عقب انتهاء الحرب الباردة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية وغياب المنافسة
الاستراتيجية بين الدول، دخلت الولايات المتحدة الأمريكية في حروب مفتوحة في الزمان وممتدة في المكان مع عدو غير مرئي أطلقت عليه "
الإرهاب"، وهو مصطلح مخاتل تحدد ماهيته خطابات القوة واستراتيجيات الهيمنة، ويكافئ دوماً "الإسلام".
وقد شكّلت هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر فرصة سانحة لإعادة تشكيل العالم وفقاً لمقاسات الإمبراطورية الأمريكية الجامحة، وبرز مصطلح "الحرب الأبدية" ضد الإرهاب مع أولى الغزوات الأمريكية على أفغانستان فالعراق، وامتدت الحرب إلى أكثر من 60 بلداً بطرائق عدة.
بعد مرور نحو عشرين عاماً على هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وتحول البيئة الجيوسياسية بظهور الصين كمنافس استراتيجي، شرعت الولايات المتحدة بإعادة النظر في معنى الحروب بلا نهاية ضد الإرهاب. وفي سياق التحول ادعت أمريكا أن الإرهاب الدولي أقل خطورة بكثير مما كان يشاع، إذا قورن بالمنافسة بين الدول، وعند مقارنته بالعنف الذي يمارسه المتطرفون المحليون اليمينيون، أو وباء كوفيد-19، وهو ما أفضى إلى الانسحاب من أفغانستان وما سيفضي إلى الانسجاب من الشرق الأوسط.
ورغم أن الدراسات النقدية للإرهاب أكدت على مدى سنوات على ظاهرة تضخيم خطر الإرهاب على الأمن العالمي، وعلى سوء استخدام ذريعة الحرب على الإرهاب وأنه لا يعدو عن كونه عنفا سياسيا، وشددت على إرهاب الدولة، فقد أصرت الولايات المتحدة على قمع الأصوات النقدية واعتبرتها مساندة ومبررة وميسّرة للإرهاب.
رغم أن الدراسات النقدية للإرهاب أكدت على مدى سنوات على ظاهرة تضخيم خطر الإرهاب على الأمن العالمي، وعلى سوء استخدام ذريعة الحرب على الإرهاب وأنه لا يعدو عن كونه عنفا سياسيا، وشددت على إرهاب الدولة، فقد أصرت الولايات المتحدة على قمع الأصوات النقدية واعتبرتها مساندة ومبررة وميسّرة للإرهاب
على مدى سنوات الحرب على الإرهاب مارست الولايات المتحدة إرهاباً منظماً ضد أي دولة أو مؤسسة أو شخصية تشكك في مشروعية وجدوى الحرب على الإرهاب، ومولت بسخاء جهود مكافحة الإرهاب. فقد أنفقت حسب مشروع تكاليف الحرب في معهد واتسون في جامعة براون؛ نحو 5.6 تريليون دولار، وادعى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أن الكلفة تزيد عن سبعة تريليونات دولار "ضاعت في حروبنا اللامنتهية في الشرق الأوسط العظيم".
كل ذلك في سبيل ملاحقة مجموعة جهادية صغيرة تدعى القاعدة، حيث جرى نشر قوات مكافحة الإرهاب عبر الشرق الأوسط وأجزاء من آسيا وأفريقيا، ما حول مدنا عديدة في المنطقة من الموصل إلى الرقة إلى سرت وغيرها؛ إلى ركام دون أي أفق جدي لإعادة الإعمار ومساعدة المهجرين داخل أوطانهم، وخلق موجات واسعة من اللجوء غير مسبوقة، وتحولت دول عديدة في الشرق الأوسط إلى الخراب، والمزيد من الاستبداد باسم حرب الإرهاب.
تحت ذريعة حرب الإرهاب تمت عملية صناعة الإرهاب، والآن يقال لنا إن الحملة الدولية على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لم تحقق سوى انتصارات تكتيكية وقتية، دون تحقيق نجاحات استراتيجية مستدامة. والحقيقة أن نهج مكافحة الإرهاب الخاطئ والكارثي أدى إلى خلق بيئة مثالية لتجذر إرهاب يستند إلى أسباب جذرية وعميقة، سياسية واقتصادية واجتماعية.
