قليلة هي المقالات التي تنشرها الصحف
المصرية، وتدفعني لمزيد من التفكير، ونادرة هي تلك التي تقرن التفكير بالفرح؛ فرح أن تجد فيها صياغة دقيقة لأسئلة كانت مشوشة في ذهني، كانت مجرد ملاحظات، أو حتى مشاعر، فإذ بهذه المقالات تنير ما كان غائما، وتحدد ما كان سائبا، ملتبسا، والأهم على الإطلاق، أنها تدفع للبحث والتقصي.
عنوان المقال الذي أعرض، واشتبك معه هنا، ليس فقط جذابا صحفيا للغاية، بل يثير، مباشرة وفورا، اهتمام القارئ: "الإدارة التحجيمية.. جن" يكتم التقدم"، وقد نشره محمد رؤوف حامد، خبير صناعة الأدوية ورئيس هيئة الرقابة الدوائية السابق، في صحيفة "الشروق" (26 آب/ أغسطس الماضي).
مشغول منذ فترة بهذه الكلمة "التقدم"، أجرب مداخل عدة، محاولا تفكيك محمولاتها الثقافية والسياسية والاجماعية المتناقضة. وجاء مقال حماد ليقترح مدخلا جديدا، متعلقا بمجال لم أطرقه كثيرا، أي لم أنشغل بالبحث عنه/ فيه، أقصد العلاقة بين علم الإدارة والواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، غريب أنا عن هذا المجال.
مدخل حامد المقترح جاء مع جملته الأولى في المقال: "برغم تطور الإدارة بالاعتماد على تقنيات التواصل والمعلوماتية والذكاء الاصطناعي، إلا أن الفكر الإداري ذاته، صار يرجع بأوضاعها إلى الوراء". هنا حركة في اتجاهين متعارضين: تقدم تقني، وتراجع فكري، وهذا واقع يبدو لي غريبا، لكني سأتبين مع استطرادي في القراءة أن الكاتب يعرض بأسلوب شائق، غير مباشر، رقيق، لواقع إدارة
السياسات العامة في مصر؛ في هذه اللحظة من الزمن.
الظاهرة التي يتحدث عنها، حامد، ظاهرة "عالمية"، لها انعكاسات في مختلف بقاع العالم، بقدر اندماج هذه البقعة أو تلك بالظاهرة الأشمل: العولمة. وهو يحدد بزوغ هذه الظاهرة، محل المقال، بمقال ومحاضرة له. فأما المقال فهو: "العلماء العمال ومستقبل
الأمن القومي" (الأهرام- 30 أيلول/ سبتمبر 1992)، والمحاضرة عنوانها: "العولمة والإدارة- التأثيرات المتبادلة" في المؤتمر السنوي لكلية حقوق جامعة المنصورة (2002)، وسأحاول العثور عليهما، لأنهما تضمنا ما يقول حامد إنها "استشرافات لعواقب العولمة الحديثة على الإدارة".
تحت العنوان الفرعي "تسارع اقتلاع الانتماء" يرصد، حامد الظاهرة في بعدها "الشامل"، فيذكر أنه "مع تزايد حدة النيوليبرالية (أو الرأسمالية الشرسة) تحول العاملون في المؤسسات عابرة الجنسيات، ثم - بالتبعية- في المؤسسات المحلية (هنا وهناك)، من الانتماء إلى المؤسسة، ككيان، إلى الانتماء لـ"شخص المسئول". وعليه، تنامى "الانتماء الاتباعي" إلى السلسلة الهرمية من المسئولين، حيث على المرؤوس (في جميع المستويات) أن ينفذ ما يُملى عليه بالتفصيل، ودون نقاش. ولأن كل مسئول هو في نفس الوقت مرؤوس اتباعي لرئيسه، تحولت المؤسسات إلى اتباعية مرَضِية مفرطة، استُفحلت فيها احتكارية صناعة القرارات في اتجاه أحادي ينزل من أعلى، حيث يمتنع على الغالبية التشارك الحقيقي في فعاليات الحوار وتبادل الرأي".
