قضايا وآراء

تلبانة.. تَعَرَّيْنَا

ماهر البنا
1300x600
1300x600

لا بؤس أسوأ من هذا.. في مصر مسؤولون يفتقدون أدنى شروط الإنسانية. الأحد الماضي دارت السفيرة نائلة جبر، رئيس اللجنة الوطنية لمكافحة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، على شاشات الفضائيات، ولاكت سمعة بسطاء مكلومين، وامتلكت فظاظة لا حدود لها. فبعد كلمات مغموسة بالاستعلاء، مررت من خلالها تعازي زائفة على نبأ غرق عدد من الشباب المهاجرين بشكل "غير شرعي"، بعدما استقلوا مركباً من ليبيا متوجهين إلى إيطاليا، وقالت: "ممكن نغفر للشباب حماسهم وتهورهم، لكن لا أغفر للأسر التي ألقت بأبنائها في التهلكة". هل هناك ما هو "أحط" من هذه الكلمات تقال في مثل هذا الموقف؟ تصور معي أيها القارئ أنك أب، وتصوري معي أيتها القارئة أنكِ أم، وأنكما (لا قدر الله) فقدتما ابنا في تلك الرحلة المشؤومة، وأنكما تسمعان معالي السفيرة تقول هذه الكلمات: "لا أغفر للأسر التي ألقت بأبنائها في التهلكة"!

شاهدت السفيرة جبر ليلا، وكنت في الصباح قد قرأت تغطية صحفية مفجعة من قرية تلبانة، التابعة لمركز المنصورة بمحافظة الدقهلية، عقب "الإعلان عن غرق مركب كان يقل نحو 70 من أبناء القرية، في رحلة هجرة "غير شرعية"، ووفاة 11 شخصاً من شباب وأطفال القرية الذين كانوا ضمن الرحلة، فيما لم يتم التعرف على مصير الباقين". الغرقى كانت أعمارهم تتراوح ما بين 14 و19 عاما، بحسب التقرير الصحفي. ولم تمنعني فجيعتي من أن أبحث عن ردود فعل "الأجهزة" المختصة، ولكن لا حس ولا خبر، وأوصلني بحثي إلى صفحة "فيسبوك" الخاصة باللجنة، ومنها أيقنت، أن السفيرة جبر ستظهر عما قريب وتلوك سمعة المكلومين، كيف أيقنت؟

* * *

قرأت المنشور في الشهور الأربعة المنصرمة، ولفت انتباهي الاهتمام الشديد بموضوعين: التهنئة بالمناسبات الدينية (بداية العام الهجري، وعيد الأضحى) وتهنئة الرياضيين الحاصلين على جوائز وميداليات في مسابقات رياضية مختلفة، وكانت تهنئة الرياضيين وفق صيغة واحدة، تنتهي بسطرين لا يتغير فيهما حرف ولا فاصلة، على مدار ثلاثة أشهر، كانت الصياغة واحدة على الرغم من الاختلاف والتباين بين الرياضات والمسابقات والرياضيين، كانت نهايات التهنئة ثابتة، مع تغيير لا مهرب منه وهو العدد؛ تهنئة بطل، اثنين، أكثر من اثنين، وهكذا تأتي الخاتمة:

"وأشارت السفيرة نائلة جبر رئيس اللجنة إلى أن هؤلاء الأبطال نموذج يحتذى به للشباب وهم فخر للرياضة المصرية. وقالت جبر إن الرياضة تتيح دائما فرصة للشباب للتعبير عن طموحاتهم والسعي من أجل مستقبل واعد لهم ولوطنهم". (صححت عددا معتبرا من الأخطاء الإملائية).

قد أفهم أن السفيرة، جبر ليست هي من يحرر الصفحة، وأنها بالتالي غير مسؤولة مباشرة عن محتواها، وأن المسؤول هم مجمل أعضاء اللجنة، وسوف أعود لأستعرض تكوين اللجنة، لكني أسجل أن صفحة اللجنة الوطنية لمكافحة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، في حين تحرص على التهنئة بالمناسبات الدينية وتهنئة الرياضيين، فإنها في يوم 23 تموز/ يوليو، في اليوم الذي نشرت فيه هذه التهنئة: "تهنئ اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر البطلة نور الشربيني لفوزها ببطولة العالم للاسكواش- سيدات، كما تهنئ البطل علي فرج لفوزه ببطولة العالم للاسكواش- رجال التي أقيمت في الولايات المتحدة".. أغفلت مناسبة أخرى، تعد في نظر القانون وفي نظر مختلف دول العالم "العيد الوطني المصري"، وربما تعد كذلك بالنسبة لعدد من المصريين، لا يمكنني تقدير نسبتهم.

