هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: العبرة المفقودة من الصراع العربي الإسرائيلي
الكاتب: د. رزق إلياس
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2019
(525 صفحة من القطع الكبير).
مرَّت مئة سنة ونيف على الصراع العربي الصهيوني منذ وعد بلفور، في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر1917، القاضي بـ "إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين"، ومازال هذا الصراع يجلب النكبات المتتالية ليس على العرب وحدهم و إنما على اليهود أيضا.
وفي 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، وانطلاقا من المبادىء الأساسية في النظام الداخلي، قررت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة بنسبة ثلثي أعضائها إلغاء الانتداب على فلسطين، وتقسيمها إلى دولتين منفصلتين: عربية ويهودية، مع الإبقاء على الوحدة الاقتصادية فيما بينهما، طبقًا للقرار رقم 181، الذي أعطى للصهاينة 54.% من مساحة فلسطين، في الوقت الذي كان عددهم أقل من ثلث إجمالي عدد السكان، وكانت ملكيتهم لا تتجاوز 6% من مساحة فلسطين..
وقد صوتت إلى جانب المشروع 33 دولة، بما في ذلك الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة الأمريكية، وعارضته 13 دولة، وامتنعت 10 دول عن التصويت بما في ذلك بريطانيا. وقد جاء في القرار:" يلغى مفعول الانتداب على فلسطين في أقرب وقت ممكن، ولكن ليس بعد 1 آب (أغسطس) 1948. وسحب الجيوش الإنجليزية ليس بعد 1 آب (أغسطس) 1948 ".
وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفييتي كان متبنياً للرؤية الإيديولوجية الماركسية اللينينية التي حاربت الحركة الصهيونية العالمية على الدوام، فإنَّ مندوبه السابق في الأمم المتحدة أندريه غروميكو أيدّ قرارالتقسيم. وكشفت أرشيفات وزارة الخارجية السوفييتية الدعم الكبيرالمقدم من جانب الرئيس الأسبق للاتحاد السوفييتي جوزيف ستالين للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين بالسلاح والعمل الدبلوماسي وتخفيض نسبة العرب، علماً أن الحزب الشيوعي السوفييتي في عهد لينين حارب بشدّة حزب البوند بوصفه حزباً رجعياً مرتبطاً بالحركة الصهيونية العالمية.
وكانت صحيفة "يديعوت أحرونوت" نشرت تقريراً موسعاً بتاريخ 20/11/2007 عما قالته إنه دور ستالين استناداً لوثائق سرية كشف عنها الأرشيف الروسي مؤخراً وفيه استذكرت "الصحوة" اليهودية في الاتحاد السوفييتي بالنصف الثاني من عام 1947 وطيلة عام 1948 واعتبرتها نتيجة للسياسات السوفييتية بقيادة ستالين التي شملت تشكيل الدولة اليهودية والتعاون الوثيق مع قادة الاستيطان اليهودي في فلسطين.
في ضوء ذلك، يعتبرالموقف السوفييتي الذي صوّت لمصلحة قرارتقسيم فلسطين خطيئة إيديولوجية ماركسية كبرى، ألحقت الضررالكبيربالشعب الفلسطيني. وقد رفض العرب الموقف السوفييتي المؤيد لقرار التقسيم في 29 تشريم الثاني/ نوفمبر 1947 ـ الذي على الرغم من تشريد شعب فلسطين، فإن الاتحاد السوفييتي اعترف بالكيان الصهيوني عام 1948 ـ و رأوا في قرارالتقسيم "غبناً تاريخياً".
إن شعور أوروبا بالذنب والندم على ما اقترفته لاساميتها من مجازروحشية بحق اليهود، والتي بلغت ذروتها مع ما سمي بالمحرقة النازية، جعلتها تقدم الدعم المكثف لـ "إسرائيل" التي باتت شرعية وجودها ناصعة البياض في مواجهة المطالب العربية الشرعية. ذلك أنَّ هذا الغرب، لا يريد أن يعي جوهر الثقافة العربية الإسلامية، والتي لم تعرف طيلة تاريخها مثل هذه العنصرية و الإقصائية تجاه اليهود أو غيرهم من الجماعات السكانية. فعندما سقطت الأندلس، وطرد اليهود منها، انتقلوا للعيش في البلدن العربية والإسلامية، وعاشوا في كنف من السلام والوئام مع العرب والمسلمين، ولم يعرف تاريخ الإمبراطورية العثمانية التي حكمت العالمين العربي والإسلامي طيلة أربعة قرون متواصلة أي اضطهاد لليهود في عهودها.
