إدراكا لعظم المهة الراهنة، وسعيا نحو سبل الخلاص من وهن اللحظة الآنية، وانشغالا بتجلية المفاهيم، وإماطة اللثام عن الحقائق، فالرائد لا يكذب أهله، وتأخير البيان عن وقته نوع من الكتمان الذي نهى الله تعالى عنه، وهو القائل: "فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" (البقرة: 283)؛ سأنطلق مباشرة للبحث عن العمل البناء، والسعي الفعال، والتفكير المثمر، استجابة لتكليف الله تعالى بالسعي، وتلبية لنداء من تواصلوا للتعاون، وتحاوروا للتناصح، وتعاهدوا على بذل ما يملكون لتحرير إخوانهم وأخواتهم، واستجابة لأصحاب الأفكار القاصدة، والجهود المخلصة، الذين رأوا في رسالتي السابقة صرخة محب وليست كيد عدو، وبيانا شرعيا وليست مكايدة سياسية، وأنها دعوة للبذل والعمل، وليست مسبة لأحد أو انتقاصا لجهد مجتهد، وكما قال الله تعالى على لسان نبيه شعيب عليه السلام: "إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" (هود: 88).
وأبدأ ذلك بتقرير المرتكزات الشرعية والفكرية للانطلاق على النحو الآتي:
أولا: هؤلاء الأسرى المعتقلون المُختطفون المسجونون ظلما وعدوانا في
مصر، يجب على الأمة وجوبا شرعيا (يأثمون بتركه) بذل كل غال وثمين لتخليصهم؛ ففكاك أسرهم كما قال ابن تيمية وغيره: من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات، وفداؤهم واجب وإن لم يبق درهم واحد.
ثانيا: ليس على الأسرى والمعتقلين من سبيل، فقد بذلوا ما لا تسع موازين البشر تقديره، ولا يحيط بمقداره إلا من وسع كل شيء علما، وليس لأحد أن يأخذ لهم موقفا، أو يُملي عليهم رأيا.
ثالثا: ليس على أهل الأسرى والمعتقلين من شيء سوى ما يبذلونه من رعاية وعناية وتضحية وبذل وتثبيت، وحمل لأعباء تنوء بثقلها الجبال. ونسأل الله لهم الثبات والعون والفرج.
رابعا؛ إن تقزيم القضية تحت مسميات شتى، ومبررات فجة، لتشريع ما نحن عليه من تخاذل، وما أصابنا من وهن، وما ابتلينا به من تكلس في العقول ونضوب في الأفكار، لهو جريمة شنعاء، ومشاركة فاعلة في إهدار الحقوق وسفك الدماء.
خامسا: لا يزايد أحد علينا بذكر وافر الأجر وعظيم المثوبة، وقدر الله المحتوم، وسنة الله في الدعوات، فأجر الأسير المظلوم لا يُبرئ ساحة المقصرين في استخلاصه، وقدر الله الحقيقي يتمثل في أن كل شبر صادق في السعي إلى مرضاته موعود بذراع منه قربا، ومددا، وعونا، وتوفيقا. وسنة الله في الدعوات تتمثل في استخلاص الدروس من مجريات الأحداث، وعدم تكرار الأخطاء، ومحاسبة النفس قبل اتهام القدر. قال تعالى: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ"، ومن ثم فالواجب الأول: هو محاسبة النفس وتصحيح الأخطاء وتقويم المسيرة.
أما الإصرار على عدم مراجعة المواقف، فهو تزكية خطيرة للنفس تؤخر النصر، وتُطيل عمر الظلم. وإذا كان الله تعالى قد أخبر الصحابة بأن نفوسهم كانت سببا في هزيمة أحد، أفلا نراجع نحن نفوسنا من باب أولى، فربما تكون هي سبب ما لحق بنا من هزائم؟
وتغيير ما بالمجتمعات مرهون بتغيير ما بالأنفس، والإصرار على ما في النفوس من عوج، وما في القلوب من مرض، وما في السلوك من انحراف أو التغاضي عن ذلك هو في الحقيقة إعانة للظالم وتسهيل لمهمته وإطالة في عمر تجبره.
سادسا: لا أعلم قضية منتصرة كقضية المظلومين، ولا أعلم سعيا مباركا كالسعي لتحريرهم، فقد علمنا القرآن أن إحياء النفس وتخليصها بمنزلة تخليص للبشرية كلها وإحيائها، فما بالك بتحرير ما يزيد على أربعين ألف نفس زكية. قال تعالى: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا".
