هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: اغتصاب العقل : سيكولوجيا التحكم في الفكر، وتشويه العقل، وغسل الدماغ
الكاتب: د.جوست إبراهام ماوريتز ميرلو، ترجمة أدهم وهيب مطر
الناشر: دار تموز-ديموزي للطباعة و النشر و التوزيع، دمشق، 2020.
(454 صفحة من القطع الكبير).
الانهيار المصطنع والاستسلام
من خلال اللعب على الطفل اللاعقلاني الكاذب في اللاوعي، وعن طريق شحذ الصراع الداخلي بين العقل والعاطفة، يمكن للباحث أن يجلب ضحاياه إلى الاستسلام والمدقع. كما أن جميع ضحايا التشويه العقلي المتعمد ـ كأسرى الحرب في كوريا، و"الخونة" المسجونين لدى الأنظمة الديكتاتورية لدول الستار الحديدي، وضحايا الإرهاب النازي خلال الحرب العالمية الثانية ـ هم أناس كانوا يعيشون حياتهم بطرق محددة، ولكنَّهم، تغيروا فجأة، وبشكل كبير. فقط تم تفريقهم من منازلهم وعائلاتهم ومن بين الأصدقاء، ومن ثم تم رميهم في جو غير طبيعي، ومخيف.
ولذلك، فقط جعلهم ذلك غرباء في محيطهم، وأكثر عرضة لأي هجوم على قيمهم ومواقفهم. وعندما يستغل الديكتاتور حاجات ضحاياه النفسية في عالم يتسم بالتهديد والعداء، وغير مألوف، فإنَّه من المؤكد تقريبا أن يحدث الانهيار.
يمكن بالفعل، خلال الحرب العالمية الأولى، تمييز ردود أفعال ذهنية غريبة، ومخلوطة من اللامبالاة، والغضب، لدى أسرة الحرب، وذلك كتكيف دفاعي ضد المصاعب في حياة السجن، والملل، والجوع، وانعدام الخصوصية، وانعدام الأمن المستمر. وقد أضافت الحرب الكورية إلى هذا الوضع، القسوة الأكبر لدى العدو، والخوف المطول من الموت، وسوء التغذية، والأمراض، والهجمات المنهجية على عقل السجين، ونقص الصرف الصحي، وافتقار الجميع إلى الكرامة الإنسانية.
وفي كثير من الأحيان، يمكن ضمان التحسن من خلال قبول الإيديولوجية الشمولية، حيث لم يؤد الضغط النفسي إلى التورط مع العدو فحسب، بل إلى التسبب في الشك المتبادل بين السجناء انفسهم.
يقول الكاتب جوست إبراهام: "كما وصفت بالفعل، يبدأ مرضُ الأسلاك الشائكة بلا مبالاة، واليأسُ الأوليان لدى جميع السجناء، فهناك استسلام سلبي للقدر. وفي الواقع يمكن أن يموت الناس من هذا اليأس كما يبدو الأمر كما لو أنَّ كل المقاومة قد تلاشت. كما كان أي شيء ما عدا الانحناء واللامبالاة يشكل خطرا في المخيم الذي أراد العدو مناقشته والجدل معه من أجل هدم المقاومة العقلية.
ونتيجة لذلك، تم بناء دائرة شريرة من اللامبالاة وليس التفكير وترك الأمور تذهب استسلاما لوجود كامل، يعتمد على عقلية الميت الحي ومن الاعتماد الميكانيكي على الظروف.
كما أنَّ كل عداء للغضب واليقظة يمكن أن يعاقب بوحشية من قبل العدو، ولهذا لم نجد تلك الهجمات المفاجئة للغضب، كالتي لوحظت في معسكرات أسرى الحرب السابقة في أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية"(ص 106).
كانت نتائج الاختبارات النفسية للجنود المحررين من الأسر من السجون الكورية، يمكن أن تشير في المعسكرات إلى أنَّ هذه اللامبالاة الدفاعية والتراجع إلى تبعية منعزلة للطفولة، من المرجح أن يتم العثور عليها في جميع هذه الحالات تقريبا. ولكنْ مع ذلك، وبعد العودة من البيئة الطبيعية، عادت اليقظة والنشاط في وقت قريب، خلال يومين أو ثلاثة أيام. أما أولئك القلائل الذين بقوا قلقين ولا مبالين ومثلهم مثل الأموات الأحياء، فقد كانوا ممن تعرض للاضطهاد الشديد على يد تلك العصابات.