تحت ذريعة حرب الإرهاب تمت عملية صناعة الإرهاب، والآن يقال لنا إن الحملة الدولية على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لم تحقق سوى انتصارات تكتيكية وقتية، دون تحقيق نجاحات استراتيجية مستدامة. والحقيقة أن نهج مكافحة الإرهاب الخاطئ والكارثي أدى إلى خلق بيئة مثالية لتجذر إرهاب يستند إلى أسباب جذرية وعميقة
فقد استثمرت الجهادية العالمية بقيادة القاعدة هذه الأسباب، وتحولت من مجموعة صغيرة في أفغانستان إلى شبكة عالمية واسعة ممتدة. وقد فوجئ العالم قبل نحو سبع سنوات في حزيران/ يونيو 2014، بظهور نهج جهادي جديد، عندما أعلن أبو بكر البغدادي قيامَ خلافة في العراق وسوريا ونصّب نفسه خليفة، حسب دانيال بايمان. وقد سيطرت مجموعته، التي أعاد تسميتَها تنظيم "الدولة الإسلامية" على أراض تقدر مساحتها بمساحة بريطانيا، وتضمّ 10 ملايين شخص. حينها بدت أهمّية إنجازات تنظيم القاعدة وغيرها من المجموعات الجهادية تافهة أمام هذا الإنجاز.
ولا تزال قدرة الجذب التي تتحلّى بها أيديولوجية تنظيمَي الدولة والقاعدة قويةً، وستسعى أعداد ضئيلة من التابعين لهما في الغرب إلى حمل السلاح. ورغم أنّ الخطر اليوم أقلّ تهديداً ممّا كان عليه في العام 2014، فإن على صانعي السياسات الإقرار بأنّ تحقيق نجاح جزئي قد يكون أفضل ما سيحصلون عليه.
منذ خسارة تنظيم الدولة آخر جيب يسيطر علية في منطقة "الباغوز" شمال شرق سوريا، في آذار/ مارس 2019، بعد تشكيل تحالف دولي يضم 83 دولة بقيادة أمريكا، تراجعت قدرات التنظيم على شن هجمات كبيرة، وتحول من نهج الحروب الكلاسيكية والسيطرة المكانية والتمكين، إلى نهج الاستنزاف وحرب العصابات والنكاية، وتحول من حالة المركزية إلى اللامركزية. وأثناء ذلك تراجع الاهتمام بمكافحة الإرهاب مع حلول جائحة "كورونا"، وتغير الأولويات الأمريكية إلى التركيز على المنافسة الاستراتيجية مع الصين وروسيا، ومواجهة عواقب الأزمة الصحية والاقتصادية التي خلفتها الجائحة.
وتبدو المقاربة الأمريكية حول التعامل مع الظاهرة الإرهابية في غاية الأهمية، فهي الدولة القائدة لجهود مكافحة الإرهاب. وقد برهنت السنوات الماضية منذ عقدين على ضعف الأنظمة المحلية في مواجهة الإرهاب، وافتقارها إلى القدرات العسكرية والأمنية والاقتصادية الكافية لمواجهة الحركات الجهادية، فضلاً عن عجزها عن إرساء نظم سياسية تتمتع بالشرعية والاستقرار، وافتقارها إلى قواعد الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، وهي الأسباب الجذرية للتطرف العنيف والبيئة المثالية لنمو الإرهاب.
تبدو المقاربة الأمريكية حول التعامل مع الظاهرة الإرهابية في غاية الأهمية، فهي الدولة القائدة لجهود مكافحة الإرهاب. وقد برهنت السنوات الماضية منذ عقدين على ضعف الأنظمة المحلية في مواجهة الإرهاب، وافتقارها إلى القدرات العسكرية والأمنية والاقتصادية الكافية لمواجهة الحركات الجهادية، فضلاً عن عجزها عن إرساء نظم سياسية تتمتع بالشرعية والاستقرار، وافتقارها إلى قواعد الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان
في هذا السياق فإن المراجعة الأمريكية لأولوية الحرب على الإرهاب لها تداعياتها على بقية دول العالم، ورغم النجاحات التكتيكية، فإن المقاربة الأمريكية تكتنفها عيوب استراتيجية. إذ تحولت الحرب على الإرهاب إلى أطول صراع مسلح مستمر في تاريخ الولايات المتحدة، حسب بروس هوفمان. فقد استمرت الحرب لفترة أطول من مشاركة أمريكا في الحربين العالميتين، وتجاوزت حتى الفترة التي كان الجيش الأمريكي يشارك فيها بنشاط في العمليات القتالية خلال حرب فيتنام. ولقد كلفت حرب الإرهاب الولايات المتحدة أكثر من خمسة تريليونات دولار، ولقي أكثر من 7000 جندي عسكري أمريكي حتفهم.