في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: "العبرة المفقودة من الصراع العربي الإسرائيلي" لمؤلفه الدكتور رزق إلياس، والصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب بدمشق، والمتكون من مقدمة وثمانية فصول، يحاول المؤلف من خلال مشاركته الميدانية في الحروب العربية ـ الإسرائيلية أن يقدم لنا رؤيته لتاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني خلال القرن العشرين، والحروب التي جرت منذ عام 1948 ولغاية عام 1982، موضحًا دروس وعبر كلا الطرفين في كل من تلك الحروب، وكذلك أسباب فشل عملية السلام التي بدأت في مؤتمر مدريد عام 1991، مبديًا أنَّ العبرة بالتوصل إلى سلام عادل وشامل مازالت مفقودة.
الحرب العربية ـ الإسرائيلية في عام 1948
قبل بداية الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى في عام 1948، مارست الولايات المتحدة الأمريكية نوعاً من الضغوط على بريطانيا، ودعم الرئيس الأمريكي (ترومان) قرار الكونغرس الصهيوني المنعقد في (بلتمور). وصرح بتاريخ 20/7/1944 قائلاً: "نحن نؤيد فتح أبواب فلسطين للهجرة والاستعمار اليهوديين من دون أي قيود ونفضل تلك السياسة التي تؤدي إلى قيام (كومنولث) يهودي ديمقراطي هناك".
وفي آب (أغسطس) 1945 طلب الرئيس (ترومان) من السلطات البريطانية السماح بهجرة مئة ألف يهودي من أوروبا إلى فلسطين ونتيجة لضغوط العرب واليهود المطالبين بإلغاء الانتداب البريطاني، وللتدخل الأمريكي المتزايد وجدت السياسة البريطانية نفسها في موقف صعب، فطلبت من الأمين العام للأمم المتحدة عرض القضية الفلسطينية للنقاش، وفي دورة الأمم المتحدة بتاريخ 29/11/1947 اتخذت الجمعية العامة القرار رقم /181/ القاضي بإنهاء الانتداب البريطاني قبل 1/8/1948 وتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية ووضع نظام دولي خاص لمنطقة القدس (لمدينتي القدس وبيت لحم).
ومنذ نهاية تشرين الثاني / نوفمبر1947، ازدادت حدة الإرهاب الصهيوني. وبعد صدور قرار التقسيم، اتخذت الصهيونية كل التدابيرالكفيلة بإعاقة تأسيس دولة عربية فلسطينية، لكي يستولوا في المستقبل على الأراضي التي خصصتها هيئة الأمم المتحدة لهذه الدولة، وتشير صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن الإرهابيين الصهاينة قد هاجموا واحتلوا قبل 15 أيار / مايو 1948 ثمانية عشر مدينة وقرية .
وهكذا بدأ العنصريون الصهاينة تحت ستار "الدفاع عن النفس" اعتداءات مكشوفة: فقد كان الإرهاب موجهاً نحو التنكيل بالعرب أو طردهم. ففي 10 نيسان / أبريل 1948 ذبح جميع سكان قرية دير ياسين العربية، وفيما بعد اعترف بيغين رئيس الـ "ايرغون نسفي ليومي" أن المجازر الصهيونية الدموية وما كان يرافقها من إشاعات مرعبة قد تمخضت عن هروب 650 ألف عربي وصل بهم الذعر إلى درجة الجنون .
