تقارير

مطلق عبد الخالق.. شاعر ومثقف عضوي ومناضل ضد الاحتلال

مطلق عبد الخالق.. عاش ربع قرن كرسها لترسيخ هوية فلسطين العربية والإسلامية
مطلق عبد الخالق.. عاش ربع قرن كرسها لترسيخ هوية فلسطين العربية والإسلامية

شاعر شاب وصحفي حمل همّ شعبه وقضاياه على كاهله، ولم يترك ساحات الدفاع عن شعبه ضد الاحتلال والاستيطان، حتى أرّق العدو فدبروا له موتاً في ليل عند سكة قطار. فأصبح رمزاً من رموز الشباب الشعراء، إلا أنه لم يحظ بالاهتمام الكبير بسبب ضخامة الأحداث في تلك المرحلة.

كان مطلق عبد الخالق، زين الشباب، كأبي القاسم الشابي في تونس، أو غارسيا لوركا في إسبانيا، صغير السن ومثقفاً ومؤثراً في شعبه، لم يعش أكثر من 27 عاماً، حقق فيها الكثير في طريق مقاومة الاحتلال، خصوصاً في فترة الاحتقان التي سبقت الثورة العربية عام 1936.

في الوقت الذي كان الشعر العربي ينطلق انطلاقته الحديثة، مبتعداً عن المحسنات البديعية كالتقليد والتشطير والتربيع والتخميس ومعارضة القصائد الكبيرة، إلى قصائد تنطلق شكلاً ومضموناً من ذات الشعراء، كانت المنطقة تشهد الاحتلال العسكري البريطاني للمنطقة العربية. فانسلخ عن تقليد الآخر إلى تجسيد مشاعر الذات، فوجد المشاعر تفيض بالوطنية والانتماء والمقاومة ورفض الاحتلال.. وهذا ما يفسر تأخر التيار الرومانطيكي في فلسطين عن غيره، بحيث اهتم الشعراء بالشعر الوطني والشعبي.

في هذا الوقت اتصل الشعر بالجماهير اتصالاً وثيقاً، فكان الشعراء من أبرز قادة الحركة الوطنية الفلسطينية، حتى أنهم قدموا عدة شهداء، منهم: عوض ونوح إبراهيم في الشعر الشعبي، وعبد الرحيم محمود وشاعرنا في هذه الحلقة مطلق عبد الخالق.

كما شهدت هذه المرحلة صعوداً للصحافة الوطنية الفلسطينية، والعمل القانوني للمحامين الفلسطينيين، فكان شاعرنا مشتَرَكاً في مجالات النضال الثلاثة، فضلاً عن النضال السري الذي بقي طيّ الكتمان، وربما هو كان أحد الأسباب الأساسية في اغتياله.

فمن هو شاعرنا؟

ولد مطلق عبد الخالق في مدينة الناصرة عام 1910، وفيها أنهى دراسته الابتدائية، ثم التحق بكلية روضة المعارف في القدس، فنال الشهادة الثانوية، سافر بعد تخرجه إلى مدينة حيفا حيث عمل في التدريس والصحافة، فأصدر مجلة كشفية باسم "كشافة الصحراء" وشاركه فيها المرحوم عاطف نور الله. ثم عمل محرراً في صحيفة "اليرموك" عام 1924 لصاحبها كمال عباس. 

ثم عمل محرراً في صحيفة "النفير" لصاحبها إيليّا زكّا في حيفا. ثم عمل محرراً ومراسلاً لصحيفة "الدفاع" لصاحبها إبراهيم الشنطي في يافا. كما عمل سكرتيراً لصحيفة "الصراط المستقيم" لصاحبها الشيخ عبد الله القلقيلي في يافا. كما عمل موظفاً في البنك العربي في حيفا، وكان من مؤسسي رابطة الشبيبة العربية في حيفا ورئيسها.

قَرَض الشعر منذ كان طالباً في الثانوية، ونشر أشعاره في الصحف والمجلات الفلسطينية، كما أقام أمسيات شعرية في النوادي والجمعيات الفلسطينية، ألقى فيها بعضاً من أشعاره. ولمَع نجمُه في هذا المجال فتبوّأ مكانةً رفيعة بين معاصريه من الشعراء.

وكما ورد في معجم البابطين فإن "أكثر شعره في الموضوع الوطني، إذ استحوذت عليه قضيته الأساسية القضية الفلسطينية، فرصد ما واكبها من أحداث وما واجهته من تحديات، ملاحقًا تحولاتها المتسارعة، تسري في شعره نزعة وجدانية مع ميل إلى التأمل والتحليل لمعاني الحياة والعواطف الإنسانية. لغته سلسة عذبة موحية، ومعانيه قليلة، وخياله متوازن لا إسراف فيه".
 