* * *

سأذكر تكوين اللجنة، لكني سأسجل ملاحظة عامة على القانون واللائحة وتشكيل اللجنة.

في 9 أيار/ مايو 2010 صدر القانون رقم 64 بشأن مكافحة الاتجار بالبشر، وفي 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 صدر قانون 82 بشأن مكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين. قد يكون مفهوما أن متغيرات السنوات الخمس اقتضت إصدار قانون جديد، لكن ما يصعب فهمه أن يصدر رئيس مجلس الوزراء القرار رقم 192 لسنة 2017 بتشكيل اللجنة الوطنية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، ثم بعد ثلاث سنوات يصدر القرار رقم 60 بتشكيل جديد للجنة، وهذا هو التشكيل المعمول به في هذه اللحظة: "تشكل اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر برئاسة أحد الخبراء المتخصصين وعضوية كل من:

أولا- ممثلين عن كل من الوزارات والهيئات والجهات الآتية: وزارة الدفاع، وزارة الخارجية، وزارة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج، وزارة السياحة والآثار، وزارة القوى العاملة، وزارة العدل، وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وزارة التعاون الدولي، وزارة التنمية المحلية، وزارة الداخلية، وزارة الصحة والسكان، وزارة الشباب والرياضة، وزارة الدولة للإعلام، وزارة التضامن الاجتماعي، وزارة التجارة والصناعة، وزارة شؤون المجالس النيابية، الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة، المجلس القومي لحقوق الإنسان، المجلس القومي للمرأة، المجلس القومي للطفولة والأمومة، النيابة العامة، المخابرات العامة، هيئة الرقابة الإدارية، الهيئة العامة للاستعلامات، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، جهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، وحدة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ثانيا- اثنين من الخبراء، يرشحهما رئيس اللجنة".

* * *

لماذا ذكرت هذا القائمة الطويلة؟

ذكرتها كضرورة إجرائية لهذا السؤال: كل هؤلاء الممثلين لهذه الوزارات والهيئات والجهات لم ينظروا لموقع اللجنة "الوطنية" ولم يلاحظوا مسألة نسيان العيد الوطني؟!

هذا سؤال صادق النية وليس سخرية، ولا تماحيك، بلغة العامة.

مقر اللجنة يقع في مبنى وزارة الخارجية، والسفيرة جبر لا بد أن تكون قد شاركت في عشرات الاحتفالات الرسمية في سفارات وقنصليات جمهورية مصر العربية في الخارج بالعيد الوطني، لبست أفضل ما في خزانتها وصافحت ورحبت بالممثلين الرسميين، والشخصيات العامة التي جاءت لتقديم التهنئة بالعيد الوطني، فكيف تنسى؟ وإذا نست هي، كيف ينسى ممثلو: الدفاع، المخابرات، الداخلية، العدل، الإعلام؟ أظن أن ممثل وزارة الإعلام التي لم يعد لها وجود ولا وزير أكثر الملمين، ولا داعي للسؤال عن الباقين.

استغرقنا وقتا طويلا في تفصيله، ليس مهما تقدير قيمتها، والحاصل أن فاجعة مروعة أصابت قرية كاملة، وأن المسؤولة، السفيرة جبر، قالت: "لا أغفر للأسر التي ألقت بأبنائها في التهلكة".

‎استفظعت كلام السفيرة جبر لأني شاهدت على صفحة اللجنة "الوطنية" عددا كبيرا من المقاطع المصورة لمسؤولين مصريين؛ من بينهم جبر نفسها، ومسؤولين دوليين أجانب، بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالبشر، والذي يقام سنويا في 30 تموز/ يوليو. وقد كرر الجميع أن الاحتفال هذا العام يأتي "كتذكرة للدور الذي ينبغي أن نواصل القيام به للتصدي لهذه الجريمة. المحور الرئيسي لهذا العام يشدد على أهمية وضع ضحايا الاتجار بالبشر والناجين منه في صميم العمل، ويسلط الضوء على أهمية الاستماع إلى تجارب الناجين حيث تمثل دوراً أساسياً في منع الاتجار بالبشر وفهم كيفية تلبية احتياجاتهم بشكل أفضل".

