الاستشهاد بآراء ومواقف لشخصيات غير مسؤولة ليست من الطرق المفضلة في الكتابة، والكثير من الكتّاب والصحافيين ينزعج من مثل العبارات التي تبدأ بـ"قال لي سائق التاكسي"، "أخبرني زوج خالتي في سهرة عائلية". وأنا في الغالب أوافقهم من حيث المبدأ، على أن آحاد الناس لا يركن لمواقفهم وآرائهم إلا على سبيل الاستدلال، لكني وجدت نفسي في موقف حرج للغاية قبل أيام، إذ أنني وخلال أقل من ساعة صادف أن سمعت حكايات من آحاد الناس، رسمت حين تجمعت صورة شديدة القتامة، فصرخت - رغما عن إرادتي - غير معقول، أنتم تقولون إن كل
مصري متهم حتى ولو ثبت العكس، وكان ردهم، وبكل هدوء وسكينة واطمئنان: صحيح ما توصلت إليه، الواقع هكذا، وزادوا في الشرح والتوضيح.
بعض ما قيل في تلك الجلسة العابرة، التي رتبتها مصادفات عجيبة، لم يكن بمفرده يثير الغضب، لكنها بتجمعها بجوار بعضها البعض رسمت تلك اللوحة القاتمة.
سأنقل لكم ثلاث حكايات، تأكدت بنفسي وعبر تدقيق صارم من صدقها وعموميتها:
طبيب عمل بكفاءة مشهودة في مستشفيات وزارة الصحة حتى بلغ سن التقاعد، وكان خلال عمله في "الحكومة" قد أكمل دراساته العليا فحصل على الماجستير والدكتوراة، وتميز بإحجامه عن العمل خارج أوقات العمل الرسمي في أي من العيادات الخاصة.
وهو إذ أصبح على المعاش أراد أن يكمل مسار مهنته بافتتاح عيادة خاصة، وشرع في الإجراءات الطويلة والمعقدة، والتي لديه معرفة جيدة بها من خلال أحاديث الزملاء. لكن موضوع موافقة
الأمن أثار حفيظته حين طرح عليه من قبل موظفة وزارة الصحة، التي بدا الطبيب لها وكأنه كان في الخارج ولا يدري ما يجري في البلد، كما قالت له مداعبة "يا دكتور الظاهر وجودك برا نساك البلد واللي بيحصل فيها". فأوضح لها موقفه الوظيفي ومعرفته بالأحوال، لكنه يبدو أنه نسي موضوع موافقة الأمن هذا، ثم أخبرها أنه لا يمانع أبدا في أية إجراءات من أجل أمن الوطن، فأخبرته أن الموافقة قد تستغرق نحو شهر، فقال: لا بأس. وانتظر أكثر من أربعة أشهر كاملة، كان خلالها كل شيء معلقا، ينتظر تلك الموافقة.
الأهم أن الطبيب الذي خبر الحياة لستة عقود كاملة، تعرف خلال الأربعة أشهر على ما أقلقه بعض الشيء، فهو إذا كان ساخرا ينقل استغرابه من موضوع موافقة الأمن هذه لزملاء في قطاع المهن الطبية، اكتشف أنه لا تفتح صيدلية ولا معمل ولا عيادة ولا محل لبيع المستلزمات الطبية من دون الحصول على تلك الموافقة.. القطاع الطبي بكامله عليه الحصول على موافقة أمنية كشرط مسبق، ولا فائدة لأية موافقات واشتراطات في حال غيابه.
أما ما صدم الطبيب المتقاعد فتلك الحكايات المتناثرة عن الذين لم يحصلوا على الموافقة، وكم بذلوا من جهد لمحاولة الوقوف على أسباب الرفض، قبل الحديث بالطبع عن تجاوزه. وكان دائما يدفع بأنه في النهاية "موظف حكومي متقاعد"، تعرف الحكومة سمعته وتقدره بشهادات موثقة وتقديرات معلنة، وكان مؤلما له للغاية ما كان يتلقاه من ردود على كلماته الأخيرة.
وغاية الآلم كانت عبر أصدقاء وأقارب من خارج القطاع الطبي: محامين، ومهندسين، ومحاسبين، ومهن عديدة على ذات المستوى، أجمعوا على أن لا إجراء متعلقا بمكان يتم دون موافقة الأمن المسبقة، محام تريد فتح مكتب للمحاماة، محاسب تريد فتح مكتب للمحاسبة، عليك أن تنتظر موافقة الأمن مسبقا.
الحكاية الثانية جاءت من إحدى الكليات بإحدى الجامعات الإقليمية، كانت الموافقة الأمنية على تسجيل رسالة الدكتوراة قد تمت، من قبلها كانت الموافقة على الماجستير، وحين انتهى الباحث من كتابة الرسالة، تقدم بطلب لتحديد موعد المناقشة فتم إخباره بضرورة التقدم بطلب الحصول على موافقة أمنية جديدة، ففعل، ولكن الموافقة تأخرت وما من سبيل لاستعجالها.