هذا الحال الذي يصفه حامد، يُطلق عليه تعبير: الإدارة التفصيلية (أو ما يعرف بالـ Micromanagement)، وقد فُرضت، وتغلغلت، في بلدان ومؤسسات وشركات كثيرة، ثم يمنحه ملمحه المحلي: في هكذا أوضاع، تسارعت عجلة "اللا انتماء" في الإدارة، وتفشت سلوكيات "اربط الحمار مطرح ما يحب صاحبه"، وصارت الاتباعية تتماس مع العبودية.
وأحاول "الاشتباك" مع طرح "الإدارة التفصيلية"، هذا، فأتذكر المشاعر الملتبسة بالغضب من التدخل في التفاصيل الفنية الدقيقة، والقرارات التي تتخذ على الهواء مباشرة، حديث هاتفي في منتصف الليل، وقرار في الصباح الباكر، التالي: نفذ!
وتقودنا "التفصيلية" إلى ما يسميه حامد "غول الإدارة التحجيمية"، ويشرح: "وبحكم ما يكمن في الإدارة التفصيلية من قصور وانحراف فقد قادت إلى الأسوأ، والذي يمكن تسميته "الإدارة التحجيمية". في الإدارة التحجيمية تُفرض التوجهات والتفاصيل من أعلى، كما في الإدارة التفصيلية، ولكن مع الاستئصال العقابي للمخالفين في الحس والرؤية، وذلك بالتنكيل والإقصاء، سواء لأفراد، أو لكيانات، أو حتى لدول".
ثم يضع المقارنة المفجعة: "لم يكن للإدارة التحجيمية وجود سابق إلا في التعاملات مع العبيد، أو في السجون مع عتاة المجرمين، وإلى حد ما في بعض العداءات السياسية السلطوية. وعموما، تعتبر الإدارة التحجيمية هي الإدارة الأكثر شراسة في الانحراف عن المنهج العلمي، حيث تتمثل مخرجاتها في خليط من الانحطاط والتقليص للفرص والقدرات، والتقزيم والكتم للإمكانات، ونزع الحيوية الطبيعية من عموم المنظومات (كيانات أو أفراد)".
أعرف أني أنقل مقاطع طويلة، نسبيا، من مقال حامد، ذلك أني أجد فيه الكثير مما كان مستعصيا عليّ صياغته.. لديّ ملاحظات ومشاعر في هذا السياق، لكن كلمات حامد حددتها وطرحتها في سياق أشمل، وأدق.
وها هو يظهر دلالة "الإدارة التحجيمية" بالحديث عن نقيضها: "نتيجة لهول تطرفية الإدارة التحجيمية يكون نقيضها (أو معكوسها) معروفا بالفطرة، هو "الإدارة التمكينية"، حيث الفهم والرعاية والجماعية، في مقابل ما تقوم عليه الإدارة التحجيمية من منع، وبطش. وبينما تستهدف الإدارة التمكينية تحسين الواقع وفتح المستقبليات، فإن الإدارة التحجيمية تقود إلى تفتيت الواقع.. وتنتهي بغلق المستقبليات، سواء في ما يختص بالأفراد، أو المؤسسات، أو الدولة". ويضرب مثالا عميق الدلالة، تاريخيا: "لو كانت حرب الاستنزاف ضد العدو "الإسرائيلي" (1967- 1973) قد أُديرت بالإدارة التحجيمية لما كان من الممكن التوصل إلى ابتكار طريقة لاختراق خط بارليف".
من منظور شامل، يطرح حامد المسألة هكذا: "الإدارة التحجيمية تشغل مكانة الخادم لأهداف النيوليبرالية والتي هي أصل هذا النوع من الإدارة. الإشكالية الآن أن منهجيات الإدارة التحجيمية تتغلغل بشدة داخل العديد من البلدان، وصارت تمثل النتيجة الأكثر خطرا للعولمة الحديثة، خاصة في ما يتعلق بالانعكاسات السلبية على البيئة والمناخ والرفاه الاجتماعي والعلاقات الدولية".