* * *

المكلومون في أطفالهم فزعون، يشعرون أنهم متهمون، يدفعون بأن أطفالهم غادروا دون علمهم، غادروا إلى ليبيا، البلد الذي تجري فيه وقائع نزاع أهلي، بلد غير مستقر، غادروا عبر حدود يحرسها ومسؤول عن تأمينها قوات من وزارات وأجهزة تعلن أن لديها "خطوطا حمرا".. غافل الأطفال هؤلاء، أم تم تمريرهم؟

لوم الضحايا بشع، والأكثر منه بشاعة أن يكون ذلك ليس فقط بدافع التخلص من المسؤولية والمحاسبة، فشبهة محاولة هضم حقوق الضحايا تلوح فوق الرؤوس.

نقرأ من القانون 82 لسنة 2016 فصله الختامي كاملا: "الفصل السادس- صندوق مكافحة الهجرة غير الشرعية وحماية المهاجرين والشهود

المادة 32

ينشأ صندوق يسمى "صندوق مكافحة الهجرة غير الشرعية وحماية المهاجرين والشهود" تكون له الشخصية الاعتبارية العامة وموازنة خاصة ويتبع رئيس مجلس الوزراء، وتبدأ السنة المالية له ببداية السنة المالية للدولة وتنتهي بنهايتها، ويشار إليه في هذا القانون بـ"الصندوق".

ويتولى الصندوق تقديم المساعدات المالية للمجني عليهم ممن لحقت بهم أضرار ناجمة عن أي من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون.

ويكون للصندوق مجلس إدارة برئاسة رئيس اللجنة، ويصدر بتنظيم هذا الصندوق وتشكيل مجلس إدارته، وتحديد اختصاصاته الأخرى قرار من رئيس مجلس الوزراء.

المادة 33

تتكون موارد الصندوق مما تخصصه له الدولة في الموازنة العامة، وما يعقده من قروض وما يقبله من تبرعات ومنح وهبات من الجهات الوطنية والأجنبية بما يتفق مع أغراضه.

المادة 34

يكون للصندوق حساب خاص بالبنك المركزي المصري تودع فيه موارده المالية، ويتم الصرف منه على أغراضه. وتخضع أمواله لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات".

للصندوق مهمة واحدة هي "تقديم المساعدات المالية للمجني عليهم ممن لحقت بهم أضرار ناجمة عن أي من الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون".

قد يحتمل لوم الضحايا، وحتى محاولة هضم حقوقهم، مع بشاعتهما، أما الذي لا يحتمل فهو أن يكون هؤلاء الأطفال والشباب اليافع من تلبانة قد قتلوا عمدا، ولم يغرقوا مصادفة. ففي أوائل الشهر الماضي عقدت إيطاليا والحكومة الليبية اتفاقا للتعاون بين البحرية الإيطالية المسؤولة عن تأمين الشواطئ أمام قوارب المهاجرين؛ وبين جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية الليبي. وقبل هذا الاتفاق بأيام قليلة ذكرت تقارير صحفية موثوقة أنه تم إطلاق النيران في المياه الدولية على مراكب كان يشتبه في أنها تقل مهاجرين.

* * *

تلبانة تعري الجميع، ولا شك عندي في أن المسؤولية عن مصرع أطفال وشباب القرية في رقبة اللجنة "الوطنية". لا أتحدث عن المسؤولية السياسية والأخلاقية، بل عن المسؤولية الجنائية. هناك بوضوح تقصير في الرقابة على الحدود البحرية والبرية تتحملها جهة ما، هناك تقصير من الأمن، فهذا العدد الكبير الذي يرحل عن قرية في وقت واحد يستحيل أن يمر دون علم الأمن الذي يعرف دبة النملة. هناك تهم جنائية، لكني مفرط في الحماس.. هناك أولا ضرورة لفتح تحقيق، ها هو الحماس ينسرب، على الأقل اعتذار من السفيرة، على الأقل تقول لم أقصد، طيب ينفع تقول: اختيار التوقيت لم يكن مناسبا، طيب عبروا أهلنا، طيب السنة القادمة لا تنسوا العيد الوطني، طيب: السلام عليكم.

 


التعليقات (0)