و في 14 أيار / مايو 1948 رفع قادة الصهيونية في واشنطن، على مبنى الوكالة اليهودية راية بيضاء ذات نجمة زرقاء سداسية، كمركز لتأسيس دولة "إسرائيل". وفي اليوم التالي، 15 أيار/ مايو، بدأت الحرب العربية ـ الصهيونية، التي تمخضت عن احتلال "إسرائيل" لمساحات من الأراضي تزيد كثيراًعن تلك التي خصصت لها بموجب قرارالتقسيم الصادر بتاريخ 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947. وكان رؤساء "إسرائيل" يطمعون من وراء ذلك إلى تنفيذ عملية جديدة، بدأها الصهاينة في سنوات الحرب ـ "تصفية"الأراضي العربية من العرب، بغية تأسيس دولة يهودية، يمكن للصهاينة أن يوطدوا سيطرتهم فيها. وهكذا ظهرت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين الذين وصل عددهم، نتيجة العمليات الأخرى في "إسرائيل" إلى مليون ونصف مليون شخص (حسب الإحصائيات الرسمية لهيئة الأمم المتحدة).
وقد أصبحت سياسة المذابح الجماعية ضد العرب، السياسة الرسمية للدولة الجديدة. وتحولت "إسرائيل" منذ ظهورها إلى عش للعدوان والتطهير العرقي والحرب، ضد البلدان العربية.
إنَّ تشكيل دولة "إسرائيل" على أرض فلسطين العربية هو نتيجة لتطور يمكن إدراجه تمامًا في حركة التوسع الاستعماري الأوروبية والأمريكية في القرنين التاسع عشر والعشرين للسيطرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على الأمة العربية. فقد تم إسكان الصهاينة على أرض فلسطين من ناحية، وتم إجلاء السكان الأصليين أي الفلسطينيين الذين أُجبِروا بقوة السلاح الأوروبي على الارتحال، والتشرد من ناحية أخرى.
إن الاستعمارالاستيطاني الصهيوني في فلسطين، هو اقتطاع ظالم لأرض شعب فلسطين، حصل بقوة ودعم القوى الاستعمارية الأوروبية. فخلق "إسرائيل" إنما كان إهانة للعرب كشعب، فضلاً عن أن الدول الاستعمارية الأوروبية بررت وجودها كأداة قمع لحركة التحررالوطني العربية. ثم إن وعي الطبيعة الاستعمارية لدولة "إسرائيل" هو البدء الحقيقي في يقظة الوعي الأوروبي من سباته العميق .
يقول الكاتب رزق إلياس: "في بداية الحرب بلغ عدد السكان اليهود في فلسطين نحو (650) ألف نسمة، أو ما يعادل 32% من المجموع العام للسكان وعددهم مليونا نسمة. وشكل اليهود أغلبية في المدن الثلاث الكبرى: في تل أبيب ـ يافا(226) ألف يهودي مقابل (70) ألف عربي، وفي القدس (103) آلاف يهودي مقابل (65) ألف عربي، وفي حيفا (89) ألف يهودي مقابل (70) ألف عربي، وبلغت نسبة السكان اليهود في مدينة طبرية 53% وفي مدينة صفد 18.3% كما كان اليهود يسكنون في عشر مدن صغيرة، وفي نحو 300 مستعمرة صغيرة معظمها مستعمرات زراعية محصنة تنتشر ضمن شبكة المدن والقرى.
وعلى هذا النحو كانت القطاعات العسكرية الصهيونية قد استولت قبل الخامس عشر من أيار (مايو) 1948 على جميع الموانئ في الساحل الفلسطيني من تل أبيب وحتى حيفا، وعلى جميع المطارات ومعظم المنشآت والقواعد البريطانية ومنطقة طبرية والحولة وفرض الصهاينة سيطرتهم على المدن العربية المختلطة وعلى عدة قرى عربية وطردوا سكانها العرب منها، وقد بلغ عدد السكان العرب الذين هاجروا في هذه ا لفترة (حتى 15/5) حوالي ثلاثمئة ألف نسمة (ص 91).