كان انتظار الموت واضحاً في شعره، وكان زهده في الحياة أكثر وضوحاً. وقد توفي شاعرنا في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1937، حينما كان في طريقه إلى منزل المحامي وديع البستاني في حيفا، سعياً وراء الإفراج عن عشرات المعتقلين العرب في معتقل المزرعة في عكا. وحسب الرواية الرسمية، أنه حينما حاول السائق اجتياز سكة الحديد لدخول منزل البستاني اصطدم بقطار يافا عند منعطف هناك، فتحطمت السيارة وأصيب مطلق بجراح بالغة، نُقل إلى المستشفى الحكومي في حيفا حيث فاضت روحه. وقد شكك الكثيرون في هذا الموت، غير شاكّين أنه اغتيال مدبّر لمناضل فلسطيني مؤثر في الشباب أثناء ثورة 1936 ـ 1939.

وفي اليوم الثاني نُقل جثمانه إلى الناصرة حيث تمّ دفنه هناك، وكانت جنازته حافلة شارك فيها آلاف الفلسطينيين والأدباء والشعراء والسياسيين الفلسطينيين، ونعت الإذاعة الفلسطينية "زين الشباب" بما يستحق من نعي يفيض حزناً ونصوصاً أدبية وفنية.

من مؤلفاته:

"ضجعة الموت"، شعر، 1936، "الرحيل"، شعر، جمعه شقيقه صبحي عبد الخالق بعد موته، 1938، "خواطر وآلام"، كتاب ضخم للشاعر اشتمل على مقالات أدبية وتأملات جُمعت بعد وفاته.

مع شعره تظهر روحه القريبة من الموت في كثير من قصائده، ومنها:

أوثر الموت أثرةً لا تُجـــــارى  ..   وأرى في الحيــاةِ داءً وبيـــــــــلا
أطلب الموت وهو ينفر مني  ..   يا لتَعسي هل أطلب المستحيلا

وعلى شاكلتها:

تموت الحياة ويفنى العمر     ..     ونحن إلى الموت نمضي زُمَرْ
ونرتدّ في حفرةٍ ما لهـــــا     ..      قرارٌ ونغدو بها كالحـــــــــــفر
ونضحي غذاءً لدودِ الثرى     ..      وسخريةً للقضا والقــــــــــدر

يتلهف شاعرنا على وطنه الذي تفرقت كلمة زعمائه وتلهّوا بمصالحهم ونزواتهم، وتركوا الوطن والشعب، فيقول في قصيدته "يوم الهوان":

لهفي على وطنٍ تنازعَ أهـــــلَهُ       ..       عبثُ الرؤوسِ وضيعةُ الأذنابِ
الضغنُ والشحناءُ بعضُ خطوبِهِ       ..       ومصارعُ الأخلاقِ والآدابِ
وتبلبُلُ الرأيِ الشتيتِ وعِــــــزَّةٌ       ..       موؤودةٌ وتناحرُ الأحزابِ
وتواكلٌ في الحادثاتِ وذلَّـــــــةٌ       ..        وفتورُ أَشياخٍ ونومُ شبابِ
وتزلُّفٌ، أوما رأيتَ سُراتنـــــــــا        ..       هاماتُهم تمشي على الأعتابِ
الشعبُ في دمِهِ يخوضُ، خوضُهُم  ..     يا ويحهُم في الشاي والأكوابِ

وهو حين يؤكد أن فلسطين لن تضيع في قصيدته "فلسطين الشهيدة"، يبدو كأنه يحذر من تآمر الأعداء عليها ليسرقوها:

فلسطينُ الشهيدة لن تضيعا   ..    ألم تُصبَغْ مرابعُها نجيعا؟ 
ألم يسقطْ بها قتلى وجرحى   ..    ألم تستقبلِ الخطب المرُوعا؟ 
دعتْ أبناءها للموت جمعاً      ..     فلبّى الجمع دعوتَها سريعاً 
وبُدّلَتِ الربوعُ بها دماءً         ..     وبُدِّلت الدماء بها ربوعاً 
وأضحت كيفما قلّبتَ طرفاً    ..     ترى في كلّ ناحيةٍ صريعاً 
وخرَّتْ صخرةُ الأقصى خشوعاً  ..     ومهْد يسوع مما شام رِيعا 
مآسٍ ما رأى الدهر شبيهاً      ..      لها مما عرفنا أو قريعاً 

يزخر شعره بالقصائد الوجدانية والتأملية، ونكتفي بهذا القدر لنقول: إن شاعراً مثل مطلق عبد الكريم، لو كان في بلاد لا يكثر فيها الموت كفلسطين، لجرى إبرازه وتقديمه، ولكن مطلق عبد الخالق "شاعر أغفله التاريخ" كما عنوَنَ الدكتور صلاح محاجنة كتابه عنه في الذكرى المئوية لميلاد الشاعر.

 

 

 



التعليقات (0)