ولكنْ، ما هي العوامل التي يُمكن أنْ تُحوِّلَ الرجل إلى خائنٍ لقناعاته، أو إلى مُخبرٍ أو مذنبٍ في جرائم بشعة، أو متعاون ظاهري؟
لقد تحدث العديد من ضحايا محاكم التفتيش النازية بأنَّ لحظة الاستسلام قد حدثت فجأة وضد إرادتهم. وذلك بعد أن أخضعوا لعدة أيام لغضب المحققين ومن ثم فجأة انشقوا. ويحدث هذا الاستسلام المفاجئ غالبا بعد اتهام غير متوقع أو التعرض لصدمة وإذلال مؤذ بشكل خاص أو شديد أو التعرض للحرق، فيعتقد السجناء في أنفسهم بأنهم أقوياء، ولكن من أعماقهم تبدأ الرغبة في الاستسلام والامتثال.
تحتوي مفردات علم النفس النفسي على العديد من المصطلحات المعقدة من أجل الرغبة في الخضوع للضغوط النفسية، مثل (الرغبة في التراجع ـ الحاجة إلى التبعية ـ المازوشية العقلية ـ رغبة الموت اللاواعية) وغيرها الكثير.
يحاول المحقق على الدوام إضعاف الغرور لدى سجينه، وعلى الرغم من استخدام التعذيب الجسدي في الأساس كالجوع والبرد واللذين لا يزالان فعالين للغاية كأدوات تعذيب قسري، فقد يؤدي التعذيب الجسدي في الكثير من الأحيان إلى زيادة عناد المتهم. كما أن توقعهم لأساليب التعذيب الوحشي الذي قد يتعرضون له، سوف يؤدي بسهولة أكبر إلى انهيارهم، وذلك عندما يحتاج العدو إلى إضعافهم (في بعض الأحيان قد يجد محقق العدو السادي بالطبع متعة فردية خاصة في التعذيب).
كما ويشمل التعذيب الكثير من الأدوات والأجهزة العديدة التي يستخدمها العدو؛ كاقتراح التخويف والإقناع الدرامي والاقتراح الجماعي، والإذلال والإحراج والشعور بالوحدة والعزلة، والاستمرار في الاستجواب وإثارة العبث بالعقل غير المستقر، وإثارة المزيد من الشفقة على الذات، ولذلك فإن الصبر والوقت يساعدان المحقق لتليين روح المتهم العنيدة.
وكما هو الحال في العديد من الأديان القديمة، فقد كان الضحايا يتواضعون ويتذللون الاستعداد للدخول في الدين الجديد (الشمولية)، ولذلك كما في هذه الحالة يكونون مستعدين لقبول الأيديولوجية الشمولية. وفي هذه المرحلة وانطلاقا من كونها مجرد انتهازية فكرية، فقد يستسلم الضحية وبوعي. وقد تحدث لحظة الاستسلام فجأة، حيث يبدو الأمر لو أن القابلية السلبية العنيدة السابقة في بدايات التوقيف قد تغيرت وبشكل حاسم إلى استسلام، ومن ثم إلى الاندماج، وهو ما يسميه المحقق بالإضاءة الداخلية المفاجئة، والتحول الانعكاسي الكلي للاستراتيجية الداخلية في الضحية.
الحرب الباردة والأنظمة الشمولية
حتى هذه اللحظة، لم نتعرّف إلا على شكلين أصيلين من التسلط التوتاليتاري (الشمولي)، ديكتاتورية الحزب الوطني ـ الاشتراكي في ألمانيا لما بعد العام 1938، وديكتاتورية البولشفية القائمة منذ العام 1930، على أنَّ شكلي التسلط هذين يختلفان بصورة أساسية عن كل أنواع الأنظمة الديكتاتورية الأخرى، أكانت استبدادية أو طغيانية. وأيّا كان رابط البنُوة الذي يشدها إلى ديكتاتوريات الحزب، فإنَّ سماتها، بما تنطوي عليه من أمور توتاليتارية في الجوهر، جديدة ولا يسعها أن تُنسب إلى أنظمة الحزب الأوحد، ذلك أن هدف الأنظمة ذات الحزب الأوحد لا يقتصر على الاستيلاء على السلطة فحسب: بل يتعداه إلى استكمال التمثل التام ما بين الدولة والحزب، وذلك بتعيين أعضاء من الحزب في كل مراكز الدولة، بحيث يصير الحزب، بعد تولي السلطة، نوعا من هيئة تهتم بإطلاق الدعاية لصالح الحكم.