وأسفرت حرب عام 1948 عن نتائج خطيرة جداً انعكس أثرها على جميع جوانب حياة شعوب المنطقة وعلى بنيتها الجيواستراتيجية ونذكر من هذه النتائج ما يلي:
أولاً ـ ولادة كيان سياسي جديد في منطقة الشرق الأوسط قائم على أساس ديني، بدلاً من إقامة دولة فلسطين العلمانية التي يعيش فيها العرب واليهود بجميع دياناتهم وطوائفهم، الأمر الذي جعل "إسرائيل" تتطلع لتقسيم الدول العربية وإقامة دويلات طائفية على غرارها في منطقة الشرق الأوسط، كي تصبح الدولة الأكبر المهيمنة على مقدرات المنطقة.
ثانيًا ـ فرض "إسرائيل" سياسة الأمر الواقع بالقوة على الدول العربية وعدم قبولها العودة إلى حدود التقسيم الذي وافقت عليه قبل نشوب حرب عام 1948، وكذلك عدم قبولها إعادة اللاجئين الفلسطينيين تطبيقاً لقرار الأمم المتحدة رقم /194/ لعام 1948، ومع ذلك أصبحت عضواً في الأمم المتحدة، الأمر الذي أعطى "إسرائيل" أملاً بإمكانية توسيع حدودها بعد كل حرب تنتصر فيها تطبيقاً لهذه السياسة.
ثالثًا ـ إنَّ عدم قبول "إسرائيل" إعادة اللاجئين الفلسطينيين, جعل هؤلاء يسلكون جميع سبل النضال المشروع للعودة إلى وطنهم في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي جعل من خطوط الهدنة بين الدول العربية و"إسرائيل" خطوطاً ساخنة وهذه الحالة هي التي استخدمتها (اسرائيل) في كل مرة ذريعة لشن العدوان المبيت على الدول العربية المجاورة.
رابعًا ـ دفع الدول العربية حديثة الاستقلال في طريق سباق التسلح في الوقت الذي كانت فيه الدول المجاورة "لإسرائيل" تضع اللبنات الأولى لحكمها الوطني على أساس تحقيق التنمية الاقتصادية الاجتماعية الملحة بعد سنوات طويلة من حكم الاستعمار. وقد شكلت نتائج حرب علم 1948 تحدياً كبيراً لأمن هذه الدول، الأمر الذي دفعها إلى تغيير أولوياتها بحيث احتلت ميزانية الدفاع جزءاً هاماً من الميزانية العامة على حساب مجالات التنمية الأخرى، فسارت هذه الدول في طريق سباق التسلح مع (اسرائيل) مما خلق صعوبات كبيرة لها في طريق تطورها الطبيعي، وأبقى المنطقة في حالة من التوتر وعدم الاستقرار.
خامسًا ـ توجيه ضربة شديدة للعلاقات العربية البينية، وبصورة خاصة منها العلاقات البرية بين مشرق الوطن العربي ومغربه. فأصبحت "إسرائيل" عقبة كبرى في طريق تحقيق أي تقارب وحدودي بين الدول العربية، وبدأت العمل بكل السبل لإحباطه والنظر إليه على أنه خطر يهدد أمنها.
سادسًا ـ وقف تزويد مصر بالأسلحة: وقد وجد عبد الناصر حلاً لهذه المشكلة عم طريق كسر احتكار الدول الغربية توريد السلاح، واستلام الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي. وفي 27 أيلول 1955 أعلنت مصر عن توقيع صفقة أسلحة مع تشيكوسلوفاكيا تضمنت (230) دبابة و(300) عربة مدرعة و(500) قطعة مدفعية، و(150) طائرة ميغ، و(50) طائرة إليوشن وعدداً من الغواصات والقطع البحرية. وبذلك تحولت بنية الجيش المصري وتسليحه وتدريبه من النظام البريطاني إلى النظام الشرقي.