ومع ذلك، ومع دخول الحرب على الإرهاب عقدها الثالث، فإن أي نوع من أنواع الانتصار الحقيقي يبدو بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى. واليوم، يظل الاستقرار والأمن في العراق سلعتين قابلتين للتلف. وبعد مرور ثمانية عشر عاماً، ما زالت بذور الديمقراطية التي كان مخططو الغزو يتحدثون عن غرسها في بغداد، ومن ثم السماح لها بالانتشار في المنطقة بأسرها، لم تتحقق بشكل مأساوي، ولكن أدت تجربة أمريكا الكئيبة في العراق إلى عواقب غير مقصودة لنشر البؤس والموت والدمار المستمر هناك. وقد امتد ذلك إلى الدول المجاورة أيضاً. وبعد مرور 20 عاماً من تحرير أفغانستان من حكم طالبان، دخلت الولايات المتحدة في اتفاقية مستعجلة؛ تتمتع بكل الإمكانية لإعادتهم مرة أخرى إلى السلطة.
تميّز نهج الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب بموقف عالمي قائم على الدفاع الأمامي العدواني. وكما قال وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس، "من الأفضل محاربتهم على خط العشر ياردات لديهم بدلاً من مقاتلتهم على خط العشر ياردات لدينا". وقد حقق هذا المشروع لمكافحة الإرهاب نجاحاً ملحوظاً من منظور تكتيكي، حيث أسفر عن إحباط هجمات وتعطيل شبكات إرهابية.
وتتطلب الحماية من الهجمات المستقبلية تيقظاً وحذراً مستمرين، ولكن بعد مضي ما يقرب من عشرين عاماً على أحداث أيلول/ سبتمبر، وحسب ماثيو ليفيت، هناك إجماع متزايد على أن موقف الدفاع الأمامي الذي تنتهجه الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب غير مستدام مالياً وغير متوازن استراتيجياً مع احتياجات الموارد الخاصة بتهديدات الأمن القومي الأخرى.
وقد اتفقت الإدارتان الأمريكيتان السابقتان على وجوب قيام الولايات المتحدة بتقليص وجودها العسكري في جميع أنحاء العالم، وعكْس النموذج القائم منذ وقت طويل لنهج مكافحة الإرهاب العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة ويمكّنه الشركاء، وتركيز جهودها على الجماعات الأكثر قدرة على استهداف الوطن الأمريكي.
وكما توضح "استراتيجية الدفاع الوطني" لعام 2018، فإن "التنافس الاستراتيجي بين الدول هو اليوم الشاغل الرئيسي للأمن القومي الأمريكي، وليس الإرهاب". ولكن مع بدء إدارة بايدن في تنفيذ قرارها بسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان، أثبتت ترجمة هذه الأفكار على أرض الواقع أنها هدف بعيد المنال.
ما زال هناك مزيج من العوامل الشخصية، والجماعية، والمجتمعية، والاجتماعية- السياسية، والأيديولوجية المستمرة في توليد التطرف وحشد الناس للعنف
رغم كل الجهود الأمريكية في مكافحة الإرهاب، فما زال هناك مزيج من العوامل الشخصية، والجماعية، والمجتمعية، والاجتماعية- السياسية، والأيديولوجية المستمرة في توليد التطرف وحشد الناس للعنف. وحسب راسل ترافرز؛ فهناك اليوم ما يقرب من أربعة أضعاف عدد الأفراد المتطرفين الذي كان في 11 أيلول/ سبتمبر، كما أن قاعدة البيانات الأمريكية للإرهابيين المعروفين أو المشتبه بهم قد نمت بمعدل عشرين مرة منذ ذلك الحين. ومع ازدياد عدد السكان المتطرفين، ستنخفض قدرة الولايات المتحدة على تحديد الإرهابيين والقبض عليهم وقتلهم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الهجرة من أفريقيا، التي تعود جزئياً إلى الاحتباس الحراري، تُولّد التطرف في صفوف العناصر من أقصى اليمين ضد اللاجئين وطالبي اللجوء في أوروبا.