والحق أنَّ كل أنواع الحكم الاستبدادية إنما تستند إلى أجهزة الاستخبارات السرية، إذ تشعر بأنها عرضة للتهديد من قبل شعوبها بالذات، أكثر من أي شعب آخر... ومع ذلك فإن الشرطة السرية وتشكيلات النخبة، إبان الحقبات الأولى من النظام التوتاليتاري، لبثت تؤدي دورا شبيها بالذي كانت تؤديه في ظل أشكال أخرى من الديكتاتورية. أما القساوة الفظيعة التي تميزت بها أساليبها، فلا يجد لها المرء نظيرا إلا في تاريخ دول الغرب العصرية... وحالما انتهت إبادة الأعداء الواقعيين (من قبل الحكم التوتاليتاري بالطبع) وشُرع بمطاردة "الأعداء الموضوعيين"، بات الإرهاب "وحده جوهر الأنظمة التوتاليتارية الواقعي".
يقول الكاتب جوست إبراهام: "وهكذا، فإنَّ كل ثقافة مؤسسية لأشكال معينة من السلوك ستعمل على التواصل وتشجيع بعض أشكال التفكير والتصرف، وبالتالي تشكيل شخصية مواطنيها. ولدرجة أنَّ الفرد قد أصبح موضوعا للتلاعب الذهني المستمر، ولدرجة أنَّ المؤسسات الثقافية قد تميل إلى إضعاف القوة الفكرية والروحية، ولدرجة أن معرفة العقل تستخدم لترويض الناس وظروفهم بدلا من تثقيفهم، ولدرجة أنَّ الثقافة نفسها تنتج الرجال والنساء الذين يميلون إلى قبول أسلوب الحياة الاستبدادية. وبالتالي يمكن للرجل الذي ليس لديه عقل مستقل خاص به، أن يصبح وبسهولة بيدقا من بيادق ديكتاتور محتمل. كما أنَّه ومن المثير للقلق في كثير من الأحيان، أن نرى كيف أنه -وحتى الناس الأذكياء-، ليس لديهم عقول مستقيمةُ التفكير الخاص بهم" (ص 137).
لقد ظهر مصطلح توتاليتارية Totalitarisme للوجود في مقال نشره الفيلسوف الإيطالي جيوفاني جنتيلي ـ 1875 (Giovanni Gentile) بالإنكليزية عام 1928 بعنوان "الأسس الفلسفية للفاشية"، استعمل صفة Totalitarian بمعنى الإحاطة والشمول واحتواء كل شيء، في وصفه للنظام الفاشي. ومنذ نهاية الثلاثينيات، شاع استخدام المصطلح وأصبح يطلق على الدولة الشمولية، التي تكون السلطة فيها جامعة، حيث يمتلك رئيس الدولة في يديه كل السلطات.
في العالم العربي والإسلامي، سادت الدولة السلطانية مطلقة السلطات، التي تعتبر حقوق رعاياها هبات وأعطيات ومنحا تتكرم بها السلطة على رعاياها. وكانت هذه الدولة التقليدية تمارس سلطتها الاستبدادية بدرجة عالية.
والدولة الشمولية تعمل على إذابة جميع الأفراد والمؤسسات والجماعات في الكل الاجتماعي والمجتمع أو الشعب أو الأمة، من طريق العنف والإرهاب المنظم، وهي لا تقبل بمبدأ فصل السلطات أو بأشكال الديموقراطية الكلاسيكية الغربية، وهي مسيطرة سيطرة كاملة على جميع وسائل الإعلام مع وجود إيديولوجية معينة توجهها، والأمثلة كثيرة: إيطاليا في عهد موسوليني، وألمانيا في عهد هتلر، وإسبانيا في عهد فرانكو، والبرتغال في عهد سالازار، إلخ.
وقد عبر موسوليني (1883 ـ 1945) تعبيرا جيدا عن هذا المذهب في خطاب ألقاه في 28 تشرين أول ـ أكتوبر عام 1925 بقوله: "الكل في الدولة، ولا قيمة لشيء إنساني أو روحي خارج الدولة، فالفاشية Fascisme شمولية. والدولة الفاشية تشمل جميع القيم وتوحدها، وهي التي تؤول هذه القيم وتفسرها، إنها تعيد صياغة حياة الشعب كلها".
في العالم العربي والإسلامي، سادت الدولة السلطانية مطلقة السلطات، التي تعتبر حقوق رعاياها هبات وأعطيات ومنحا تتكرم بها السلطة على رعاياها. وكانت هذه الدولة التقليدية تمارس سلطتها الاستبدادية بدرجة عالية. أما الدولة الشمولية الحديثة، التي انبعثت مع إنجاز الثورة الديمقراطية البرجوازية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، فهي ظاهرة خاصة بالقرن العشرين.