العدوان الثلاثي على مصر عام 1956
على نقيض هزيمة الجيوش العربية والأنظمة الإقطاعية والبرجوازية، في الحرب العربية ـ الصهيونية لعام 1948، دشنت ثورة يوليو العام 1952 بقيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، عهداً جديداً من الثورة السياسية، التي استعاد فيها الشعب المصري حقه في حكم نفسه، والتخلص من نير الحكم الملكي التابع للغرب، وثورة اجتماعية تناضل فيها الطبقات الفقيرة حتى التوصل إلى تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الجذرية. لأن فلسفة عبد الناصر عن الثورة وممارسته لها، أثبتت أنه شق طريق التحرر السياسي والاقتصادي لا على صعيد مصر فقط، وإنما على صعيد العالم العربي كله، حين أدخل فكرة الاشتراكية إلى القاموس السياسي العربي، عن طريق النضال الشعبي المتعدد الأشكال، والذي انخرطت فيه القوى الحزبية والنقابية. وهو ما قاد إلى التصادم مع المصالح الاستعمارية الغربية، والطبقات البرجوازية الكبيرة والإقطاعية.
وكان العنصر المهم في عناصر الثورة المصرية، هو قيادة عبد الناصر لحركة القومية العربية ـ التي تعني فكرة الوحدة العربية ـ، إلى المجابهة المباشرة مع الاستعمار البريطاني والفرنسي، حيث شهدت الحركة القومية العربية والوطنية، صعوداً ملموساً في الخمسينيات وحتى وأواسط الستينيات، في النضال من أجل القضاء على المصالح الاستعمارية المباشرة في العالم العربي، وحيث أن الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، مثلت نموذجاً عنها.
كانت معركة تأميم مصر لشركة قناة السويس، الذي أعلن في 26 تموز (يوليو) العام 1956، وهي أول معركة في حرب قومية طويلة للسيطرة على مقادير وثروات العالم العربي، ولاسيما الامتيازات النفطية، التي تمتلكها الاحتكارات الغربية. وأدى التأميم للقناة إلى تفجير أزمة السويس، التي أخذت أبعاداً عالمية، لما للتأميم من مضامين استراتيجية. فقامت كل من القوى الاستعمارية الغربية فرنسا وبريطانيا، إلى جانب الكيان الصهيوني، بحرب عدوانية على مصر، استمرت من 29 أكتوبرإلى غاية 6 نوفمبرمن العام 1956. وكانت أول معركة بين النظام الإقليمي العربي، والإمبريالية الغربية والكيان الصهيوني، حيث تجمع العالم العربي حول عبد الناصر، باعتباره رافعة للجماهير الشعبية العربية.
ولأن قرار المواجهة والصمود لهذا النظام الإقليمي العربي، يجسد حركة الثورة العربية، ويدعم محور حركة الوحدة العربية، التي هي الشرط الضروري اللازم لبناء القوة كطريقة لا غيرها، لتحرير فلسطين، وبالتالي لتحقيق التقدم العربي. وفيما بدأ نفوذ القوى الإمبريالية الغربية يتقلص عن موقعه الاستراتيجي في الشرق الأوسط، كانت البوابات السياسية لمصر قد فتحت أمام الاتحاد السوفييتي، لكي يقيم لنفسه حضوراً في منطقة الشرق الأوسط، "وكانت القومية العربية قد أصبحت بوضوح، نقطة جذب وتجميع لبحث العرب عن هوية خاصة بهم، وفي إطار هذا البحث كان الاتحاد السوفييتي متوفراً أمام العرب مع كتلته وراغباً في تقديم المساعدة للعرب على تجاوز العقبات التي وضعها الغرب أمامهم، سواء على المستوى العسكري أو ذاك الاقتصادي".
لقد قضت مغامرة السويس على الطموحات الإنجليزية والفرنسية في الشرق الأوسط. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل احتلتا الدورين الإنجليزي والفرنسي في الصراع ضد حركة التحرر الوطني العربية.