ويتطلب ازدهار المجتمع الراديكالي بذل جهود قوية لمنع الإرهاب، والحقيقة هي أن هناك عقوداً من الاستثمار للتصدي لتهديد حاد يمكن أن يأتي، بمرور الوقت، على حساب الاستثمار في مواجهة
تهديدات أخرى بنفس القدر من الإلحاح. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، قال القائم بأعمال "مدير المركز الوطني لمكافحة الإرهاب" في الولايات المتحدة، راسل إي ترافرز: "لن نقضي على الإرهاب قط، ولكن تم إنجاز قدر هائل من الأعمال المهمة، مما يسهل إجراء محادثة حول المخاطر المقارنة".
الولايات المتحدة بدأت إعادة النظر في مسألة حرب الإرهاب، والعودة إلى الحيوسياسة المرتكزة إلى التنافس العالمي مع دول أمثال الصين، والانسحاب من حرب الإرهاب لإعادة التوازن الاستراتيجيي نحو آسيا المحيط الهادي، التي بدأت مع الرئيس أوباما وتواصلت مع ترامب وتترسخ مع بايدن
ومع ذلك، بعد قرابة عقدين من الزمن، ورغم كل ما ينبغي أن نفخر به بحق، حسب الجنرال مايكل ك. ناغاتا، فقد "حان الوقت لنسأل أنفسنا بعض الأسئلة الصعبة ولكن الضرورية: على الرغم من القدرات التي قمنا بتطويرها والتقدم الذي حققناه، لماذا أصبح الإرهاب اليوم أكثر انتشاراً وتعقيداً مما كان عليه حين بدأنا؟ لماذا أثبت الإرهاب أنه قادر على الصمود والتكيّف بالرغم من نجاحاتنا ورغم الضغط والقوة المتواصلين اللذين نستخدمهما نحن والعالم للوقوف في وجهه؟ إنّ التقييم المنبّه والمستمد من "قاعدة بيانات الإرهاب العالمية" التي جمعها برنامج "ستارت" التابع لـ"جامعة ماريلاند" هو خير مثال عن أن الاتجاهات الأساسية للإرهاب بالرغم من جهودنا الكثيفة، أصبحت مثيرة جداً للقلق. فمنذ عام 2010، ازداد عدد الوفيات المرتبط بالإرهاب في جميع أنحاء العالم بنسبة تزيد على 300 في المائة، كما ازداد عدد الهجمات الإرهابية مع ما يقترن بها من ضحايا بحوالي 200 في المائة. وبمعزل عن ذلك، هنا في الولايات المتحدة، تجري السلطات الفيدرالية المعنية بإنفاذ القانون حوالي ألف عملية تحقيق متصلة بالإرهاب في مجتمعاتنا المحلية في جميع الولايات الخمسين".
خلاصة القول أن الولايات المتحدة بدأت إعادة النظر في مسألة حرب الإرهاب، والعودة إلى الحيوسياسة المرتكزة إلى التنافس العالمي مع دول أمثال الصين، والانسحاب من حرب الإرهاب لإعادة التوازن الاستراتيجيي نحو آسيا المحيط الهادي، التي بدأت مع الرئيس أوباما وتواصلت مع ترامب وتترسخ مع بايدن. وهي حقبة تشي بنهاية نشوة النصر على الاتحاد السوفييتي وتعاظم الشعور بالذات الأمريكية الإمبراطورية الذي دفع بالأحلام والمخيلة الجيوسياسة لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش لفرض سلام أمريكا أولاً في الشرق الأوسط الكبير؛ ومن ثم جعله عبرة لبقية دول العالم عبر مداخل حرب الإرهاب التي بدأت بغزو أفغانستان ثم العراق، وعلى وشك أن تنتهي بالانسحاب من هناك ومن غيرها من المناطق.
لكن مع نهاية الحروب الأمريكية الأبدية على الإرهاب، فإن ما يسمى الإرهاب أصبح أكثر قوة وأوسع انتشاراً، وأصبحت أهدافه أشد براغماتية بالسيطرة والحكم المحلي.
twitter.com/hasanabuhanya