لم يعالج لبنان مشكلة الكهرباء على مر السنين بطريقة تجعل توفّرها مستداما وبشكل آمن. على العكس من ذلك، دأب على استيراد الفيول لتشغيل مصانع لا تستطيع توفير الكهرباء للمواطنين لـ24 ساعة يوميا، فكانت مولدات الأحياء هي البديل المكلف للدولة والمواطن. إن فشل سياسات الدولة في المجالات كافة عموما، وفي مجال الطاقة خصوصا، كبّد بلدا "ميكروسكوبيا" بحجم لبنان خسائر بالمليارات، ليتربع دين الكهرباء على عرش ديون لبنان، فيستحوذ على نصفها بما يفوق 40 مليار دولار. على المقلب الآخر، فشلت الدولة في وضع سياسة مناسبة لدعم مواد المعيشة الأساسية، فكانت تدعم سيارة الغني وطعامه بالقدر نفسه الذي تدعم به طعام الفقير وتنقلاته. إضافة إلى ذلك، فإنها فشلت في تأمين نقل عام، يجعل المواطن يستغني عن سيارته.
في المحصلة، فشلت الحكومات المتعاقبة في وضع أسس بناء دولة حقيقية في لبنان، للحد الذي أغرقت الديون البلد فأدت بالعملة إلى الانهيار. إن النظام اللبناني، الذي بُني على الرشوة والمحاصصة والدين، ساهم في انتقال هذه الثقافة إلى غالبية فئات المجتمع في ظل غياب قانون محاسبة، وفي ظل التغطية السياسية للفاسدين تحت مظلة الحسبة الانتخابية.
بعد انهيار العملة وفقدان السيطرة السياسية، شح الدواء فبرزت ثقافة الاحتكار والتهريب إلى الخارج لدى التاجر الكبير كما الصغير، وهو ما يظهر في انتشار الأدوية المدعومة من لبنان في البلدان المجاورة، كما تظهر أيضا في المستودعات التي صادرتها وزارة الصحة منذ بضعة أيام.
إن هذه الأدوية كانت ستخدم شريحة كبيرة من المواطنين وتساهم في التخفيف من أوجاعها المزمنة، كما أنها كانت ستوفر على الدولة تسرب العملة الصعبة؛ نظرا للإقبال اللبناني الكبير على شراء الدواء من الخارج وبالعملة الصعبة لاحتكاره في الداخل.
هنا يبرز سؤال التوقيت، فإنه ليس من الصعب على الوزارات اللبنانية مراقبة الدواء ومنع احتكاره وتهريبه للخارج أو الضرب على يد ما أصبحت تعرف بمافيا الدواء، ولكنه الغطاء السياسي. فالمعادلة اللبنانية بسيطة ولكنها فجة، فالأحزاب المشكّلة للسلطة بفروعها كافة بما فيها الأمنية، تمنع قيام دولة حقيقية، وتحوّل الدولة إلى مجرد هيكل هش لا يستطيع إدارة نفسه، بل يديره قيادات الأحزاب من خارجه، وهو ما يجعل الدولة أداة سياسية لا أكثر ويمنعها من القيام بأدنى مهامها. بعد فهم هذه المعادلة، يستطيع أن يفهم المتابع للأحداث اللبنانية لِمَ لا يتم ضبط الحدود من التهريب، ولم لا يوقف الاحتكار بشكل سريع أو يمنع ابتداء.
عندما نتكلم عن التهريب والاحتكار، فإننا لا نتكلم عن أرقام ثانوية لا تؤثر على الاقتصاد والعملة اللبنانية بل العكس؛ إنه على الرغم من غياب الأرقام الدقيقة، فإن الدراسة التي أجرتها "الدولية للمعلومات" قدرت حجم تهريب الفيول إلى سوريا بحوالي 235 مليون دولار سنويا. هذا الرقم كان بعد دراسة أعدت لحدود السنة الماضية، إلا أن الأزمة اللبنانية تفاقمت في سنة 2021 بشكل فاقع، وهو ما أوضحه حاكم مصرف لبنان في مقابلته الأخيرة. فالمطّلع على أرقام السنة الماضية سيكتشف أن لبنان قد أنفق حولي ثلاثة مليار دولار لاستيراد المشتقات النفطية للسنة كاملة، إلا أنه قد أنفق الشهر الماضي فقط، بحسب سلامة، 800 مليون دولار على واردات الوقود!! ليس هذا فحسب، بل لم تستطع هذه الكمية، التي تفوق مصاريف أربعة أشهر من السنة الماضية، أن توفر الحد الأدنى من إنتاج الكهرباء للمواطنين، بل وتعمقت الأزمة لتصل إلى عدم توفر المازوت للمولدات البديلة عن كهرباء الدولة، التي وصل انقطاعها إلى حدود 22 ساعة يوميا في كثير من المدن اللبنانية، ناهيك عن الأحياء الشعبية المهمشة أساسا!!
هذا الإنفاق الجنوني وغير المضبوط على الوقود في لبنان، الذي لم يصل إلا فتاته لسكان البلد، وصلت غالبيته لجيوب المحتكرين والمهربين الذين تتضاعف أرباحهم كلما انهارت العملة اللبنانية أكثر فأكثر، مع استمرار الدعم "الأعمى" واستمرار التغطية السياسية للمافيات المختلفة.
إن مشكلة لبنان ليست ندرة الحلول العلمية التي برع اللبنانيون في تقديمها في مختلف المجالات، والتي تجلت في خطة حكومة حسان دياب الأولى التي لم توضع موضع التنفيذ. بل المشكلة تكمن في تحكم طبقة سياسية بارعة بخناق القرار اللبناني، وهي التي لا تحكم خطتها مصلحة المواطن بل مصلحتها الشخصية لا أكثر، وهو ما تجلى في رفض الخطة الاقتصادية العلمية التي تقدمت بها ابتداء حكومة حسان دياب، والتي توزع الخسائر بطريقة عادلة، واستبدالها بخطة أخرى تنجّي "الرؤوس الكبيرة" وتحوّل الخسائر للمواطن الفقير.
إن مشكلة لبنان إذن، هي مشكلة سياسية بالدرجة الأولى، وكل محاولة فهم لها بالطرق الاقتصادية البحتة ستصطدم بحائط المتحكم السياسي. وعليه، فإن التغيير الحقيقي في لبنان ينطلق من السياسي لينحسب على الاقتصادي والنقدي، وإلا فإن محاولات الإصلاح الاقتصادي اللبناني، لن تكون سوى الإصرار على ملء خزان مليء بالثقوب.