يقول الكاتب رزق إلياس: "لقد أخذت "إسرائيل"تسعى من جانبها لاستيعاب ما أمكن من الأسلحة من مستودعات الدول الغربية، وتهيئة الجو المناسب للعمل المشترك مع فرنسا وبريطانيا اللتين أخذت كل منهما تظهر عداءً كبيراً لنظام عبد الناصر، وقد عبر شمعون بيرس عن هذه الحالة في مقابلة مع رئيس وزراء فرنسا (جي موليه) إذ قال: في ربيع عام 1956 كانت المشاعر معبأة بشدة ضد جمال عبد الناصر في باريس، وذات يوم أخرج لي جي موليه كم درج مكتبه نسخة من كتاب عبد الناصر، الذي صدر بعنوان "فلسفة الثورة" وقال لي: نحن وأنتم أمام هتلر جديد في العالم العربي والإسلامي، ولا بد أن نضرب مخططاته وإلا فاتتنا الفرصة كما فاتتنا من قبل عندما لم نفهم مقاصد هتلر في كتابه (كفاحي) ويستطرد شمعون بيرس في القول: كان تعبير "بورجيس مانوري" الذي أصبح وزيراً للدفاع في فرنسا أكثر صراحة, إذ بادرني وأنا ادخل إلى مكتبه صباح أحد الأيام قائلاً: ماذا تنتظرون للزحف على مصر وأسقاط عبد الناصر؟ فقلت له ننتظر حتى يكون لدينا أسلحة تتوان مع الأسلحة التي حصل عليها عبد الناصر في صفقة مع الروس, فقال: ما هي طلباتكم نحن على استعداد لتقديمها بغير حدود. أما الجنرال (بوفر) رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية الفرنسي فقد لخص التفكير الاستراتيجي الفرنسي في التعامل مع مصر والجزائر آنذاك بقوله: (الجزائر عن طريق القاهرة). وبانسحاب آخر جندي بريطاني من قاعدة السويس في 18 حزيران عام 1956 أصبح للثورة المصرية مد جماهيري عربي كبير"(ص 151).
لقد قضت مغامرة السويس على الطموحات الإنجليزية والفرنسية في الشرق الأوسط. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل احتلتا الدورين الإنجليزي والفرنسي في الصراع ضد حركة التحرر الوطني العربية. وفي شهر كانون الأول من عام 1957، أعلن الكونغرس الأمريكي عن برنامج جديد للتدخل في الشرق الأوسط، وأعطيت آنذاك لهذا البرنامج تسمية "مبدأ أيزنهاور". وبموجب هذه العقيدة كان يحق لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية تقديم "المساعدة العسكرية"، وإرسال القوات المسلحة الأمريكية إلى أية دولة في الشرق الأوسط، من أجل الصراع المشترك ضد "الشيوعية الدولية".
العدوان الإسرائيلي على الدول العربية الثلاث (مصر والأردن وسوريا) عام 1967
كان لدى الأركان الاسرائيلية قبل بدء العدوان ثلاث خطط عملياتية هجومية مترابطة مع بعضها البعض هي، كما يقول الكاتب رزق إلياس:
ـ الخطة الأولى: خطة (موكيد) لتنفيذ الضربة الجوية المسبقة.
ـ الخطة الثانية: خطة (عتسيون) أو ما يطلق عليها الخطة الصغيرة وكانت تستهدف احتلال مساحات صغيرة من سيناء والضفة الغربية وهضبة الجولان.
ـ الخطة الثالثة: خطة (تردوم) أو ما أطلق عليها الخطة الموسعة،وكانت تستهدف احتلال كامل سيناء وكامل الضفة الغربية وكامل هضبة الجولان وجنوب سوريا.
أما الخطوط الأساسية لخطة (موكيد) فكانت كما يأتي:
ـ مهاجمة معظم المطارات المصرية في وقت واحد لتحقيق عنصر المفاجأة وإحباط أي محاولة مصرية في نقل الطائرات من مطار إلى آخر.
ـ توجيه الضربة الكثيفة بقوام (160) طائرة وإبقاء (12) طائرة ميراج فقط لحماية الأجواء والمطارات الإسرائيلية.
ـ إعطاء الأفضلية الأولى لتدمير الطائرات المصرية القاذفة وضرب المطارات العربية الأخرى التي يستطيع طيرانها الوصول إلى المطارات الإسرائيلية برحلة جوية مباشرة, ولكن القيادة الإسرائيلية قررت فيما بعد تأجيل ضرب المطارات السورية والأردنية في الموجة الأولى, والتركيز على إخراج سلاج الجو المصري من المعركة أولاً, لتقديرها بأن الطيران السوري والأردني لن يكون جاهزاً للاستخدام ضد المطارات الإسرائيلية في الساعات الأولى من الحرب.
