لم تتناقل وسائل الإعلام العالمية طوابير السيارات على محطات
الوقود في الدول الغربية سوى مرة واحدة، خلال أزمة النفط إبان حرب أكتوبر عام 1973، بعد أن أجمع الوزراء العرب في منظمة أوبك على معاقبة الغرب بسبب دعمه لإسرائيل. بعدها ظهرت تحولات استراتيجية في العلاقة بين الدول العربية وإسرائيل والدول الغربية.. دخلت مصر في فلك المفاوضات ثم التطبيع، وعرف الخليج العربي نفوذا غربيا متزايدا وصل للتدخل العسكري المباشر وإقامة قواعد عسكرية.
وكانت أزمة النفط التي وصلت للمواطن الغربي أقوى رسالة للساسة هناك بأن ثمة شيئا يجب أن يتغير حتى لا يتكرر هذا المشهد مرة أخرى.
بعد أكثر من أربعة عقود يتكرر المشهد مرة أخرى في محطات البنزين في
بريطانيا، والمفارقة العجيبة أن الأزمة لا تتعلق بنقص الوقود، بل بعدم وجود من ينقله ويقود هذه الشاحنات من السائقين، ووصل الأمر لاستدعاء وحدات من الجيش للقيام بهذه المهمة. وقد حذر كثيرون من أن الآثار
الاقتصادية للخروج من الاتحاد الأوروبي ستكون باهظة الثمن، وأتصور أن هذا المشهد لن يكون النهاية بل سيكون البداية.
تشير كافة المؤشرات الاقتصادية أن الدول الغربية لا سيما أوروبا وأمريكا الشمالية؛ بحاجة ماسة للأيدي العاملة الشابة، كما تظهر أن كل رهان على إيواء المهاجرين واستيعابهم داخل المنظومة الأوروبية الحديثة هو رهان ناجح
تشير كافة المؤشرات الاقتصادية أن الدول الغربية لا سيما
أوروبا وأمريكا الشمالية؛ بحاجة ماسة للأيدي العاملة الشابة، كما تظهر أن كل رهان على إيواء المهاجرين واستيعابهم داخل المنظومة الأوروبية الحديثة هو رهان ناجح؛ بداية من تجربة ألمانيا مع اللاجئين السوريين وحتى تجربة أسكتلندا شمال بريطانيا.
وسبحان من قسّم الأرزاق ومنح أهل هذه البلاد الثروات من دون أجيال شابة كافية، ومنح بلدانا أخرى فقيرة وفرة في الأيدي العاملة، غير أن الإلحاح اليميني على خطورة المهاجرين سمم العلاقة بين أهالي هذه البلدان والوافدين الجدد.
لا يذكر كثيرون أن بريطانيا مثلا كدولة أوروبية اضطرت لعرض مغريات كثيرة على العمالة في مستعمراتها السابقة بعد أن نالت استقلالها؛ كي يأتوا ويعملوا في مصانعها بعد الحرب العالمية الثانية. حينها لم يكن أحد يتحدث عن الاندماج أو يمس المهاجرين بسوء؛ لأنهم كانوا يعلمون كم الاحتياج الشديد لهذه الخدمات التي لا يقوم بها غيرهم وتأثيرها المباشر على الاقتصاد والخدمات الأساسية. وها هو التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى وتضطر بريطانيا أن تقدم بعض المغريات لسائقي الشاحنات كي يأتوا لينقذوا الموقف. وشتان بين الزمانين والمغريات وقتها والوضع الآن فمن ذا الذي يضحي بأي عمل مستقر ليأتي لآخر غير مستقر في بريطانيا؟
مرة أخرى وتضطر بريطانيا أن تقدم بعض المغريات لسائقي الشاحنات كي يأتوا لينقذوا الموقف. وشتان بين الزمانين والمغريات وقتها والوضع الآ،ن فمن ذا الذي يضحي بأي عمل مستقر ليأتي لآخر غير مستقر في بريطانيا؟
إن هذه الأزمة كاشفة عن أمر واضح لكل متابع للأخبار الاقتصادية المحلية، وهو أن هناك عجزا حقيقيا في العمالة في الدول الأوروبية وأنها في حاجة ماسة للعمالة أكثر مما هو معلن، كما أنها تستفيد من سيل المهاجرين المتدفق حتى المهاجرين غير القانونيين بشكل يفوق استفادة هؤلاء المهاجرين منها. وإن الذي يمنع الحكومات من الإفصاح عن هذه الحقائق علانية هو الخوف من أصوات اليمين الانتخابية، بمعنى أنه يفضل كثير من الساسة مغازلة اليمينيين على مصالح البلاد الاقتصادية.
صوت العقل يقول بأن هذه الصفعة الاقتصادية والسياسة الهامة كفيلة بأن يفيق الساسة الأوروبيون الذين يمتطون صهوة اليمين المتطرف في الانتخابات للوصول للسلطة، لكن لا أعتقد أن صوت العقل له مكان وسط الصراخ المتنامي من اليمين وأشياعه، وطالما وصل الأمر بأن يطلق الإنسان النار على قدميه نكاية في عدوه فمن الصعب أن تقنعه بالتراجع.
هذا الوضع غير السليم ليس مرشحا للاستمرار بالوتيرة نفسها، فالمشكلات الاقتصادية لن تقف عند هذا الحد وستطفو على السطح مشكلات اجتماعية أخرى. فإذا انحرفت قاطرة الاقتصاد في المجتمعات الغربية، فإن التجانس الاجتماعي سيتأثر فورا في وسط يرتبط فيه الاقتصاد بكل شيء في الحياة.
twitter.com/hanybeshr