض الكاتب للنمط الأحادي الذي تريد الديمقراطية الغربية فرضه على باقي العالم المختلف في ثقافاته وحضاراته عن العالم الغربي.
يقول الباحث العربي الصديقي في كتابه: "على الرغم من تزايد الكتب عن الديمقراطية في الشرق الأوسط، وهي تزيد بلا ريب من فهمنا لطبيعة عمليات التحرّر السياسي العربي ونطاقها، فإن النشاط البحثي لا يقدّم إيضاحاً وافياً كما قد يؤمّل. وربما يعود سبب ذلك إلى الاعتماد غير النقدي على تعريفات الديمقراطيّة المتمركزة حول أوروبا من جهة، وإلى انشغال كثير من المستشرقين بالدفاع، مثلاً، عن الفردانيّة والعلمانية بوصفهما شرطين مسبقين للديمقراطية من جهة أُخرى.
وفي كلتا الحالتين، هناك نقص في الاهتمام بالخصوصيّة والقرينة أو (السياق)، إذ لم يول كثير من الاهتمام لحالة النقاش الدائر حالياً حول الديمقراطية في الوطن العربي. ولا تظهر الروايات التي يقدّمها العرب أنفسهم كثيراً في المناقشات العلميّة للديموقراطية في الشرق الأوسط العربي، فغالباً ما يُدرس الإسلاميون، على سبيل المثال كأشياء مجردة، ويغيب عن البحث ازدواجيّة اللغة في الخطاب الديمقراطي في الوطن العربي، وهو أمر يعود إلى ثنائية التشكيلات السياسيّة العلمانية والإسلاميّة (ص 13).