ـ اختيار سعت 7.45 صباحاً (8.45 توقيت القاهرة) يوم 5/6 لوصول الطائرات الإسرائيلية إلى أهدافها، حيث يتمكن الطيارون في هذه الساعة من تدقيق أغراضهم بعد انقشاع الضباب الذي يغطي معظم المطارات المصرية في مثل ذلك الوقت، كما اخذت القيادة الإسرائيلية بالاعتبار عند اختيار هذا التوقيت، معلومة استخباراتية وصلت قبل 12 ساعة، تفيد أن رمي وسائط الدفاع الجوي المصرية سيكون مقيداً في عدة مناطق بسبب تحليق طائرة المشير عبد الحكيم عامر وهو يتجه إلى سيناء".
في حرب 1967 الخاطفة حققت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية نصراً كبيراً على الزعيم الراحل عبد الناصر والحركة القومية العربية. كانت إسرائيل هي التي اتخذت المبادرة بتدمير الطائرات المصرية وهي جاثمة في المطارات. هكذا بدأت "حرب استباقية" احتلّت "إسرائيل" في نهايتها أربعة أضعاف مساحة أراضيها، في الضفة الغربية والقدس الشرقية وسيناء والجولان.
ـ يتم توجيه الضربة الجوية إلى المطارات العربية السورية والأردنية والعراقية في اليوم نفسه بعد تكرار الضربة ضد الطيران المصري والتأكد من خروجه خارج المعركة(ص205).
لا يزال العالم العربي يلملم الشظايا المتناثرة لتلك الهزيمة المدوية.. وحين نتذكر هزيمة حزيران /يونيو 1967، نتذكرثلاثة أمور متلازمة :
أولها ـ من المؤكد أن الذي استعار عبارة "النكسة" من عالم الطب لينقلها إلى عالم السياسة، كان يقصد يومها أن التحدي السياسي والحضاري والمعنوي والاقتصادي الذي كان يقوده عبدالناصر (في مواجهة كل الضغوط الخارجية والتحالفات الداخلية، من أهل البيت العرب)، كان يلاطم الأمواج، ويحقق إنجازات مؤكدة (كسر احتكار السلاح، بناء السد العالي، تأميم قناة السويس، رفع حجم الأمة العربية في المحافل الدولية إلى أعلى مستوى في التاريخ العربي المعاصر في كتلة عدم الانحياز والقارات الثلاث إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وإطلاق حركة توحيدية لم تشعر الجماهير العربية يوماً، قبلها أو بعدها، بوحدة مصيرها ومستقبلها ومصالحها)، لكنَّ كل هذه المسيرة تعرضت بعد كل هذه الإنجازات للتهديد بعد الهزيمة العسكرية المدوية في يونيو/ حزيران ،1967 بسبب تراكم أخطاء مؤكدة، تحمل عبدالناصر في خطاب التنحي مسؤوليتها كاملة دون تنصل، فأدت الهزيمة العسكرية، إلى انتكاس الخط البياني الصاعد في عقدي الخمسينات والستينات.