وإذا كان السعي في قضاء حوائج المسلمين بمنزلة استمداد حقيقي لسعي الله في حاجتنا كما قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ. من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيام، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة".
ومن ثم فإني أرى أن السعي في تحريرهم سيكون بابا لتحرير الأمة من أغلالها وتخليصها من قيودها، واستعانة حقيقية بالله لكسر شوكة الطغيان والاستبداد في الأمة كلها، فضلا عن وجوبه شرعا على كل مسلم بحسب ما يستطيع.
سابعا: لا أريد من أحد أن يُرسل لي تقريرا بأنه فعل المستحيل، بل عليه أن يُعد هذا التقرير للعرض على من لا تخفى عليه خافية، فما عليّ إلا أن أستصرخ الجميع؛ أن أعدوا لسؤال الله عن حقوق علينا لأبنائنا وبناتنا وإخواننا وأخواتنا في
سجون الظالمين: هل أديناها كما أوجبها الله تعالى علينا، أم أهدرنا الحقوق وضيعنا الأمانة؟ ولندرك أن المسؤولية عند الله فردية، فلا يركن أحد لجهد غيره، "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى".
وإذا كنتَ بذلت جهدك حقا، فلا عليك أن ترد عليّ، فأنا المقصر ولست أنت، لأني أوقن وأمثالي بأننا ما قمنا بأداء ما أوجبه الله علينا نحو إخواننا وأخواتنا حق القيام، وما ذلك إلا لأننا ندرك أن واجبنا هو إخراجهم وتحريرهم وليس تحسين ظروف سجنهم، واجبنا بذل كل ما نملك لفك أسرهم، وليس فقط لوقف إعدامهم المباشر وغير المباشر!!
ثامنا: ينبغي ألا تُربط قضيتهم بانتهاء التآمر العام على الإسلام والمسلمين فذاك لن ينتهي الآن، فهو صراع دائم من بداية الحياة إلى نهايتها. كما ينبغي ألا نربط قضيتهم بتغيير نظام الحكم في مصر فحسب، فذلك واجب متسع، أما تحريرهم فهو واجب مُضيق، وكل لحظة تمر عليهم في أسرهم لا تعدلها الدنيا بأسرها.
فقضيتهم أعلى وأغلى وأهم من كل المشروعات السياسية المحق منها والمبطل، الحقيقي منها والوهمي، فهي قضية الإنسان الذي كرمه الله تعالى، فجعل حرمته أعظم من حرمة بيته الحرام، فلا نربط القضية بمكاسب سياسية متوهمة أو خسائر حزبية متوقعة.
تاسعا؛ إن كل ثمن يُدفع في تحريرهم رخيص، وكل تضحية تبذل من أجل تحريرهم مشروعة إن لم تكن واجبة، وإذا كان الله في عليائه رفع الحرج عن المضطر في النطق بكلمة الكفر مع اطمئنان قلبه بالإيمان فما دون ذلك أيسر وأقل حرجا. ومعارك الأمس لا تُدار بأدوات اليوم، ومعارك الغد لها رجالاتها وأدواتها التي تنجح بقدر ما بُذل قبلها من إعداد، وما استُشرف فيها من مستقبل، وما تُملك فيها من معلومات.
عاشرا؛ إن الحقوق لا تُوهب ولا تستجدى من مجتمع دولي، أو نظام سياسي، أو حاكم مستبد، ولكنها تُنتزع انتزاعا، تُنتزع بامتلاك أدوات الصراع، وأوراق الضغط، تُنتزع بتبادل المصالح، تُنتزع بحملة علاقات عامة علمية فاعلة، تُنتزع بصناعة قيادات حقيقية تملك الحنكة السياسية، والخبرة الحقوقية، والمهارة الإدارية، والصنعة الإعلامية.. إلخ، تُنتزع بتدشين مؤسسات حقيقية فاعلة لا تتخصص فقط في استغلال الأوراق المتاحة، بل وتعمل على صناعتها أيضا.
وأخيرا أقول:
ماذا لو تترسنا جميعا خلف تلك القضية؟ ماذا لو كان إخواننا في السجون مفتاح نجاحنا، وباب وحدتنا، وجسر مودتنا؟ ماذا لو بحث كل منا عن واجبه فأتقنه وعن مهمته فأجادها؟ فما واجباتنا لنتقنها، وما مهماتنا لنجيدها؟
هذا هو موضوع المقال القادم بإذن الله تعالى.