وفي يوم ذهب باحث الدكتوراة للسؤال عن الموافقة المنتظرة، وصادف أن استمع لما هاله من الغرابة، فقد كان والد أحد السجناء يكمل أوراق ولده الذي أعد رسالة ماجستير وهو في السجن وتقدم بطلب لتحديد موعد المناقشة وتم له ما أراد. وقد سأل الباحث والد السجين بضعة أسئلة، في مقدمتها وختامها التمنيات المعتادة بالتوفيق، وعندها تبين للباحث أن إجراءات السجين أكثر يسرا من إجراءات الطليق، فخطر بباله خاطر مزعج، طرده بالاستغفار والدعوة للصبر.
لكن ظل السؤال: إذا كان السجين من حقه إكمال دراسته كيفما يريد، فلماذا على الطليق، غير المدان، غير المتهم، أن ينتظر موافقة الأمن؟ فماذا يمكن أن يكون من سبب يمنع إنسان من البحث والدراسة؟
الحكاية الثالثة كانت تحتاج لتدقيق صارم، فقد بحثت طويلا ولم أجد أي مسؤول يصرح بإغلاق المقاهي أثناء إقامة بعض مباريات كرة القدم التي يكون أحد طرفيها النادي الأهلي. لكن الغلق كان واقعا طوال عامين كاملين، غلق في بعض الأماكن دون غيرها، وقد حاولت رصدها بدقة فلم أفلح.
فما هي الحكاية أصلا؟
كان صديقي الذي نقل لي تفاصيل هذه الحكاية، في ذات الجلسة التي طرحت فيها مسألة الطبيب والباحث، قد اضطرته ظروف خاصة للجلوس على المقهي كي ينهي بعض أعماله العالقة، وانتظمت، لفترة ليست قصيرة، فترات جلوسه، حتى عُد من "زبائن المقهي". وذات يوم طلب منه عامل المقهي أن يلملم أشياءه ويغادر لأنهم سيغلقون المقهي، وأظهرت دهشته مدى جهله بوقائع الحياة. مازحه العامل، وجاء صاحب المقهى معتذرا، وأوضح له أن الأمن يمر على المقاهي قبل مباريات الأهلى التي يلعبها ضمن بطولات أفريقيا، أو تلك التي يكون في مواجهته الزمالك، ويطلب إغلاق المقهي طوال المباراة. وحاول صديقي إرجاع السبب لأي مبرر منطقي فعجز، وترك الأمر، غادر وعاد بعد نهاية المباراة، وعاود إيقاع الحضور ذاته، حتى حدثت الحكاية المراد حكيها، فما مضى كان مقدمة.
لصاحب المقهى أخ شاب، جاء من بلدهم في الصعيد قبل أيام، وكان في غيبة الأخ صاحب المقهى (المعلم)، يجلس مكانه ويباشر الإدارة كمعلم "مستجد"، لكنه يريد أن يظهر وكأنه "متمكن"، وحدث أن جاءه العمال ليخبروه بضرورة غلق المقهى، فاستفسرهم، وأوضحوا، وعاند، وجاء الضابط، وجرى الحوار التالي:
الضابط: أنت ما قفلتش ليه يا.. (شتيمة نابية)؟
المعلم (المستجد): من غير شتيمة، ليه أقفل، ليه، إيه السبب؟
الضابط آمرا الجنود: هاتوا لي الـ(.....)، وهاتوا شوية كراسي وترابيزاتن والتلفزيون الكبير.
ليس مهما ما جرى في المساء واليوم التالي، فقد عاد المعلم الشاب سالما، غير مهان في الظاهر، وعاد التلفزيون الكبير، دون باقي الأشياء المصادرة. المهم هو ما حدث في المبارة التالية، فقد كان موعدها الساعة التاسعة والنصف مساءً، وقد رتب صديقي وقته على ذلك، فجلس مطمئنا الساعة الواحدة ظهرا، وفي ظنه أنه يملك على الأقل سبع أو ثماني ساعات عمل قبل الغلق، لكنه فؤجئ بالمعلم الشاب يطلب منه "تقفيل" الشغل الساعة الرابعة عصرا، استفسر صديقي، فأجابه المعلم: عارف لسه خمس ساعات ونص، بس أنا عايز أجامل الضابط وأقفل بدري.
لم ينطق صديقي وغادر، وفي اليوم التالي انتهز فرصة أظهر فيها المعلم الشاب ودا بالغا تجاهه، حيث قام بنفسه بتنظيف الطاولة وجلب له بنفسه المشاريب، فسأله، فأجاب: كل مصري متهم، كانوا زمان بيقولوا لنا "المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، دا زمان، دلوقتي كل مصري متهم حتى ولو ثبت عكس ذلك.
قال صديقي: هل تعرف سببا منطقيا لمسألة غلق المقاهي هذا؟
سأله: منطقي، آه أعرف، في العكننة، وفي الإذلال، وأنت اختار.