ثانيها ـ هزيمة " المشروع القومي العربي" بشقيه الناصري و البعثي،وهي هزيمة تاريخية عادلة.والواقع أنَّ " المشروع القومي العربي" كان يعاني من تأخرالوعي الإيديولوجي السياسي للبلدان العربية التي رفعت لواء الحركة القومية العربية في مصروالمشرق العربي . إذ إن هذا التأخر التاريخي كان عاملاً حاسماً في استمرارالوعي المحافظ الامتثالي والتقليدي الذي يرفض تجسيد القطيعة المنهجية والمعرفية مع كل نزعة ماضوية وتقليدية في تطورمستقبل المسألة القومية العربية على أسس ديمقراطية ،عقب الهزيمة العربية أمام الإمبريالية الغربية والكيان الصهيوني. علماً أنه من الناحية السياسية والتاريخية،كان العالم العربي من محيطه إلى خليجه منجذباً بحماسة عاطفية لأهداف الحركة القومية العربية في التحرروالاستقلال والوحدة.وكانت مصر الناصرية في مرحلة الستينيات من القرن الماضي مركزاً إقليمياً طليعياً من الناحيتين السياسية والتاريخية، ومرجعية قومية موثوقًاً بها وقادرة على تفعيل الحيوية الشعبيةالكامنة،إذ حوّلت هزيمة حرب حزيران التلقف الطوعي، الذي ارتآه الرئيس عبد الناصرتعاطفاً دافئاً مع رغبة في المشاركة في التعدد وتصحيح الثغرالتي من خلالها حصل النزف ومهد لمراجعات تبلورت في الصمود وحرب الاستنزاف.
لكن الثقافة السياسية السائدةبعد حزيران 1967 بقيت إلى حدٍ كبيرٍ مدمنة عدم المساءلة،وترفض عملية التحديث في البنية الفكرية والثقافية للدولة العربية المعاصرة،ذلك أن كل عملية تحررية ثورية حديثة تقتضي بلورة فكرية حديثة. فالتأكيد على الحداثة الفكرية ،هي بمنزلة التأكيد على جذرية البرنامج السياسي، وبالتالي راديكالية العملية الثورية ذاتها في ظل عالم عربي متأخر.واستمرالنقد للبنية الفكرية، وبالتالي" للمشروع القومي العربي"مشبوهاً بكونه معارضة يسارية أو تقدمية أووطنية راديكالية.وحتى يومنا هذا لا تزال عملية نقد الذات حتى من موقع الالتزام مدخلاً لدى معظم السلطات العربية إلى التشكيك وبالتالي اعتبارالنقد من موقع الالتزام بالمشروع القومي العربي نوعاً من التربص.
ثالثها ـ صدور قرارمجلس الأمن الدولي رقم 242 في 22 تشرين الثاني / نوفمبر 1967 لمعالجة آثار الهزيمة، والذي تضمن ما اعتبر "مبادئ حل سلمي" للصراع العربي ـ الصهيوني. وبعد انتصار العام 1967، قال الجنرال موشيه دايان، أبرزمسؤول سياسي في تلك الحقبة،هذه الجملة المشهورة: "نترقّب اتصالاًهاتفياًمن العرب". كان يريد أن يحمل على الاعتقاد بأنّه بعد هذا الإتصال، ستنسحب "إسرائيل" من الأراضي المحتلّة ـ من سيناء وقطاع غزّة والضفّة الغربية والجولان ـ مقابل اتفاقيات سلام مع العالم العربي. لكن المؤرّخ طوم سيغيف كشف في كتابه 1967 (غير مُترجَم إلى الفرنسية Tom Segev, 1967, Denoel, Paris, 2007)، بأنّ تلك لم تكن في الواقع نيّة الحكومة "الإسرائيلية". مع أنه جرى النظر إلى موقف "إسرائيل" على هذا النحو، سواء في العالم أم في الداخل. إنه ينتظر اتصالات الدول العربية معلنة الاستسلام.
في حرب 1967 الخاطفة حققت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية نصراً كبيراً على الزعيم الراحل عبد الناصر والحركة القومية العربية. كانت إسرائيل هي التي اتخذت المبادرة بتدمير الطائرات المصرية وهي جاثمة في المطارات. هكذا بدأت "حرب استباقية" احتلّت "إسرائيل" في نهايتها أربعة أضعاف مساحة أراضيها، في الضفة الغربية والقدس الشرقية وسيناء والجولان. وتم تشريد 400 ألف لاجئ فلسطيني جديد. ورفضت "إسرائيل" إعادة الأراضي المحتلة، وأبقت تحت سلطتها شعباً فلسطينياً مقاوماً معتبرة أن اللجوء إلى القوة وحده يحلّ المشاكل؛ وهذا ما أغرقها في أزمة سياسية وأخلاقية عميقة، ليست فضائح الفساد المتكررسوى واحدة من ظواهرها.