ومن منظور مقارن - هكذا يسمي الفقرات الباقية من المقال، والتي أسميها: الإدارة التحجيمية في الواقع المصري، أو "الجن" الذي يحكمنا - يطرح حامد "إشكاليات تحتاج للبحث"، ويحددها في التالي: الإدارة التحجيمية قد تطرأ "عن قناعة نفسية بصلاحية الذات (السلطة)، نتيجة لعدم الدراية بالإدارة كفن وعلم، كما قد تنتج من توجهات وتحالفات شرسة لكسب مصالح ما. ولا تتعلق قدرتها على
الإنجاز الفوري بالكفاءة بقدر ما تنجم عن استخدام السلطة لأدوات القوة في صورها المختلفة، تشريعية، أو مالية، أو.. إلخ. وبينما يمكن لها تسريع الإنجاز ليتحقق في مدى زمني قصير جدا، فإن الناتج يكون عُرضة لتكلفة عالية تتداخل سلبا مع سلامة الإنجاز، والموارد، والأولويات، وكذلك الصحة طويلة المدى للأمن الوطني".
في ختام المقال يلخص، حامد، مقاربته/ مقارنته لمفاعيل الإدارة التحجيمية في الواقع (المصري) - لا يشير الكاتب أبدا لمصر، مباشرة، في مقاله، ولا للرئيس، لكن لا يخفي على القارئ الفطن أنه يفعل ذلك - وذلك بطرح ما يسميه: "مداخل تصحيحية"، فهو إذ يقول: "مهما كانت الإدارة التحجيمية ناجمة عن ثقة ذاتية عالية عند المسئولين الأعلى، فإن توابع سلسلة الحيودات التي يمكن أن تنتج عنها تكون عادة لا نهائية"، ولذلك فإن سلسلة الحيودات اللا نهائية هذه يجب أن تحفز "جميع المسئولين في مختلف المستويات على استيعاب الآليات التصحيحية لأية توجهات إدارية غير آمنة".
وينهي حامد مقاله: "إن جوهر هذه الآليات يكمن في الإنصات إلى الآخر وقبول الحوار معه. الآخر المقصود هنا، محليا، تتعدد أشكاله، فهناك النقابات، وجماعات العمل المدني، والأحزاب (على اختلافها)، فضلا عن أصوات وأقلام المفكرين وأصحاب الرأى، وأصحاب المظالم".
وألخص فهمي للمقال: المسئول الأعلى، بحسب طرح حامد، لديه ثقة ذاتية عالية، وهو يدير السياسات، العامة منها والتفصيلية، بمفهوم الإدارة التحجيمية الذي شرحه، وهذه الإدارة لها "انحرافات" لا نهائية، هي جزء "جوهري" من طبيعة تلك الإدارة، وأن ما هو ممكن في حال أن "الجن" باق ومتحكم وماضٍ في نهجه، أن "ينصت" قليلا.
هذا نهج "إصلاحي" منضبط، يتعامل مع الواقع وممكناته، لكن أخطر ما فيه أنه يقع في أسر "النصح سرا"، والإشارة "الرقيقة"، و"التحذير" الهامس. وفي ظني أن "الجن" يكره، أكثر ما يكره، هذا الأسلوب "العلمي". هذا ظني، أقولها ثانية، وأعتبر ما قدمته هنا مقدمة للتفكير تفصيليا في ما تضمنه المقال من إشارات إلى: عدم الدراية (السلطة) بالإدارة كفن وعلم، والتوجهات والتحالفات الشرسة لكسب مصالح ما، واستخدامها (السلطة) لأدوات القوة في صورها المختلفة، تشريعية، أو مالية، وسلامة الإنجاز، والموارد، والأولويات، والصحة طويلة المدى للأمن الوطني.