وشكلت الأزمة العامة للرأسمالية في أعوام 1929 ـ 1933، التي أسهمت في توسيع عملية تحول الاحتكارات الرأسمالية إلى دولة الاحتكارات الرأسمالية، وفي تدخل دولة الاحتكارات في تنظيم الاقتصاد، وفق مبادئ "الاقتصاد المبرمج" بهدف تحقيق الاستقرار في التوازن الاقتصادي، الميلاد الحقيقي للدولة التوتاليتارية المعاصرة. وهذه الأزمة جعلت الدولة القومية تدخل بقوة في عملية تجديد رأس المال، كما تميزت بتمركز شديد في الاقتصاد، وهذا شأن الدولة الفاشية في إيطاليا، والدولة النازية في ألمانيا، والدولة الستالينية في الاتحاد السوفياتي السابق، ومن ثم في إسبانيا والبرتغال قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية.
الفوارق
وعلى الرغم من الفوارق الجوهرية بين الإيديولوجيات السائدة في هذه الدول التوتاليتارية، أي بين السلطة الشمولية الفاشية التي سادت في إيطاليا، التي لقبها غرامشي بـ"البرلمانية السوداء"، والسلطة الشمولية النازية في ألمانيا، والسلطة الشمولية الستالينينية، التي لقبها غرامشي أيضا بـ"القيصرية التقدمية"، إلا أن القاسم المشترك بين هذه الدول الشمولية التي تختلف اختلافا جذريا في تشكلها التاريخي، هو أن قوتها الاستبدادية مستمدة من تنسيق البنى التحتية للمجتمع التي تملكها الدولة البيروقراطية الحديثة، كما أنها قدمت أجوبة مختلفة في إطار شمولي لقضايا التنمية المتمحورة على الذات في البلدان التي نشأت فيها الرأسمالية بشكل متأخر تاريخيا، ولم تنجز فيها ثورة ديموقراطية برجوازية راديكالية، على الطريقة الفرنسية أولا، وخضعت لديكتاتورية حزب واحد ذي طابع استبدادي، حيث شكل الحزب النازي، والحزب الفاشي أخطر مظاهرها المتطرفة ثانيا.
إن الدول التوتاليتارية الحديثة في أشكالها المختلفة، الفاشية، والنازية، والستالينية، قد وصفت دائما بأنها ديكتاتورية فاشية، في حين أن الفاشية ليست سوى شكل نوعي من أشكال الديكتاتورية الاستبدادية. والحال هذه، فإن التسلطية تسبق الفاشية وتعقبها بأشكال قديمة أو حديثة. فالدولة التوتاليتارية هي الدولة التسلطية التي تمارس ديكتاتورية استبدادية محدثة.
إذا كانت هذه هي الجذور التاريخية للدولة التوتاليتارية الحديثة التي ولدت مع أزمة النظام الرأسمالي العالمي، حيث الشمولية الستالينية التي تعتبر متفردة ومختلفة عن الشمولية الفاشية، لجهة كونها مثلت ثورة رأسمالية الطابع تحت راية الاشتراكية، حتى إن شارل بتلهايم يعتبر الثورة الروسية 1917 ثورة رأسمالية، وعلى أنها مجرد شكل للتطور الرأسمالي في المحيط، ومن ثم لا يعتبرها إلا مرحلة من مراحل التوسع الرأسمالي (وقد أنصفه التاريخ في تحليله هذا العميق)، فإن الدولة الشمولية في الرأسماليات التابعة، وأعني في العالم الثالث، قد ولدت بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد انقضت اليوم الأوقات التي كان يمكن للمرء فيها، الاقتناع بأن الديموقراطيات الكلاسيكية الغربية عدوة الفاشية ظاهرا، هي عدوة للدولة التوتاليتارية، في حين أنها استخدمت مناهضة الشيوعية زمنا طويلا، وبخاصة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، في عدد كبير من بلدان العالم الثالث لتبرير الديكتاتوريات العسكرية، في أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا، وقمع الثوريين والمناضلين الديمقراطيين، وفرض حالة الطوارئ، والتدابير الاستثنائية. فبدلا من الوقوف على خطوط ماجينو ومناهضة الدولة التوتاليتارية القديمة في الغرب، حيث اكتسبت المجتمعات المدنية فيه مناعة ضدها، علينا التعرف على التهديد الاستبدادي الجديد في العالم الثالث، المتمثل في الدولة الشمولية الجديدة، وبنيتها، وكما قال جيانفرا نكوسانغينيتي؛ "أن نخاف ما لا نعرفه، وأن نعرف، بأسرع ما يمكن، من يجب أن نخاف منه اليوم".
اقرأ أيضا: التوتاليتارية ضد العقل البشري.. كيف يتمدد الاستبداد؟ (1من2)