في نتائج غير مسبوقة، تراجع حزب
العدالة والتنمية المغربي من حيازة 125 مقعدا في
الانتخابات التشريعية الماضية إلى 12 مقعدا في الانتخابات الأخيرة.
فحزب العدالة والتنمية الذي لمع نجمه بعد الثورات العربية واعتبر البعض أنه ينازع الملك في سلطانه؛ تقهقر عبر صناديق الاقتراع بطريقة لم يتوقعها أشد خصومه. فحتى أمين عام الحزب وأحد أهم منظّريه، سعد الدين العثماني، لم ينجح في العودة للبرلمان!
ففي مشهد تكرر في عدة دول، يتقدم الإسلاميون بخطة انتخابية نحو السلطة إلا أنهم سرعان ما يتراجعون بعد مدة قصيرة لأسباب متعددة. ففي المغرب حيث النظام الملكي؛ لم يستطع الحزب في العقد الذي حكم فيه أن يغير من الواقع شيئا يذكر، وكذلك في تونس حيث انتهى المطاف بالإطاحة بحزب النهضة عن طريق انقلاب ناعم لم يلق معارضة شعبية عريضة، وهو ما جعل النهضة تقف مكتوفة الأيدي أمام مشهد الانقلاب عليها برضى شعبي.
إن المراجع لمسار الحركات الإسلامية سيجد أن أبرز ما ميزها كان معارضتها للسلطة والتسلط والفساد والاستبداد، ووقوفها بصدر عار إلى جانب الشعوب الإسلامية في مطالبها في وجه الدكتاتورية والاستعمارية، إضافة طبعا لتمثيلها نسيج المنطقة الثقافي والتاريخي. إلا أنه وبعد الانتقال للسلطة والحكم لم تستطع هذه الحركات أن تنسج معادلة تستطيع من خلالها الحفاظ على مكانتها بين الناس. فاصطدمت بواقع الدولة المهترئ من الداخل والمتحكم به من قبل مجموعات مترابطة خبيرة يصعب فكها عن بنية الدولة نفسها، ناهيك عن الدعم الدولي والإقليمي الذي تتمتع فيه هذه المجموعات الحاكمة.
في المقابل، وكما يقول أحد أعلام الحركة الإسلامية، المرحوم فتحي يكن، عن تجربة الحركة في لبنان، فإنه بعد الوصول للبرلمان سنة 1992 لاحظ صعوبة المهمة فنصح بعدم الترشح للانتخابات التالية، وبإعادة ترتيب الصف الداخلي للحركة وإعادة دراسة الأهداف المرحلية والوسائل الناجعة، كما تمنّع عن الترشح سنة 1996، إلا أن مرض السلطة للسطة كان قد تسرب للحركة حسب تعبير يكن، فاندفعت للترشح بغير رؤية واضحة للأهداف أو التحالفات، وهو ما أفقدها مكانتها في الواقع اللبناني حتى اليوم.
أما في المغرب ومن قبلها تونس فالأمر لا يختلف كثيرا، فعندما وجدت الحركة الإسلامية أن المكوث في السلطة لم يؤد لتغيير الواقع، لم تستنتج أنه من الأجدى الخروج منها والمراجعة السريعة بهدف التحضير للوصول الفاعل بدلا من الوصول للوصول، وهو ما تتحمل نتائجه اليوم وما يتضح مما آل إليه واقعها الانتخابي مؤخرا وفي عدة بلدان.
على المقلب الآخر، كانت الحركة الإسلامية تمثل صلة الوصل بين أحلام الشعوب الإسلامية وعلى رأسها حلم تحرير فلسطين، ولكن الحركة في المغرب أنزلت القضية الأبرز في حياة
الإسلاميين من حيّز المبدأ إلى بازار التفاوض، وهو ما أفقد الحركة نواتها المبدئية الصلبة وحوّلها إلى حزب يمكن أن يتخلى عن كل شيء في لحظة ما.
إن الملفت أكثر هو ردة فعل الإسلاميين على خسارة العدالة والتنمية في المغرب. فمن المفترض أن يشكل الإسلاميون نواة الحزب الصلبة ودعامتها الشعبية الأبرز، إلا أن ردة الفعل أتت بارتياح الإسلاميين لهذه الخسارة حينا والشماتة أحيانا، وهذا يلخص عمق أزمة هذه الحركة؛ هذه الحركة التي أوصلت تصرفاتها أنصارها المخلصين إلى الشعور بسعادة الهزيمة علّها تكون دافعا للحركة نحو الوعي بمشاكلها الجوهرية العميقة ومحفزا لها نحو التغيير.
إن الحركة الإسلامية قد تلقت دروسا لا تحصى في الأعوام الأخيرة؛ لو استطاعت أن تستفيد منها لفلحت وأفلحت ونهضت وأنهضت. إن على رأس هذه الدروس أن الجماهير لا تمشي وراء السراب، بل تمشي وراء صلب المبدأ، والمساس بهذا المبدأ هو بداية الانحسار. إن التصالح مع الأنظمة القائمة بدعوى الواقعية السياسية يؤدي حتما لفقدان الحركة لجوهر تأسيسها، وعليه يصبح لزاما عليها تعلم فن التراجع وفن توقيت التقدم والمواجهة، وإن الذوبان في السلطة الفاسدة لا يغفره الشعب ويستطع قراءته جيدا بل والمحاسبة عليه أيضا.
إن الحركة لم تمتلك فن العلاقات الخارجية ولا رضى السلطان ولا وفرة المال، بل امتلكت قلوب الجماهير المتعطشة للتغيير. وعليه، فإن فقدان هذه القوة هو فقدان كل شيء بالنسبة للحركة، والمراجعة السريعة هي الحل الوحيد، وإلا..